واشنطن وحساب التّفاوض اللبناني الإسرائيلي.. ما هو بديل القرار 1701؟

مع كلّ جولة توترٍ على الحدود الجنوبيّة، تعود واشنطن إلى المسرح اللبنانيّ. فيتساءل مراقبون: هل تسعى الولايات المتّحدة فعلاً إلى فتح قناة تفاوضٍ مباشرةٍ بين بيروت وتل أبيب، أم أنّها تكتفي بإدارة النّار من بعيدٍ لتبقى المُمْسِكَةَ بخيوط اللّعبة الإقليميّة؟ السّؤال لم يعد افتراضياً، بل صار جزءاً من ديناميّةٍ متشابكةٍ تجمع بين ملفَّي الغاز والحدود من جهةٍ، وملفّ الحرب والسّلام من جهةٍ أخرى.

تتحرّك الدّبلوماسيّة الأميركيّة في مسارٍ متدرّجٍ لفتح قنوات تواصلٍ مباشرة أو غير مباشرةٍ بين لبنان وإسرائيل. وكان اتّفاق ترسيم الحدود البحريّة عام 2022 أبرز اختبارٍ لقدرتها على الوساطة، إذ أتاح للبنان البدء باستكشاف الغاز في حقل “قانا”، فيما حصلت إسرائيل على ضماناتٍ حول مناطق نفوذها البحريّة. صحيحٌ أن الاتّفاق اقتصر على البحر، لكنّه كسر جدار الصّمت الطّويل وفتح الباب أمام فكرة “التّفاوض التّقنيّ” التي يُمكن أن تمتدّ لاحقاً إلى ملفاتٍ أخرى أبرزها ترسيم الحدود البرية.

وبالتوازي مع ذلك، رعت واشنطن في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وقفاً هشّاً لإطلاق النّار بين إسرائيل و”حزب الله”. ومنذ ذلك الحين، التزم الحزب بالتهدئة، مكتفيًا بخطابٍ ردعيٍّ وبغموض يكتنف ما تبقى من ترسانته العسكرية التي أصابها ما أصابها على مدى سنتين من “حرب الإسناد” التي أطلق شرارتها السابع من تشرين الأول/أكتوبر. هذا الهدوء المشحون عَكَسَ رغبةً ضمنيةّ لدى الطّرفين في تجنّب المواجهة المباشرة، ورغبةً أميركيّةً واضحةً في تثبيت الاستقرار الهشّ على الحدود اللّبنانيّة. ومع مرور الوقت، بدأت شخصياتٌ لبنانيّةٌ رسميّةٌ تبدي استعداداً لمناقشة ملفّاتٍ مثل ترسيم الحدود البريّة أو تبادل الأسرى بوساطةٍ أميركيّةٍ، في لغة جديدة كانت تُعِدُّ من المحرّمات سابقاً.

تدفع الولايات المتّحدة باتّجاه مفاوضاتٍ مباشرةٍ بين لبنان وإسرائيل، مدفوعةً برغبتها في الاستقرار الإقليميّ، وتأمين مصالحها الاقتصاديّة، وتعزيز صورتها كوسيطٍ قادرٍ على تحقيق التّهدئة، إلى جانب سعيها لكبح نفوذ إيران. غير أنّ طريق هذه المفاوضات يبقى محفوفاً بالتّعقيدات، من الحسابات السياسية الدّاخلية إلى الهواجس الأمنيّة. قد تنجح واشنطن في فرض “تهدئةٍ قابلة للتّجديد”، لكنّها لن تصنع سلاماً حقيقيّاً في ظلّ غياب الثّقة، وميل إسرائيل إلى فرض الوقائع بالقوّة، وتمسّك “حزب الله” بمعادلة الرّدع من دون حربٍ

ويشير هذا، إلى أنّ الدّعم الأميركيّ لأيّ تفاوضٍ بين لبنان وإسرائيل لا يأتي من فراغٍ. فهو تحرّكٌ تحكمه اعتباراتٌ جيوسياسيّةٌ واقتصاديّةٌ وأمنيّةٌ متشابكةٌ. تخشى واشنطن أنْ يؤدّي أيّ تصعيدٍ على الجبهة اللّبنانيّة إلى إشعال حربٍ إقليميّة شاملةٍ، خصوصاً مع استمرار النّزاع في غزّة. لذلك تسعى إلى ضبط إيقاع الصّراع ومنع تمدّده ليشمل إيران وسوريا، حمايةً لمصالحها وقواعدها في المنطقة. وإلى جانب الدّافع الأمني، يبرز البعد الاقتصاديّ، إذ تحاول الولايات المتّحدة ضمان حصة شركاتها واستثماراتها في قطاع الطّاقة في شرق المتوسّط، فاستقرار لبنان وإسرائيل ضروريٌ لتأمين تدفّق الاستثمار الغربيّ في أحد أهمّ حقول الغاز النّاشئة في العالم.

ومن جهةٍ أخرى، تعتمد واشنطن أيضاً على قوّتها النّاعمة عبر تقديم نفسها كوسيطٍ في النّزاعات. وهي تدرك أنّ نجاحها في هندسة اتّفاقاتٍ، ولو مؤقتّةً، يمنحها رأس مالٍ دبلوماسيّاً تستخدمه في ملفّاتٍ أكبر. بعد “اتفاقيّات إبراهام”، يشكّل الملفّ اللبنانيّ ساحةً جديدةً لتأكيد دورها كقوّةٍ قادرةٍ على صياغة التفاهمات. كما أنّ الضّغط على إيران يبقى في قلب الحسابات الأميركيّة، إذ ترى واشنطن في “حزب الله” الذّراع الأهم لطهران في المشرق، وتسعى من خلال تشجيع لبنان على الانخراط في تفاوضٍ مباشرٍ إلى تقليص حجّة “المقاومة” التي تُبرّر استمرار سلاح الحزب.

لكنّ الطّريق إلى أيّ تفاوضٍ مباشرٍ يبقى مليئاً بالعقبات البنيويّة والسّياسيّة. فمنذ وقف إطلاق النّار الأخير، لم ينفّذ “حزب الله” أيّ هجوم مباشرٍ أو غير مباشرٍ، فيما واصلت إسرائيل تنفيذ غاراتٍ داخل الأراضي اللبنانيّة بذريعة “الرّدع الوقائيّ” والاستهداف الإستباقي لأي تهديد مستقبلي. هذا التّباين في السّلوك يعكس خللاً في معادلة الرّدع التي كانت تحكم الصراع اللبناني الإسرائيلي منذ التحرير في العام 2000 وحتى خريف العام 2023، وبالتالي يجعل أيّ مفاوضاتٍ سياسيّةٍ رهينة توازناتٍ ميدانيّة دقيقةٍ. كما أنّ الجنوب اللّبنانيّ لا يمكن فصله عن مسار غزّة، فكل تعثّرٍ في المفاوضات حول القطاع ينعكس مباشرةً على لبنان، ما يجعل التّقدم على الجبهة اللّبنانيّة مرهوناً بتجميدٍ مؤقّتٍ أو تسويةٍ جزئيّةٍ في غزّة. ويسري ذلك على احتمالات التفاوض أو عدمها بين أميركا وإيران في المرحلة المقبلة.

وبالإضافة إلى هذه التّعقيدات، لا تزال ذاكرة الحرب حاضرةً في وعي اللّبنانيين والإسرائيليّين على السّواء. في لبنان، تُعَدّ فكرة التّفاوض مع إسرائيل خطاً أحمر لدى قوى أساسية، أبرزها “حزب الله” وحلفاؤه، بينما في إسرائيل يخشى اليمين من أن يُفسر أيّ تنازلٍ للبنان إشارة للضعف بمواجهة إيران. كما أنّ ملفّ الحدود البرّيّة ما زال معلّقاً، إذ تبقى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والنقاط الخمس التي تحتلها إسرائيل نقاط نزاعٍ رمزيّةٍ وعسكريّةٍ تتطلّب ضماناتٍ أمنيّةٍ معقّدةٍ لا تبدو متاحةً في المدى القريب.

وفي هذا السّياق، لا تبحث واشنطن عن “سلامٍ نهائيٍّ” في لبنان، بل عن “توازنٍ هادئِ” يمنح إسرائيل جبهةً شماليّةً مستقرّة. بالنسبة لإدارة دونالد ترامب، يكفي نجاحٌ محدودٌ، مثل اتّفاقٍ مؤقتٍ أو تفاهمٍ تقنيٍّ، لإظهار فاعليّة السّياسة الأميركيّة أمام الرّأي العام. لكنّ هذا النّجاح النّسبيّ يصطدم بواقعٍ لبنانيٍّ داخليٍّ متشظٍّ، وبعجز واشنطن عن التحكّم الكامل بديناميات الواقع اللبناني. فـ”حزب الله”، الذي اختار الهدوء العسكريّ منذ سنةٍ تقريباً، لا يزال يملك قدرة التّعطيل أو التّصعيد متى شاء، ما يجعل أيّ تفاهمٍ سياسيٍّ هشّاً بطبيعته.

إقرأ على موقع 180  ماكرون للبنانيين: لا أريد أن أنتدبكم، المطلوب نظام جديد

في هذا السياق، يُمكن وضع قرار الولايات المتحدة بإنهاء عمل قوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) في جنوب لبنان في نهاية العام 2026، في خانة المجاهرة باستنفاد القرار الدولي الرقم 1701 وظيفته التي حكمت الواقع الحدودي بين لبنان وإسرائيل طوال عقدين من الزمن، وبالتالي البحث عن صيغة جديدة، إما تكون على شاكلة هدنة العام 1949، كما يطمح فريق لبناني وازن، أو على شاكلة اتفاق 17 أيار (مايو) 1983، كما يطمح الجانبان الأميركي والإسرائيلي وبعض طيف اليمين اللبناني.

وفي الخلاصة، تدفع الولايات المتّحدة باتّجاه مفاوضاتٍ مباشرةٍ بين لبنان وإسرائيل، مدفوعةً برغبتها في الاستقرار الإقليميّ، وتأمين مصالحها الاقتصاديّة، وتعزيز صورتها كوسيطٍ قادرٍ على تحقيق التّهدئة، إلى جانب سعيها لكبح نفوذ إيران. غير أنّ طريق هذه المفاوضات يبقى محفوفاً بالتّعقيدات، من الحسابات السياسية الدّاخلية إلى الهواجس الأمنيّة. قد تنجح واشنطن في فرض “تهدئةٍ قابلة للتّجديد”، لكنّها لن تصنع سلاماً حقيقيّاً في ظلّ غياب الثّقة، وميل إسرائيل إلى فرض الوقائع بالقوّة، وتمسّك “حزب الله” بمعادلة الرّدع من دون حربٍ. في ظل هذا المشهد المعلّق، تُمارس الدّبلوماسيّة الأميركية دورها المؤثّر في إدارة الأزمة بدل حلّها مباشرةً.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الإستبداد ينتصر بالكورونا.. و"القوة الناعمة"