

هذا الترقب تزامن مع معلومات توثّق تحركًا عسكريًا أميركيًا واسعًا نحو الشرق الأوسط، في مشهد يشبه إلى حدّ بعيد ما سبق قصف المنشآت النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان في يونيو/حزيران 2025.
ويقول جيفري ساكس، رئيس مركز الأبحاث في جامعة كولومبيا:
“إسرائيل كانت دائمًا تدفع الولايات المتحدة إلى الحرب مع إيران. الوضع متوتر جدًا، وقد استجابت الولايات المتحدة لإسرائيل قبل عدة أشهر لتقف معها في الحرب ضد إيران. لكن الحقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يضغط منذ أكثر من عقدين من الزمان لتغيير النظام في إيران”.
قبل عدة أسابيع، جدّد نتنياهو التعبير عن هذه الرغبة من على منصة الأمم المتحدة في نيويورك، وهو ما يزال يعمل عسكريًا وسياسيًا وأمنيًا من أجل استئناف الهجوم على إيران، لأن الحرب السابقة لم تستطع إسقاط النظام الأمر الذي يعتبره هدفًا استراتيجيًا له.. ولا أدري إن كان يريد تنفيذ المزيد من الاغتيالات أم شنّ حرب شاملة ضد إيران.
من الواضح أن الهجمات على إيران لم تنهِ قدراتها في امتلاك أسلحة نووية، لأن كميات اليورانيوم المخصب، بنسب مختلفة، ما تزال داخل إيران في أماكن غير معروفة، وأن الانتقال من البرنامج السلمي إلى البرنامج العسكري النووي لا يعتبر أمرًا شاقًا بالنسبة للإيرانيين، بل يحتاج إلى قرار من المرشد الأعلى.
هذا يعني أن إيران واقعةٌ الآن تحت ضغط هائل، فيما تمارس الولايات المتحدة دبلوماسية هشّة وغير جادّة في تعاملها مع الملف النووي. أما الأوروبيون، فقد خطوا خطوة لإعادة عقوبات سابقة (آلية الزناد) بدءًا من أول هذا الشهر، وهو الأمر الذي يضعه الإيرانيون في خانة التنمّر وليس في خانة الدبلوماسية الجادة، وبالتالي هم يعطون الضوء الأخضر لنتنياهو الذي يمكن أن يشنّ هجومًا أحاديًا على إيران حتى في حال استئناف المفاوضات الغربية مع طهران. ولن تُلام إسرائيل، بل ستنضمّ إليها الولايات المتحدة، ولن يمارس الأوروبيون ضغطًا على إسرائيل بل على إيران. “إنه عالم مجنون، لكن هذه هي الحقيقة”.
أمام هذه المقاربة، ما هي خيارات إيران في مواجهة هذا “الجنون” الذي عبّر عنه جيفري ساكس بأنه “الحقيقة”؟
طهران تعيش حالة اللاسلم واللاحرب، في سابقةٍ لا مثيل لها منذ انتهاء الحرب العراقية–الإيرانية عام 1988، وقد نجحت – كما تقول – في إعادة صياغة وترميم أوضاعها العسكرية والأمنية مستفيدة من ثغرات عدوان يونيو/حزيران، إضافة إلى حديثها عن قدرات صاروخية وجوية هائلة تستطيع أن تؤذي دول العدوان.
هذا الخيار المعلن الذي تجاهر به طهران هو حديث “فوق الطاولة”، وهناك الخيار السياسي الذي تتحدث عنه وزارة الخارجية، وهو أيضًا “فوق الطاولة”، علّها تنجح في إقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بهذا الخيار الذي يُعدّ – كما يقول وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي – أفضل الخيارات لإنهاء المسألة الإيرانية.
أما ما يجري “تحت الطاولة”، فله حديث آخر، تذهب إليه عديد الأوساط الداخلية، خصوصًا الراديكالية منها، ومعها أوساط محبة لإيران، تدعوها إلى انتهاج السبيل الآخر، لأن المفاوضات والخيارات السياسية “لا تُسمن ولا تُغني من جوع”.
وحتى الآن، ما زالت طهران ملتزمة بقرار القيادة الإيرانية بحرمة حيازة الأسلحة النووية، وأن هذه الأسلحة ليست موجودة في العقيدة العسكرية لطهران، كما أن الحكومة الإيرانية لا تريد الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، كما أن المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران برئاسة علي لاريجاني يعارض فكرة تغيير العقيدة النووية.
لكن ماذا لو نفّذ كيان الاحتلال تهديداته بالحرب على إيران مرة أخرى؟ وماذا لو ساعدته الولايات المتحدة؟ وماذا لو نجح الأميركيون والإسرائيليون في زعزعة الأوضاع الداخلية في إيران؟ هل تبقى إيران متفرجة؟ وهل سيبقى المتشددون، الذين يطالبون الآن بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، منصاعين لموقف المجلس الأعلى للأمن القومي؟
الاعتقاد السائد أن المواقف ستتغير، وأن التطورات لن تكون كسابقتها، وأن خطوة حيازة السلاح النووي ستخرج من “تحت الطاولة” لتكون “فوق الطاولة”. هكذا تتحدث الأوساط السياسية، وتحديدًا المتشددة، حيال المفاوضات مع الولايات المتحدة.
السؤال في هذه الحالة: كيف سيكون “اليوم الآخر”؟
بمعنى آخر، وبكل جرأة: ماذا لو استيقظ العالم ليرى اختبارًا نوويًا أجرته إيران؟
بطبيعة الحال، سيرقص الثوريون فرحًا داخل إيران وخارجها بهذا “الإنجاز”، لأنهم يعتبرون أن العدو لا يفهم إلا منطق القوة، وبهذا “الإنجاز” ستأتي الولايات المتحدة صاغرة للتفاوض مع إيران بندية.
لكن في المقابل، يرى آخرون أن ذلك لعب بالنار، ومجازفة غير محسوبة النتائج، وأن المجتمع الدولي الذي سكت عن كوريا الشمالية لن يسكت عن إيران التي تقع في الشرق الأوسط.
ويقول الخبير العسكري اللبناني العميد إلياس فرحات:
“مثل هذه الخطوة ستترافق مع استنكار شديد في أوروبا والولايات المتحدة، وقلق وعويل في إسرائيل، وسعي لاستعادة صورة الدولة الضعيفة المهددة، وتراجع انتقاد إسرائيل في المجتمعات الغربية، الأمر الذي سيدفع هذه الدول إلى دعوة مجلس الأمن الدولي للانعقاد وإدانة إيران على عدم مصداقيتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.
لكن، في المقابل، يضيف العميد فرحات: “تخلق هذه الخطوة توازن رعب مع إسرائيل، حيث تضع إيران في مرتبة متقدمة إقليميًا”.
وبطبيعة الحال، ستكون هناك تطورات كثيرة ترافق مثل هذه الخطوة، خصوصًا مع آلية “سناب باك” لإعادة وضع إيران تحت الفصل السابع، فيما ستدخل المسألة الإيرانية فضاءً جديدًا لا يمكن حسابه إلا الله والراسخون في العلم.
من المؤكد أن إسرائيل تريد دفع إيران إلى مثل هذه الخطة، لأنها تعتقد أن الولايات المتحدة ستحارب النظام الإيراني وتسقطه نيابة عنها. لكن، هل واشنطن مقتنعة بهذا الحل، إيرانيًا وإسرائيليًا على حدّ سواء؟ وهل تعتقد الولايات المتحدة أن مثل هذه الحرب هي حربها، أم أنها ابتزاز واستدراج لها على حساب مصالحها في المنطقة؟ وهل ما قبل قصف الدوحة مثل ما بعده؟