“فورين أفيرز”: “العصر الذهبي” للمنظمات غير الحكومية ينطوي.. ما الأساب؟

شهدت تسعينيّات القرن الماضي ذروة النّفوذ العالميّ للمنظمات غير الحكوميّة (NGOs)، حيث نمت أعدادها وميزانيّاتها بشكلٍ غير مسبوقٍ في ظلّ رؤيةٍ متفائلةٍ لمجتمعٍ مدنيٍّ عالميٍّ قادرٍ على قيادة التّقدّم في قضايا حقوق الإنسان والبيئة. مثّلت منظمات كبرى مثل "أوكسفام" و"منظمة العفو الدوليّة" و"الشفافيّة الدوليّة" قوىً فاعلةً نجحت في حشد الرأي العام والتأثير في سياسات الدّول، بل والإسهام في صياغة معاهداتٍ دوليّةٍ مهمّة كـ "اتفاقية حظر الألغام المضادّة للأفراد" و"اتفاقيّة الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد".

بلغ هذا التّفاؤل ذروته بتنبؤات كوفي عنان بأنّ القرن الحادي والعشرين سيكون “قرن المنظمّات غير الحكوميّة”، وتحليلات جيسيكا ماثيوز حول التحوّل الجذريّ في موازين القوى لصالح هذه المنظّمات على حساب الدّول. إلا أنّ المشهد الحاليّ يشهد تراجعاً كبيراً، حيث حلّ “عصرٌ رماديٌّ” محلّ ذلك العصر الذهبيّ، مع تآكل الشرعيّة، وتقلّص الموارد، وتصاعد القمع الحكوميّ المنظّم، ممّا أدى ليس فقط إلى فقدان هذه المنظّمات لنفوذها، بل أيضاً إلى عودة الدّولة كفاعلٍ مركزيٍّ في المشهد العالميّ، كنتيجةٍ مترابطةٍ لأزمة الشرعيّة الدّاخليّة، والقمع الحكوميّ، والجفاف الماليّ المتعمّد.

أزمة الشرعية – التآكل من الداخل

كانت القوة الأخلاقيّة للمنظّمات غير الحكوميّة هي رأس مالها الأساسيّ. تميّزت بادّعاء النّزاهة والاستقلاليّة والالتزام بالمصلحة العامّة، ما منحها شرعيّةً تفوق شرعيّة الحكومات والشّركات في أعين الكثيرين، بدأت هذه الصّورة في التصدّع بسبب مجموعةٍ من العوامل الدّاخليّة والخارجيّة منها:

  • ثقافة التّنافس السلبيّ، إذ أدّى النموّ الهائل في عدد المنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة (بنسبة 42% بين 1990 و2000) إلى فضاءٍ مزدحمٍ ومتنافسٍ بشدّةٍ على الموارد المحدودة. هذا أدّى إلى تحويل الأولويّات من “تحقيق المهمّة” إلى “البقاء على قيد الحياة”. يصف موظفو الإغاثة في حالات الكوارث كيف تتحوّل الاستجابة للطوارئ إلى ساحةٍ تنافسيّة، حيث تسارع المنظّمات لتأمين التمويل وجذب اهتمام وسائل الإعلام، غالبًا على حساب التّنسيق الفعّال وربما على حساب الضحايا أنفسهم. هذه الديناميكيّة خلقت انطباعًا بأنّ هذه المنظّمات أصبحت تشبه الشّركات الربحيّة، تهتمّ بالعلامة التجاريّة والتّسويق أكثر من اهتمامها بالتأثير الحقيقيّ.
  • فضائح سوء السّلوك التي وجّهت ضربةً قاصمةً للثقة العامّة. لم تكن فضيحة “أوكسفام” في هايتي عام 2018 (والتي أدّت إلى حرمانها من التّمويل البريطانيّ) مجرّد حادثةٍ معزولة، بل كانت جزءًا من نمطٍ مزعجٍ شمل منظماتٍ كبرى مثل “بلان إنترناشونال” و”الصليب الأحمر الدوليّ”. هذه الفضائح، التي شملت الاستغلال الجنسيّ للفئات الضّعيفة التي من المفترض أن يتمّ حمايتها، لم تدمّر سمعة المنظمات المتورّطة فحسب، بل لوثت سمعة القطاع بأكمله. قدّمت للحكومات والنقّاد الذّخيرة التي يحتاجونها للتّشكيك في النوايا والأخلاقيّات الأساسيّة للمنظّمات غير الحكوميّة.
  • أزمة المساءلة الحقيقية، إذ وُجّهت انتقاداتٌ أساسيّةٌ حول من يُسائِل هذه المنظّمات في النهاية؟ يبدو أنّ جواب الكثير منها كان يُحيلها إلى المانحين الغربيين. فشلت محاولات الإصلاح الداخليّة الطّموحة، مثل مبادرات “التوطين” التي هدفت إلى نقل سلطة اتّخاذ القرار والموارد إلى الشّركاء المحليين في الجنوب العالميّ، في تحقيق تحوّلٍ جذريّ. ظلّت مركزيّة صنع القرار والموارد في المقرّات الرئيسية في لندن ونيويورك وجنيف.. هذا الفشل في أن تصبح مسؤولة أمام المجتمعات التي تخدمها بشكل حقيقيّ جعلها تبدو كوكلاء لقيمٍ غربيّةٍ خارجيّةٍ أكثر من كونها تجسيدًا للمجتمع المدنيّ المحلّيّ.

كانت نتيجة هذا التآكل الدّاخليّ تراجعًا حادًا في الثقة. في عام 2021، سجّلت استطلاعات “إيدلمان” للثقة عبر 28 دولة لحظةً تاريخيّةً: لأوّل مرة، أبلغ المستجيبون عن ثقتهم في الشركات أكثر من ثقتهم في المنظّمات غير الحكوميّة. وبحلول عام 2025، أصبح يُنظر إلى الشركات على أنها تتمتّع بنفس القدر من الأخلاق تقريبًا، ولكنها أكثر كفاءة. لقد خسرت المنظمات غير الحكومية امتيازها الأخلاقيّ، وهو أساس قوّتها.

القمع الحكوميّ والهجوم المنظّم

إذا كانت أزمة الشرعيّة هي الضّعف الدّاخليّ، فإنّ القمع الحكوميّ المنظّم كان الهجوم الخارجيّ القاتل. لم تكن الحكومات، وبخاصةً الاستبداديّة منها، سلبيّةً فقط أمام صعود هذه الفاعلة غير الحكوميّة، بل أعدّت العدّة لتقويضها، مستفيدةً من بيئةٍ دوليّةٍ أصبحت فيها الديموقراطيّة نفسها في تراجع. فسنّت التّشريعات المقيّدة في دولٍ مثل روسيا، والمجر، وقيرغيزستان، وجورجيا، والهند، وإثيوبيا، وغيرها وأُرْدِفَ بنموذج العملاء الأجانب. وأرهقت منظمات المجتمع المدني بالمتطلبات الإداريّة والمالية المرهقة مرفقًة بوصمة عار محلّيّة تقوض مصداقية المنظمات وعمالتها للغرب. ولجأت أيضًا إلى القمع المستهدف والانتقائيّ، فالقمع لم يكن عشوائيًا، ركّزت الحكومات على قمع المنظّمات العاملة في مجالاتٍ حسّاسةٍ تمسّ جوهر سيطرتها، مثل منظمات حقوق الإنسان، والديموقراطية، والبيئة، ومكافحة الفساد.

كما طوّرت الحكومات تكتيكًا أكثر خبثًا ودهاءً يتمثل في إنشاء منظماتٍ غير حكوميّة مواليةٍ لها (Government-Organized Non-Governmental Organizations).  تظهر هذه الكيانات كمنظّمات مجتمعٍ مدنيٍّ مستقلّة، لكنها في الواقع تروّج لأجندة الحكومات. فهي تراقب الانتخابات المزوّرة (كما حدث في أذربيجان وزيمبابوي) وتصادق على نزاهتها، ممّا يخلق “حقائق بديلة” ويقوّض تقارير المراقبين المستقلّين مثل “مركز كارتر”. وهي تقدّم تقارير مزيّفة تمدح سجل حقوق الإنسان لبلدانها خلال الاستعراض الدّوريّ الشامل في الأمم المتحدة. هذه المنظمات تشوّه صورة المجتمع المدنيّ الحقيقيّ، وتشكّل ضبابيّةً من المعلومات للجمهور الدوليّ، وتساهم بشكلٍ فعّال في تآكل شرعية مفهوم المنظمات غير الحكوميّة نفسه.

وسهّلت صعود القوى غير الليبرالية، وبخاصّةً الصين وروسيا، هذا القمع. فالصّين، عبر مبادرة “الحزام والطّريق”، تقدم نموذجًا بديلاً للمساعدة الإنمائيّة لا يشترط إصلاحاتٍ ديموقراطيةً أو احترامًا لحقوق الإنسان ولا يتضمّن منظماتٍ غير حكوميّةٍ مستقلّة. الدّراسات أكدّت أنّ الدّول التي تعزّز علاقاتها التّجاريّة مع الصّين على حساب الغرب تكون أكثر ميلاً لقمع المنظّمات غير الحكوميّة، لأنّ بكين لا تفرض شروطًا سياسية. وبالمثل عملت روسيا بنشاطٍ على تقويض شرعيّة مراقبي الانتخاب الغربيين ووصم دعم الدّيموقراطيّة بأنه انتهاك للسّيادة. لقد وجدت الحكومات القمعيّة داعمين أقوياء ومشروعين في النّظام الدّوليّ الجديد.

إقرأ على موقع 180  البحر الأحمر.. من نجدة المسيحيين إلى هجرة المسلمين إلى الحبشة (3)

الجفاف المالي – قطع شريان الحياة

شهدت المساعدات الإنمائيّة الرسميّة (ODA) من دول منظمة التعاون الاقتصاديّ والتنميّة (OECD) انخفاضًا كبيرًا، بأكثر من 7% في عام 2024. هذا الاتجاه لم يكن بقيادة ترامب فحسب، على الرغم من أن إدارته مثلت الذّروة بإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) بشكلٍ رسميٍّ ووصف مسؤوليها المنظمات غير الحكومية بأنّهم “الوحيدون الذين يعيشون بشكل جيّد”. بل كان اتجاهًا أوسع في أوروبا، فقد خفّضت ألمانيا (تحت قيادة ائتلاف يضم حزب الخضر) ميزانيّات المساعدات بشكلٍ حادّ. والمملكة المتّحدة وفرنسا، سارتا على نفس النهج، تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية الصعبة وعجز الميزانية. لقد انخفض الإجماع السياسيّ في الغرب حول قيمة المساعدات الخارجيّة بشكلٍ عام، وتلك المقدّمة عبر المنظمات غير الحكومية بشكل خاص.

لم يعد التّمويل الحكوميّ متاحًا بسخاء، والأهمّ من ذلك، تغيّرت النّبرة السّياسيّة المصاحبة له. فانتقل الخطاب من اعتبار المنظّمات غير الحكومية “مضاعفًا للقوة” (كما وصفها كولين باول وزير الخارجية الأميركي الأسبق) أي أنّها كانت مكمّلة لقوّة الدول الغربية وباتت جزءًا من “نخبةٍ عالميّةٍ فاسدةٍ” لا تهتم بالمحتاجين. وانتقادات سياسيين مثل الوزيرة الهولنديّة رينيت كليفر أو المستشار الألماني فريدريش ميرز (الذي شكّك في “حياد” المنظّمات المموّلة حكوميًا) أعطت غطاءً سياسيًا لعمليّات التّقشّف.

بالطبع، حاول القطاع الخاص والخيري التصدّي. وقّعت أكثر من 70 مؤسسة على تعهّد لـ”تلبية اللحظة” لتعويض تخفيضات ترامب. ولكن، في أحسن الأحوال، يمكن لهذه الجهود أن تخفّف من العبء فقط. ولا يمكن لرأس المال الخاص أن يحلّ محلّ الميزانيّات الحكوميّة الهائلة. علاوة على ذلك، فإن حالة عدم اليقين الاقتصاديّ العالميّ جعلت حتى المؤسّسات الخيريّة أكثر حذرًا في إنفاقها.

النّتيجة المباشرة هي تسريحٌ جماعيٌّ للموظّفين، وإغلاقٍ للبرامج، وتراجعٍ حادٍّ في قدرات الاستجابة للإغاثة في الكوارث وإدارة اللقاحات وحماية اللاجئين. ولكن النتيجة الاستراتيجيّة الأكثر خطورةً هي جعل المنظّمات غير الحكوميّة أكثر ضعفًا أمام ابتزاز الحكومات. من دون التّمويل الغربيّ المستقلّ، قد تضطر هذه المنظّمات للاختيار بين التّحوّل إلى مجرّد مقاولٍ خدميٍّ تنفّذ برامج الحكومة (مثل برامج التّعليم والتّخفيف من حدّة الفقر) وبين الإغلاق. لقد فقدت قدرتها على المناورة والاستقلاليّة.

عودة الدّولة وانحسار المدّ الليبراليّ

إنّ النّتيجة الحتميّة للقوى المتشابكة التي أدّت إلى تراجع نفوذ المنظّمات غير الحكوميّة هي نهاية “عصرها الذهبي” وعودة الدّولة القويّة ذات السّيادة غير المقيّدة كفاعلٍ مركزيٍّ ومسيطرٍ في المشهد العالميّ. هذا التحوّل العميق يمنح الاستبداد مكاسب كبيرة، إذ إنّ الحكومات التي نجحت في قمع هذه المنظمّات قد صفّت أهمّ آليات الرقابة المستقلّة، مما يعزّز قدرتها على التحكّم في المعلومات، وقمع المعارضة الدّاخلية، والقيام بأنشطةٍ فاسدةٍ أو مدمّرةٍ للبيئة دون رقابةٍ أو محاسبةٍ دوليّةٍ فعّالة. في المقابل، يمثل هذا التراجع خسارةً استراتيجيّةً للدّيموقراطيات، فبتخليها عن المنظّمات غير الحكوميّة التي كانت بمثابة أداةٍ أساسيّةٍ لنفوذها الناعم ونشر قيمها الليبرالية، تتنازل الولايات المتّحدة وأوروبا عن إحدى أهم أدوات سياستها الخارجيّة لصالح نماذج منافسة تقدّمها كل من روسيا والصين، وهي نماذج خاليةٌ من المجتمع المدنيّ المستقلّ.

في الختام، كان “العصر الذهبيّ” للمنظمات غير الحكوميّة نتاجًا فريدًا للحظةٍ تاريخيّةٍ وجيزةٍ بعد الحرب الباردة، اتّسمت بتفاؤلٍ ليبراليّ، ووفرة في الموارد، وغيابٍ نسبيٍّ لمنافسين جيوسياسيين كبار للغرب. لكنّ هذه اللحظة انتهت. ومع أنّ بعض الشّركات الواعية اجتماعيًا أو منصّات التّبرع المباشر قد تتمكن من ملء فراغ تقديم بعض الخدمات الإنسانيّة، إلا أنّ الدّور الأهمّ والأصيل لهذه المنظّمات- وهو الدّفاع عن الحقوق، ومراقبة السّلطة، ومنح صوتٍ للضّعفاء- سيظل شاغرا. لا يمكن لأيّ كيانٍ ربحيٍّ أن يحلّ محلّ هذه الوظيفة بشكلٍ كاملٍ دون تضارب مصالحٍ جوهريّ. إنّ تراجع نفوذ المنظّمات غير الحكوميّة اليوم يعيدنا إلى عالم أكثر قتامة، حيث تهيمن مصالح الدول القوميّة بلا منافس، وتتقلّص المساحات الدوليّة المستقلّة، مما يشكّل خسارةً فادحةً لكل من اعتمد على صوت هذه المنظّمات وخدماتها، ونذير شؤمٍ لمستقبل الحوكمة العالمية القائمة على القيم المشتركة والديموقراطيّة.

(*) ترجم هذا النص بتصرّف عن “فورين أفيرز“.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  جونسون "يدير" كورونا بمقود.. إلى اليمين!