

ما زالَ هذا المفهوم الأرسطي قائماً إلى اليوم لكنْ تعدَّدتِ النظريَّاتُ فيه، ولا سيّما عند التفكيرِ في العلاقةِ بين السيادةِ والهُويّة وكيفيّةِ ممارسةِ السلطة. هنا بالضبطِ تقعُ الخلافات والتناقضات. وتُطرَحُ في هذه الحالةِ أسئلةٌ كبيرةٌ وخطيرةٌ، ونحن في لبنانَ مَعنيُّونَ بها:
-هل يُمكنُ الفصلُ بين السيادةِ والهويةِ الوطنية؟
-هل يُمكنُ للسيادةِ أنْ تتحقَّقَ في ظلِّ الخلافِ اللبناني – اللبناني حولَ مفهومِ الوطن؟
-هل يمكنُ للسيادةِ أنْ تتبلوَرَ في كنَفِ نظامِ الطائفيّةِ السياسية؟
-هل يُمكنُ للسيادةِ أنْ تكونَ مفهوماً رجراجاً تنظرُ إليهِ القوى الطائفيّةُ – الطبقيةُ النافذةُ وفقاً لمصالِحِها في كلِّ مرحلةٍ؟
-هل تتجسَّدُ السيادةُ بسلطةٍ بلا دولةٍ جامعةٍ على أساسِ المواطنيّةِ؟
نصوصُ الدستورِ اللبناني لم تأخذْ في الحُسْبانِ هذه الأسئلة. وكان ذلك متَعَمَّداً. وظلَّ على هذا النحوِ من دستور العام 1926 حتى دستور الطائف عام 1989. نصَّ الأخير على أنَّ هويّةَ لبنانَ عربيةٌ غير أنَّ هذا النصَّ لم يوحِّدِ بين اللبنانيين. بقي قسمٌ كبيرٌ منهم ينظرُ إلى السيادةِ خارجَ الهويّةِ العربيةِ والوطنيّة؛ ما يعني أنَّ القانونَ لم يتحوَّلْ إلى سياسةٍ بلْ إنَّ السياسةَ هي التي كسرتِ القانون. لقد ساعدَ الوضعُ العربيُّ الرسميُّ المتخاذلُ على ذلك، وبات من يتحدَّثُ اليومَ عنِ الهويّةِ الوطنيةِ العربيةِ مثل مَنْ يُخزِّنُ الماءَ في الغِربال.
هذا الفصلُ بين السيادةِ والهُويّةِ الوطنيّةِ خطيرٌ جدّاً.. ويُحوِّلُ مفهوم السيادة من عاملِ جمْعٍ إلى عاملِ تقسيم. وينسِفُ أحدَ أهمِّ أسسِ اتفاقِ الطائف الذي ربط السيادةَ بالهُويّةِ الوطنيّة العربيّة. ويُقفِلُ البابَ في هذه المرحلةِ أمام أيِّ فرصةٍ للتحوُّلِ من الطائفيّةِ إلى المُواطنيّة التي تجعلُ أبناءَ لبنان يشعرونَ بأنَّهم أبناءُ وطنٍ لا أبناءُ مناطقَ وطوائفَ
بالرَّغمِ من ذلك فإنَّ مسألةَ السيادةِ والهُويَّةِ هي مسألةٌ تاريخيّةٌ لا تقبلُ المزاجيّةَ الطائفيَّةَ لليمينِ اللبناني. لا يُريدُ هذا اليمينُ الطائفيُّ، أنْ ينتقلَ لبنانُ من حالةِ الكيانِ الذي بُنِيَ لمصلحةِ طائفةٍ معيَّنةٍ إلى حالةِ الوطنِ والدولةِ. يُريدُ أنْ يرفعَ شعارَ الدولةِ السيِّدةِ ويستبطنَ أمرينِ: إمَّا الكياناتُ الداخليّة ُالطائفيّةُ المستقِلّة، وإمَّا سيطرةُ طائفةٍ بعينِها على الدولةِ تحتَ وهْمِ أنَّها الطائفة ُالأمُّ التي خسِرتْ امتيازاتِها بعد اتفاقِ الطائف، حتَّى لو أدَّى ذلك إلى زوالِ لبنانَ الواحدِ. وهذا كلُّهُ يُفسِّرُ أسبابَ مواقفِ اليمينِ الطائفي، وعلى رأسِهِ “القواتُ اللبنانيةُ” التي تنظرُِ إلى العدوِّ الإسرائيلي على أنَّه ليس عدوَّاً، وترى في نفسِها “وريثاً شرعيّاً” لفكر المارونيَّة السياسية. ومن هنا لا ترى في اِحتلالِ الكيانِ الإسرائيليّ ِأراضٍ جنوبية انتهاكاً للسيادةِ، ولا تصَنِّفُ خرقََ أجواءِ لبنانَ يوميَّاً، والاعتداءاتِ على القرى الحدوديَّةِ، واغتيالِ المقاومينَ طعناً في قلبِ السيادة.
وإذا كانت “القوات اللبنانية” هي رأسُ الحربةِ الآنَ، فإنَّها ليستْ وحدَها. هناك من يشاركُها الرأيَ لدى فئاتٍ من المسيحيين والمسلمين، لكنَّها هي الأكثرُ تطرُّفاً كونُها تتصرَّفُ اِنطلاقاً من نظرتِها إلى نفسِها كحارسةَ للمارونيّةِ السياسيّة، وساعيةً إلى إيجادِ مارونيَّاتٍ موازية لدى الآخرين. وهنا بالضبطِ تتضحُ أكثرَ فأكثرَ معالمُ الكارثةِ الداخليّةِ التي يريدُها لنا العدوُّ الإسرائيلي والأميركيُّون وعددٌ من الدولِ العربية ولا سيَّما في الخليج. خطَّطوا وما زالوا يخطِّطونَ للترويجِ بأنَّ أيَّ مقاومةٍ للاحتلالِ – سواء من حزبِ الله أو غيره – هي اعتداءٌ على السيادة، ورفعُوا شعارَ “حصرِ السلاحِ بيدِ الدولة” فيما هم يستبْطِنونَ فكرةَ نزعِ سلاحِِ المقاومة ومن ثَـمَّ دفعُ لبنانَ كليَّاً إلى التبعيّةِ للعدوِّ الإسرائيلي والولاياتِ المتحدة تحت رايةِ ما يُسمَّى بالسلام.
مثلُ هذه المواقفِ تعني لدى هؤلاءِ أنَّ السيادةَ هويّةٌ طائفيةٌ لا وطنية، وأنَّ الدستورَ الذي أبقى مفهومَ السيادةِ غامضاً يتخِذونَهُ ذريعةً للتملُّصِ من احترامِ الآخرِ الشريكِ في الوطن. لقد بلغَ التجنِّي على المقاومةِ قوَّةً وفكرةً حدودَ القولِ في أدبيَّاتِ هؤلاءِ السياديينَ: “إنَّ المقاومة في كلِّ مراحلِها هي التي جلَبَتِ الاحتلال”. وليس هناكَ موقفٌ أشدُّ مروقاً من ذلك؛ لأنَّه يعني في نظرِهِم أنَّ الجنوبَ ليس من لبنان بل هو منطقةٌ تخصُّ طائفةً بعينِها، ولهذا يتجاهلون عمداً أنَّ الاحتلال بدأ الاعتداءاتِ المنظَّمةَ منذ إنشاء الاستعمار الجديد الكيان الإسرائيلي، ويحاولون أنْ يُنكِروا أنَّ مدرستَهم السياسية هي التي تعاونت مع الوكالةِ اليهوديةِ في العشرينيَّاتِ والأربعينيَّاتِ من القرنِ الماضي وصولاً إلى منتصفِ الخمسينيَّاتِ حين بدأ التعاونُ المنظم بين هذه المدرسة والكيان الإسرائيلي. لقد روى ذلك “موشيه شاريت” وزيرُ الخارجيةِ الإسرائيلي الأسبق في مذكراته فأين سيذهبون بهذه الوثائق، وأينَ هو تاريخُ السيادة؟
هذا الفصلُ بين السيادةِ والهُويّةِ الوطنيّةِ خطيرٌ جدّاً. وله انعكاساتٌ كارثيَّةٌ على المجتمعِ الأهليّ في لبنان. ويُحوِّلُ مفهوم السيادة من عاملِ جمْعٍ- كما هي الحالُ في كثيرٍ من بلدانِ العالم- إلى عاملِ تقسيم. وينسِفُ أحدَ أهمِّ أسسِ اتفاقِ الطائف الذي ربط السيادةَ بالهُويّةِ الوطنيّة العربيّة. ويُقفِلُ البابَ في هذه المرحلةِ أمام أيِّ فرصةٍ للتحوُّلِ من الطائفيّةِ إلى المُواطنيّة التي تجعلُ أبناءَ لبنان يشعرونَ بأنَّهم أبناءُ وطنٍ لا أبناءُ مناطقَ وطوائفَ: شمال وجنوب وبقاع وجبلٍ وبيروت. وعندئذٍ فحسْبُ تتغيّرُ النظرةُ إلى العدوِّ الإسرائيلي ويعودُ إلى حقيقتِهِ عدوَّاً لكلِّ لبنانَ لا لطائفةٍ أو منطقةٍ من دونِ غيرِهما.
إنَّ مَن يُسمُّونَ أنفسَهم سياديينَ لبنانيينَ لم يتعلَّمُوا من تجاربِ الماضي القريبِ والبعيدِ، وما زالوا يبثُّونَ السمَّ الطائفي في مفهومِ السيادة. وهو أمرٌ يؤدِّي استمرارُه من دونِ مراجعةٍ نقديّةٍ إلى تحطيمِ عواملِ النهوضِ بالوحدةِ الوطنيَّةِ، وإلى إسقاطِ فكرةِ الدولةِ الجامعةِ، والإبقاءِ على سلطاتِ فيدراليةِ الطوائف. آخرُ الأمثلةِ البشعةِ كان ما أعلنَهُ المبعوثُ الأميركي “توم برَّاك؟ حين قالَ “إنَّ الولاياتِ المتحدة تدعم الجيش اللبناني ليقاتل حزب الله لا إسرائيل”. لم يرُدَّ عليه أحدٌ من “السياديين”. لماذا؟ نطرحُ سؤالَ المستنكِرِ لا المستفسِر، ونعرف الجواب. ولكن إلى متى؟