

لم تكتف جماعة الإخوان المسلمين بطرح نفسها كحركة إصلاحية أخلاقية، بل قدّمت رؤية شمولية للإسلام باعتباره نظامًا متكاملًا يشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع. لكن هذه الرؤية التي بدت واعدة، اصطدمت بسرعة بواقع الدولة الحديثة الذي يقوم على الفصل بين السلطات والتخصص المؤسسي، ما جعل مشروعها عرضة للتناقضات منذ البداية (Wickham, 2013).
تجسدت هذه التناقضات في الازدواجية بين العمل الدعوي العلني والنشاط السري الذي جسده “الجهاز الخاص”، وهو جناح عسكري–أمني ظهر لحماية الحركة وممارسة الضغط على الدولة. هذه البنية المزدوجة منحت الجماعة صورة غامضة، فبدت للناس كحركة خيرية وإصلاحية، وللدولة كتنظيم يهدد استقرارها. ومع توسع الحركة، تكرّس هذا الغموض ليتحول إلى مأزق هيكلي يلازم الإخوان في كل تجاربهم لاحقًا (Kepel, 1991).
في مصر، تحوّل الصراع مع الدولة إلى سمة ملازمة للجماعة. فبعد سنوات من التوتر مع الملكية، وصل الصدام إلى ذروته في عهد جمال عبد الناصر، خصوصًا بعد محاولة اغتياله عام 1954. تبع ذلك حملة قمع واسعة انتهت بإعدام سيد قطب؛ الرجل الذي ستصبح كتاباته لاحقًا مرجعًا فكريًا ألهم الحركات الجهادية العالمية. ففي كتابه “معالم في الطريق”، صاغ قطب فكرة “الجاهلية المعاصرة” وضرورة المواجهة مع الأنظمة القائمة، وهو ما أخرج خطاب الإخوان من الإصلاح التدريجي إلى التصعيد الثوري (Qutb, 1964/2006). هذه المرحلة رسّخت في المخيال العام صورة الإخوان كحركة مرتبطة بالعنف، حتى عندما حاولوا لاحقًا تقديم أنفسهم كقوة سلمية.
مع عهد أنور السادات، أعادت الجماعة ترتيب أوراقها، فانتقلت من المواجهة المباشرة إلى بناء نفوذ اجتماعي واسع عبر المدارس والجامعات والنقابات. هذا التمدد الشعبي رسّخ حضورها في المجتمع المصري، لكنه لم يُزِل التناقض الكامن في مشروعها، إذ ظلت تعلن التمسك بشعار “الإسلام هو الحل” من دون أن تطرح نموذجًا عمليًا لإدارة الدولة.
وفي عهد حسني مبارك، واصلت الجماعة حضورها في البرلمان ضمن حدود رسمتها لها الدولة، لكنها بقيت قوة معارضة منظمة أكثر من كونها تُمثّل مشروعًا سياسيًا جاهزًا للحكم (Brown, 2012).
شكل الربيع العربي لحظة اختبار تاريخية. ففي العام 2011، فاز الإخوان المسلمون بأغلبية برلمانية في مصر، ثم وصل محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية عام 2012. بدا أن الجماعة أخيرًا على وشك تحويل مشروعها إلى واقع. لكن التجربة لم تصمد أكثر من عام واحد، إذ واجهت الجماعة أزمات متتالية: ضعف خبرة قيادتها في إدارة الدولة؛ الصدام مع مؤسسات الجيش والقضاء والأمن؛ العجز عن مواجهة التحديات الاقتصادية؛ والانقسامات الداخلية التي عمّقت مأزقها.
ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، أطاح الجيش المصري بمحمد مرسي في تموز/يوليو 2013، منهياً تجربة قصيرة أكدت أن التنظيم الصارم والقاعدة الشعبية الواسعة لا تكفيان وحدهما لصناعة حكم مستدام (Carney, 2015).
تجربة مصر ليست معزولة، بل تتقاطع مع مسارات الإخوان المسلمين في دول عربية أخرى. ففي الأردن، اتسمت علاقة الجماعة بالنظام الملكي بقدر من التوازن. فقد شاركت في الانتخابات والنقابات وبنت نفوذًا اجتماعيًا واسعًا، لكن النظام أبقى سقف مشاركة الإخوان محكومًا بالخطوط الحمر التي رسمها لهم. سمحت هذه الصيغة لهم بالوجود، لكن في الوقت نفسه منعتهم من تطوير مشروع سياسي شامل، فظلوا قوة معارضة منظمة من دون أن يتمكنوا من بلوغ عتبة الحكم (Brynen, 2010).
أما في سوريا، فقد أخذ الصراع منحى أكثر مأساوية. فقد اصطدم الإخوان بالنظام البعثي منذ ستينيات القرن الماضي، وتحوّل الخلاف إلى مواجهة مسلحة انتهت بمجزرة حماة سنة 1982 التي دمّرت البنية التنظيمية للجماعة وأخرجتها من المشهد الداخلي لسنوات طويلة. هذه التجربة جسّدت مأزق الإخوان حين يجدون أنفسهم أمام نظام استبدادي مغلق: الميل إلى المواجهة المسلحة، وما يستتبعه ذلك من قمع دموي يقضي على الحركة ذاتها (Cole, 2008).
في لبنان، بدا حضور الإخوان أكثر تواضعًا، إذ انحصر في العمل الدعوي والخيري في ظل نظام طائفي معقد يمنع بناء قاعدة سياسية عابرة للطوائف. هذه المحدودية لم تكن ضعفًا تنظيميًا بقدر ما كانت انعكاسًا لبنية سياسية لا تسمح لمشروع شمولي أن يتجذر خارج الانتماءات المذهبية الضيقة (طرابلسي، 2018).
أما في السودان، فقد نجح الإسلاميون المرتبطون بالإخوان في الوصول إلى الحكم عبر تحالفهم مع عمر البشير، لكن تجربتهم تحولت إلى نموذج صارخ لفشل المشروع الإخواني في إدارة الدولة. إذ انكشفت محدوديتهم أمام أزمات الاقتصاد والسياسة، وتفاقمت انقساماتهم الداخلية حتى سقط النظام برمته عام 2019، في إشارة إلى أن السلطة لم تكن سوى مسرحًا لإبراز عمق الأزمة البنيوية للحركة الإسلامية هناك (El-Affendi, 1991).
وفي فلسطين، جسدت حركة حماس الوجه الأكثر تعقيدًا للتجربة الإخوانية. فمن جهة، حملت مشروع المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن جهة أخرى اضطرت إلى إدارة قطاع غزة بعد 2007، ما فرض عليها تحديات الحكم اليومي. هذا التناقض بين الأيديولوجيا والواقعية السياسية دفعها إلى تحالفات إقليمية متقلبة، من بينها علاقتها المعقدة مع إيران. وهكذا أصبحت حماس نموذجًا مكثفًا لمعاناة الإخوان بين الالتزام بالشعار العقائدي والاضطرار إلى التكيّف البراغماتي مع الظروف السياسية والاقتصادية (Gunning, 2011).
في هذا السياق، يبرز دائمًا النموذج التركي ممثلًا بحزب العدالة والتنمية الذي حقق نجاحًا نسبيًا في الدمج بين الهوية الإسلامية والحكم الديموقراطي. لكن هذا النجاح لا يعود إلى الأيديولوجيا الإسلامية بقدر ما يعود إلى قوة مؤسسات الدولة التركية وصلابة اقتصادها ومرونة الحزب في تبني خطاب براغماتي يركز على الإصلاح والتنمية بدلًا من الشعارات العقائدية. لذلك يظل هذا النموذج استثناءً يصعب تكراره في البيئات العربية التي تعاني من ضعف المؤسسات والانقسامات الطائفية والصراعات السياسية الحادة (Yavuz, 2003).
عطب الفكرة
عطب الفكرة لا يقتصر على تناقض بلاغي داخلي؛ إنه أزمة نظرية ومنهجية في جوهر الطرح الإخواني عن “الإسلام كنظام شامل”. تلك الشمولية تفترض قدرةً على الجمع بين مصدر شرعي واحد (النص الديني) وبين تعددية وظائف الدولة الحديثة — التشريع والتنفيذ والقضاء والإدارة الاقتصادية والاجتماعية — من دون أن تقدّم آليات دستورية أو مؤسساتية واضحة للفصل والتوزيع والتقويم. هكذا يتحول الطرح النظري بسرعة إلى مشكلة عملية عند محاولة الحكم. كما أن المطالبة بـ”حاكمية الله” بوصفها مبدأ أساسيًا تثير سؤال السيادة: هل السيادة إلهية مطلقة تُترجم تلقائيًا إلى مؤسسات جاهزة، أم يجب أن تُستثمر ضمن آليات دستورية تعترف بالتمثيل الشعبي والحقوق الفردية والجماعية؟ هذا السؤال، كما توضح الدراسات الحديثة، يكشف انفصامًا بين مشروع أخلاقي–دعوي لا يتطلب إعادة بناء الدولة، وبين مشروع حكم يتطلب خبرة تقنية وسياسات عامة قابلة للقياس والتقويم (Wickham, 2013).
إلى جانب ذلك، فإن ثقافة التنظيم العمودي وسرية الأجهزة الخاصة تؤدي إلى غياب الشفافية والحوكمة الرشيدة، ما يجعل من الصعب تحويل خطاب تعبوي واسع الانتشار إلى برنامج مدني عقلاني وقابل للمحاسبة (Kepel, 1991). كما أن الشمولية تتعثر أمام قضايا حساسة مثل حقوق الأقليات والمرأة والمجتمع المدني، إذ لا يكفي خطاب وحدوي لإدارة التعددية، بل يتطلب إطارًا قانونيًا وسياسيًا يوفر ضمانات فعلية. غياب هذه الآليات يُفقد المشروع الإخواني شرعيته العملية، حتى وإن احتفظ بجاذبيته الدعوية (Brown, 2012).
تزداد الأزمة تعقيدًا حين يُضاف إليها ضعف الكفاءة الإدارية والاقتصادية لقيادات الجماعة، وهو ما برز جليًا في فترة حكم مرسي. فبينما قدّمت الجماعة وعودًا واسعة، افتقرت إلى أدوات تنفيذية قادرة على تحويلها إلى سياسات قابلة للنجاح والتقييم، فلجأت أحيانًا إلى تحالفات متناقضة مع قوى سياسية أو إقليمية أضعفت من مصداقيتها. ومع الضغوط الداخلية والخارجية، انقسمت الساحة الإخوانية بين تيارات براغماتية تسعى للتكيف، وأخرى أصولية ترى في الصدام السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية، وهو ما يجعل الفكرة بدل أن تكون إطارًا للتجديد المؤسسي، وقودًا لإعادة إنتاج الأزمات ذاتها (Carney, 2015; Qutb, 1964/2006).
في المحصلة، يمكن القول إن أزمة الإخوان المسلمين مركبة. عطب في الفكرة التي لا تنسجم مع متطلبات الدولة الحديثة، وأزمة في الممارسة التي اتسمت بالسرية، واستخدام العنف في لحظات معينة، وفشل إداري حين سنحت لهم فرصة الحكم. بعد قرن على تأسيسهم، ما زالوا قوة دعوية واجتماعية مؤثرة، لكنهم لم ينجحوا في التحول إلى مشروع سياسي مستدام. وإذا كان النموذج التركي قدّم إلهامًا بقدرة الإسلاميين على الحكم، فإن التجارب العربية تؤكد أن الإخوان يواجهون مأزقًا بنيويًا يجعلهم عالقين في حلقة من الدعوة والتنظيم من دون الوصول إلى إدارة الدولة.