بالأمس، أضفى الرئيس الروسي مزيداً من الغموض على المستقبل الرئاسي، فاتحاً الباب، أكثر فأكثر، على مروحة واسعة من الخيارات المحتملة، والتي يُرجح ألا تتضح معالم الخيار النهائي منها، إلا في اللحظة الأخيرة للولاية الرئاسية الرابعة، أو ربما قبل ذلك بقليل.
بشكل مفاجئ، وإن كان يمكن الافتراض أنه كان مخططاً سلفاً، حضر فلاديمير بوتين إلى مقر الدوما. هناك كان الجدل محتدماً، قبيل التصويت على التعديلات الدستورية، لا سيما على اقتراحات غير متوقعة تقدّم بها بعض النواب.
أوّل تلك الاقتراحات، تمثل في طلب تقدّم به النائب ألكسندر كاريلين، بطل المصارعة الأولمية، لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة. حجة كاريلين تنطلق من أساس منطقي: “إذا تم اعتماد التعديلات الدستورية، فإنّ ذلك يعطينا (الدوما) سلطة كبيرة، ومن الواضح أن الرئيس يقترح زيادة دور الأحزاب لتعزيز دور شعبنا من خلال التمثيل في البرلمان. وبالتالي سيكون من الإنصاف إجراء انتخابات تمنحنا فرصة جديدة”.
سارعت الكتل البرلمانية للتعبير عن موقفها. زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي فلاديمير جيرينوفسكي أيّد الاقتراح، ودعا إلى إجراء انتخابات مبكرة في 20 أيلول/سبتمبر، وكذلك فعل رئيس “روسيا العادلة” سيرغي ميرونوف الطامح لتعزيز مقاعد حزبه في انتخابات جديدة، على نقيض زعيم “الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية” غينادي زيوغانوف، الذي دعا، مدفوعاً بالخشية على خسارة بعض مقاعده، إلى التريّث ليس في الانتخابات فحسب، ولكن في التعديلات الدستورية أيضاً.
رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين حسم الجدل، حين أفتى بأنّ الاقتراح الخاص بإجراء انتخابات مبكرة لمجلس الدوما يحتاج إلى دراسة متأنية، مفسحاً المجال أمام كاريلين لسحب التعديل من التداول… ولو إلى حين.
لكنّ الاقتراحات غير المتوقعة لم تتوقف، لا بل بلغت بيت القصيد، المتمثل بتعديل دستوري طرحته النائب فالنتينا تيريشكوفا، أول رائدة فضاء روسية، لإزالة القيود على عدد الفترات الرئاسية من الدستور، أو على الأقل السماح بإعادة انتخاب الرئيس مجدداً، وفقاً للدستور المحدث، أو بمعنى آخر “تصفير” ولايتيه السابقتين.
حيثيات اقتراح تيريشكوفا انطلقت من الخوف على مستقبل روسيا في ظل العقوبات والتقلبات الاقتصادية في العالم؛ المواجهة الجيوسياسية مع الغرب؛ وربطت ما سبق ببوتين نفسه: “لقد عقدنا لقاءات عديدة مع الناخبين على مدار الشهر ونصف الشهر الماضيين. في كل مكان كانوا يتحدثون عن المستقبل، وعمّن سيتولى مسؤولية البلاد. الاقتراحات كانت مختلفة، ولكن في الوقت نفسه، كان لديهم تحذير: لا بد أن يكون بوتين حاضراً، فإذا ما حدث خطأ ما يجب أن يكون قادراً على توفير الدعم والمساعدة والأمن”.
تلك الاقتراحات التي تحدثت عنها تيريشكوفا شكلت عنواناً أساسياً للجدل خلال الشهرين الماضيين، والمتصل بعملية انتقال السلطة في روسيا، ضمن هاجس أساسي يتصل بحماية الاستقرار الداخلي من جهة، ومواجهة التحديات الخارجية من جهة أخرى، وهو امر يتطلب، في الثقافة السياسية الروسية، ضمان وجود شخصية قيادية على رأس السلطة.
على هذا الأساس، اقترح البعض توسيع صلاحيات البرلمان، ومجلس الدولة، ومجلس الأمن القومي، والمحكمة الدستورية، ولكن النقاش استقر على أن كل هذه الافكار محفوفة بمخاطر في بلد مثل روسيا، تحتل فيه السلطة العمودية المستمدة من الرئيس مباشرة العنصر الأساس في حماية روسيا، داخلياً وخارجياً.
وبحسب ما نُشر في الصحافة الروسية فإنّ بوتين نفسه لم يوافق على أي من الخيارات المقترحة، وأقنع الجميع بأن ثمة حاجة إلى سلطة رئاسية قوية، وبأن السلطة المزدوجة، حتى وإن كانت بحسن نية، تمثل خطراً كبيراً.
اقنع بوتين الجميع بأن ثمة حاجة إلى سلطة رئاسية قوية، وبأن السلطة المزدوجة، حتى وإن كانت بحسن نية، تمثل خطراً كبيراً.
اقترح فياتشيسلاف فولودين مناقشة اقتراح تيريشكوفا مع رؤساء الكتل البرلمانية في الدوما، واستطلاع رأي الرئيس في هذا الشأن. بعد ذلك، رُفع الاجتماع للاستراحة، ليستأنف مجدداً، ولكن هذه المرة بحضور بوتين، الذي توجه بخطاب إلى النواب، ترك فيه الباب مفتوحا أمام شتّى التكهنات بشأن إمكانية ترشحه مجدداً للرئاسة.
حيثيات خطاب بوتين عززت الضباب حول سيناريوهات الرئاسة، وإن أتت لتثبت رفضه لأية تغييرات راديكالية في النظام السياسي، لجهة التحوّل من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، أو لأية صيغة يمكن أن تقود إلى ما يسمى في أدبيات السياسة الروسية “ازدواجية السلطة”.
“الرئيس هو الضامن للدستور، أو ببساطة الضامن لأمن البلاد وللاستقرار الداخلي”، قال بوتين، مضيفاً “لا يساورني شك في أن يوماً ما سيأتي لا تكون فيه السلطة الرئاسية العليا في روسيا مرتبطة بشخصٍ بعينه، ولكن هذا هو تاريخنا، ويجب أن نأخذ ذلك في الاعتبار”، مشدداً على أنه “من الضروري، قبل كل شيء، ضمان الاستقرار”.
ولفت بوتين، في هذ الإطار، إلى أن “ثمة خيارات أخرى ندركها جيداً، مثل الحكومة البرلمانية، وهي شائعة على نطاق واسع في العالم، ولكنها في المرحلة الحالية من تطوّرنا ليست فكرة مناسبة. انظروا إلى ما يحدث في الدول الأوروبية حيث الديموقراطية البرلمانية التقليدية. بعض هذه البلدان لا يمكنها حتى تشكيل حكوماتها لسنوات، وبالنسبة لروسيا، فإنّ هذا أمر مستحيل وغير مقبول على الإطلاق”.
كذلك، تحدث بوتين عن فكرة “منح هيئات السلطة الأخرى، مثل مجلس الأمن (القومي) أو مجلس الدولة – وهي هيئات لا يجري انتخابها بشكل مباشر من قبل الشعب – بعض السلطات ذات الطبيعة الرئاسية”، مشدداً على أن تعديلات من هذا القبيل “ستكون في رأيي، خطأً غير مقبول، بل خطيراً”.
بعد هذه المقدمات، تطرّق بوتين بالتفصيل إلى اقتراح تيريشكوفا، لجهة إزالة القيود على عدد الفترات التي يجوز فيها انتخاب أعلى مسؤول في الدولة، من الدستور”.
ورأى بوتين أن فكرة إزالة القيود لها سوابق في العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، مذكراً بأنّ تعديل الدستور الأميركي الخاص بفرض قيد الفترتين الرئاسيتين لم يُطرح إلا في العام 1947، وقد تم التصويت والمصادقة عليه في العام 1951.
مع ذلك، أعرب بوتين عن اعتقاده بأنه “من غير المناسب إزالة الحد الأقصى لعدد الفترات الرئاسية”، ولكنه أبدى، في المقابل، انفتاحاً على فكرة “التصفير”، وإن ترك الأمر رهن عنصرين أساسيين: موافقة الشعب على التعديلات الدستورية، من جهة، وأن تصدر المحكمة الدستورية قراراً رسمياً يؤكد أن هذا التعديل لا يتعارض مع المبادئ والأحكام الرئيسية للدستو، من جهة أخرى..
برغم ما سبق، لم يكشف بوتين عن سيناريوهات العام 2024، وعلى هذا الأساس، انقسمت الآراء في المجتمع السياسي الروسي بين وجهتين، الأولى، يرى أصحابها أن التعديل الدستوري، إن أقر (وهو أمر شبه مؤكد) يعني من الناحية العملية أن الرئيس قد حسم خياره بالبقاء في الحكم، ربما حتى العام 2036؛ أما الثانية، فيعتقد أصحابها أن التعديل الدستوري لا يعني من حيث الجوهر رغبة بوتين في تمديد ولايته، بل هو إجراء طبيعي لضمان الاستقرار في الحكم، وضمان انتقال هادئ للسلطة في بعد أربعة أعوام.
والواقع أن الرأيين يبدوان متساوين في منطقهما، فمن ناحية، يبدو “تصفير” الولاية الرئاسية إشارة واضحة إلى أن بوتين يريد استثماره كطريق لولاية جديدة، أو ربما اثنتان، لا سيما أنّ النخبة الحاكمة لم تكشف بالفعل عن نواياها بشأن مستقبل الرئاسة، وهو نمط مألوف غالباً في السياسة الروسية، ولم تقدّم حتى الآن ما يشي إلى الرغبة في تهيئة الشخصية التي يمكن أن تنقل إليها السلطة بعد أربعة أعوام، لا بل أن الخطاب الإعلامي الروسي يتمحور حول أن بوتين هو القائد الأوحد الذي يمكنه ضمان استقرار البلاد، في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ويسعى دوماً لتكريس صورة، مفادها أن ثمة مخاوف في المجتمع من أن يحل مكانه قائد غير كفوء، وأنه إذا غادر بوتين الحكم ستعود روسيا إلى فترة التسعينيات السوداء.
يعتقد البعض أن “تصفير” الولاية الرئاسية إشارة واضحة إلى أن بوتين يريد استثماره كطريق لولاية جديدة، في حين يراه آخرون “تصفيراً” للمخاطر المتصلة بانتقال السلطة.
ولكن من ناحية ثانية، فإنّ طبيعة الحكم في روسيا، المتوارثة عبر الأجيال، تجعل أيّ انتقال سياسي محفوفاً بمخاطر كبرى، وهو ما يتطلب ما يمكن تسميته “بوليصة تأمين” يمكن أن يوفرها “تصفير الولاية الرئاسية” لخدمة “تصفير المخاطر” المتصلة بتغيير رأس هرم السلطة الحاكمة، ممثلة بالرئيس – الحاكم (الغاسودار).
هذا “التصفير” يشمل بطبيعة الحال المخاطر الخارجية، فإذا ما تطوّر الوضع بشكل هادئ ومستقر، فلن تكون ثمة مشكلة في انتقال السلطة، وهو ما تنطلق منه حيثيات التعديل الدستوري الذي اقترحته تيريشكوفا، وما تضمنه خطاب بوتين نفسه أمام مجلس الدوما.
علاوة على ما سبق، فإنّ “تصفير المخاطر” لا يقتصر على البعد الخارجي، فالتحديات الداخلية تبقى عاملاً مثيراً للقلق في أيّة عملية تغيير. ويمكن افتراض أن جزءاً من لعبة الغموض الرئاسية يتصل بقطع الطريق أمام صراع على السلطة في صفوف النخبة الحاكمة، في حال حُسم الأمر منذ الآن، وبالتالي فإنّ “تصفير” الولايتين الرئاسيتين يمكن اعتبارهما حلاً، يجعل هامش المناورة واسعاً، إلى أقصى حدّ ممكن، في يد الرئيس، أو بالأصح في يد النخبة العسكرية – الأمنية (السيلوفيكي)، بانتظار لحظة حاسمة، شبيهة بما حدث ليل 31 كانون الأول/ديسمبر عام 2000، حين أتت اللحظة التي قرر فيها بوريس يلتسين، وبشكل مفاجئ، نقل السلطة إلى فلاديمير بوتين