الجغرافيا كأداة حربٍ
في الفكر العسكريّ الإسرائيليّ، الجغرافيا ليست مجرّد تضاريس بل بنيةٌ ذهنيةٌ تُسْتَخْدَمُ في تشكيل الإدراك العام. منذ حرب تموز 2006، فشلت إسرائيل في فرض معادلة ردعٍ دائمةٍ على حزب الله. الردّ كان بنقل المواجهة إلى مستوًى رمزيٍّ، السّيطرة على النّقاط المرتفعة، إعادة احتلال أمتارٍ محدودةٍ، وربطها بخطوط مراقبةٍ إلكترونيةٍ وكاميراتٍ ذكيّةٍ. هذه النّقاط الصّغيرة تتحوّل في الخطاب الرسميّ الإسرائيليّ إلى “مناطق آمنةٍ”، وفي الوعي العام إلى حدودٍ جديدةٍ.
بهذا المعنى، إسرائيل لا توسّع مساحة سيطرتها الفعليّة، بل تعيد ترميز الفضاء، بحيث تُظْهِرُ نفسها قادرةً على التّحرّك بحريّةٍ في كلّ مكانٍ، دون أنْ تخوض حرباً شاملةً.
الأسطورة كغطاءٍ سياسيٍّ
يترافق التوسّع العسكريّ مع عودةٍ مكثّفةٍ للخطاب التّوراتيّ في الإعلام العبريّ. مستوطنون يطالبون بـ“استعادة قبور الأنبياء” في قرىً لبنانيّةٍ حدوديّةٍ مثل حولا ومحيبيب، وناشطون دينيّون يتحدّثون عن “آثارٍ يهوديّةٍ مفقودةٍ” شمال الجليل. في الظّاهر، هذا مجرّد انفعالٍ دينيٍّ؛ في العمق، هو مشروع استيطانٍ رمزيٍّ.
ولكن، فلننظر إلى الوراء قليلاً، هكذا بدأ الاستيطان في الضّفة الغربيّة: بحجّة الحنين الدينيّ، ثمّ بالمدرسة، ثم بالثكنة، فبالمستوطنة. فالخُرافة كما رأينا تسبق الجرّافة. ما يجري اليوم على الحدود اللبنانية – السورية هو محاولةٌ لإعادة إنتاج هذا النّموذج، حيث الأسطورة تبرّر التّمركز العسكريّ، وهذا بدوره يخلق لاحقاً “واقعاً تفاوضيّاً”.
ما يجري اليوم في الجنوب ليس حدثاً عابراً، ولا مجرّد جولةٍ عسكريّةٍ أخرى في سلسلة النّزاع الدّائم، بل هو جزءٌ من عمليّةٍ طويلةٍ ومركّبةٍ لإعادة تشكيل الحدود الرّمزية للمنطقة كلّها. فهناك صراعٌ خفيٌّ يتعدّى الجغرافيا والميدان، صراعٌ على المعنى والتصوّر، على من يحدّد مساحة الخوف ومجال الأمن، ومن يكتب سياسة الذّاكرة في العقول
وحدة الميدان الشمالي
الحدود بين لبنان وسوريا لم تعد موجودةً عمليّاً في الحسابات الإسرائيليّة. الضّربات الجوّيّة في الجنوب السّوري، خصوصاً في القنيطرة ودرعا، تتكامل مع العمليّات في مزارع شبعا والعرقوب. الخرائط العسكريّة التي تسرّبها الصّحافة العبرية تُظْهِرُ “مسرح عمليّاتٍ شماليٍّ موحّدٍ”. هذه النّظرة ليست طارئةً؛ هي استمرارٌ لما بدأته تل أبيب منذ الحرب السّورية، حين تعاملت مع الجبهة الشّمالية كمجالٍ واحدٍ يجب تطهيره من النّفوذ الإيرانيّ.
لكنّ الجديد أن هذا الرّبط لم يعد استراتيجيّاً فقط، بل جغرافيّاً ميدانيّا، أي أنّ إسرائيل تعمل على وصل النقاط التي تحتلّها في الجنوب اللّبنانيّ بالنّقاط التي تسيطر عليها في الجنوب السّوري عبر “ممرّات مراقبةٍ واستطلاعٍ”. هذا الرّبط، إنْ تحقّق جزئيّاً، سيكون سابقةً منذ انسحابها من لبنان عام 2000.
لبنان بين الإنهاك والاختبار
البلد المنهك اقتصادياًّ وسياسيّاً يجد نفسه اليوم أمام اختبارٍ وجوديٍّ جديدٍ. الجيش اللبنانيّ، برغم ما يبذله من جهودٍ لضبط الحدود، لا يمتلك القدرة اللوجستيّة ولا السّياسيّة لمنع إسرائيل من فرض واقعٍ ميدانيٍّ جديدٍ. المجتمع الدّوليّ يكتفي ببيانات “القلق” التي لا تُصْرَفُ على الأرض.
أمّا حزب الله، فاختار سياسة “كسب الوقت”، فهو يُعيدُ بناء قدراته العسكريّة بهدوءٍ، ويحافظ على توازن الرّدع بحدّه الأدنى. لكنّه يُدْرِكُ أيضاً أنّ أيّ مواجهةٍ واسعةٍ قد تُسْتَخْدَمُ لتبرير تسويةٍ جديدةٍ على حساب لبنان، على غرار ما حدث في غزّة. لذلك يلتزم الصّمت المشوب بالتّهديد وتراكم القدرات بلا ضجيج.
الحرب النّفسيّة كسلاحٍ
المناورات الإسرائيليّة، والتّسريبات عن أنفاقٍ وأسلحةٍ، ليست مجرّد تحذيراتٍ عسكريّةٍ. إنّها عمليةٌ هندسةٍ نفسيّةٍ تهدف إلى دفع اللّبنانيين نحو القبول بفكرة “المنطقة الآمنة” كحلٍ وقائيٍّ. فالحرب لا تدور في الميدان فقط، بل في الوعي الجماعيّ لإقناع خصمك أنه محاصر قبل أن تحاصره فعلاً؟
وتل أبيب تُدْرِكُ أنّ انهيار الدّولة اللّبنانيّة جعل المجتمع هشّاً، وأنّ الخوف من الحرب يمكن أنْ يتحوّل إلى أداةٍ تفاوضيّةٍ. لهذا، تصعّد إعلاميّاً وميدانيّاً، مستفيدةً من حالة الانقسام الدّاخلي اللّبنانيّ بين من يرى في سلاح حزب الله عبئاً، ومن يعتبره ضمانةً، ويُصبح صوت المسيرات في سماء العاصمة أكثر تأثيراً من عصف القذائف والصواريخ.
واشنطن و“الضّبط تحت العتبة”
الولايات المتحدة، وبرغم حضورها العسكري في شرق المتوسط، لا تريد حرباً جديدةً. لكنّها تسمح لإسرائيل بأنْ تحافظ على منسوبٍ عالٍ من التّوتّر، شرط أنْ يبقى “تحت العتبة النّوويّة والسّياسيّة”. هذا التّوازن يخدم واشنطن في مفاوضاتها مع طهران ودمشق، ويُبقي لبنان منطقة اختبارٍ دائمةٍ.
في هذا السّياق، يبدو أنّ “الهدوء النسبيّ” ليس هدفاً بل وسيلةً للضّغط، فكلّما طالت مرحلة اللّاسلم واللّاحرب، ازداد تآكل الدّولة اللّبنانية، وازداد حضور إسرائيل في معادلة الأمن الإقليميّ.
الخرائط التي تُرسم بالمدفع
ما يجري اليوم في الجنوب ليس حدثاً عابراً، ولا مجرّد جولةٍ عسكريّةٍ أخرى في سلسلة النّزاع الدّائم، بل هو جزءٌ من عمليّةٍ طويلةٍ ومركّبةٍ لإعادة تشكيل الحدود الرّمزية للمنطقة كلّها. فهناك صراعٌ خفيٌّ يتعدّى الجغرافيا والميدان، صراعٌ على المعنى والتصوّر، على من يحدّد مساحة الخوف ومجال الأمن، ومن يكتب سياسة الذّاكرة في العقول.
إسرائيل في هذه اللّحظة لا تريد احتلال لبنان بالمعنى التّقليديّ، هي تُدْرِكُ أنّ احتلال الأرض مكلفةٌ لها، ما تريده هو أنْ تسيطر على خريطته النّفسيّة، على مقياس خوفه وثقته. تريد لبنان متخيّلاً، محدوداً بالذّعر، عاجزاً أمام قوّةٍ تتفوّق عليه في التّقنية والسّرعة والتّخطيط، تريد له أن يتردّد في ردّ الضربة، أن يتأمّل طويلا ويتردّد في الفعل، وان يخاف من الحرب أكثر ممّا تخافها هي.
لكنّ التّاريخ يذكّرنا أنّ الجغرافيا لا تستقرّ على القوّة وحدها. كلّ محاولةٍ لفرض حدودٍ بالنّار ولّدت لاحقاً حدوداً من الدم. وما يُرْسَمُ الآن على خرائط العسكريين قد لا يصمد أمام عناد الأرض والنّاس.
في النّهاية، المسألة لم تعد عسكريّةً فقط، بل صراعٌ على معنى المكان، على من يملكه، ومن يسمّيه. وفي هذا الصّراع، تبقى الحقيقة البسيطة أنّ الخرائط لا تُكْتَبُ في غرف القيادة، بل في ذاكرة الشعوب التي تعرف أنّ حدودها ليست خطوطاً على ورق، بل جذورٌ في التّراب.
