سلطت المواجهات في جنوب اليمن، لا سيما في محافظة عدن بين قوات حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي بدعم سعودي وقوات المجلس الانتقالي الداعي الى انفصال الجنوب بدعم اماراتي، الضوء على مسالة استراتيجية تتعدى ما يجري على الساحة اليمنية مباشرة الى مسألة اشد تعقيدا، وهي تسابق القوى الاقليمية والدولية على حجز مواقع نفوذ لها في رقعة جغرافية مهمة تمتد من الخليج الى البحر الاحمر مرورا ببحر العرب حيث الشريان الحيوي لتجارة العالم وممرات الطاقة.
وايا كانت المبررات والاسباب السياسية للاشتباكات الحاصلة في جنوب اليمن، فانها لا تحجب حقيقة النيات الكامنة للسيطرة على موانىء هذا البلد، ولا سيما منها ميناء عدن الذي يعد من أكبر الموانئ الطبيعية في العالم، ويقع على الخط الملاحي الدولي رابطاً بين الشرق والغرب، ويتميز بحماية طبيعية من الأمواج، والرياح الموسمية من الاتجاهات الأربعة، ما يجعله صالحا للملاحة طوال ايام السنة.
ونظرا لأهمية هذا المرفق الحيوي، ترى الامارات، أن ميناء عدن يشكل أبرز تهديد لها، بحيث يمكن أن يقضي على الأهمية الاستراتيجية لمدينة دبي وميناء جبل علي، لذا سعت باكراً إلى تعطيل ميناء عدن المطل على مضيق باب المندب، ومن ثم السيطرة العسكرية والسياسية على المدينة باكملها عبر الوجود الميداني لقواتها قبل انسحابها، ثم عبر حلفائها في بعض فصائل الحراك الجنوبي مثل المجلس الانتقالي وقوات الحزام الامني.
وهذا الهدف قديم في حسابات القيادة الاماراتية، وهي كانت توصلت عبر شركة موانىء دبي العالمية الى صفقة مع صنعاء، في عهد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح لتشغيل ميناء عدن، وهي صفقة وصفها اليمنيون انذاك بأنها أقرب الى عملية بيع. كذلك حاولت الامارات عبر قوات حليفة لها، السيطرة على مضيق باب المندب الذي يعد من أهم منافذ التجارة العالمية، بالإضافة إلى ميناء المخا التجاري المهم على الساحل الغربي لليمن. كما تسيطر على جزر يمنية منها جزيرة بريم (مَيّون)، وجزيرتي زقر وحنيش في البحر الاحمر عبر وحدات يمنية تابعة لها.
بفعل هذه الصراعات، تحوَّل بحر العرب والبحر الأحمر من بحيرتين عربيتين إلى ساحة دولية مفخخة ومفتوحة لكل راغب في إيجاد موطئ قدم له فيها
وتأتي هذه السيطرة الاماراتية من ضمن مشروع سياسي استراتيجي يتعدى البعد النفطي والتجاري البحت، الى محاولة وضع اليد على شبكة الموانىء في بحر العرب والبحر الاحمر والقرن الافريقي وبعض موانىء شرق المتوسط (يجري الحديث عن رغبة إماراتية بالإستثمار في مرفأ بيروت بعد خصخصته)، عبر انشاء “موانىء دبي”، بعدما صارت المرافىء البحرية ركنا مهما في الاقتصاد العالمي ومحط انظار الدول الكبرى.
وبفعل هذا الطموح، وقعت الامارات اتفاقا مع اريتريا تستخدم بموجبه ميناء ومطار عصب على البحر الأحمر لمدة 30 عاما. وينص الاتفاق على أن تدفع مؤسسة الموانئ والجمارك والمنطقة الحرة في دبي بدلاً سنويا للسلطات الأريترية، إضافة إلى 30 في المئة من دخل الموانئ بعد تشغيلها. واستغلت الإمارات مطار عصب الذي يضم مدرجا بطول 3500 متر، في إطار “عملية السهم الذهبي في العام 2015”. ومن المرجح ان يعود الميناء الاريتري الى دوره السابق مع اعادة تطبيع العلاقات بين اريتريا واثيوبيا. وسيكون للموانىء في القرن الافريقي وصولا الى بور سودان شمالا، اهمية قصوى نظرا الى ارتفاع وتيرة النمو الاقتصادي في اثيوبيا التي صارت محط انظار المستثمرين الغربيين الكبار نظرا الى امكاناتها الزراعية الضخمة ووفرة مياهها ورخص اليد العاملة فيها.
نهضة اثيوبيا تذكي التنافس
وبحسب موقع “أفريكان اريجيومنت”، فان إثيوبيا كدولة غير ساحلية تسعى للتخلص من قيد الاعتماد الشديد على جيبوتي، التي تكفلت موانئها بمرور نسبة 90 في المئة من التجارة الخارجية الإثيوبية منذ اندلاع الحرب الحدودية مع إريتريا في 1998. واذا كانت اديس ابابا لا تسعى الى الحد من استخدام موانئ جيبوتي، إلا انها تريد تنويع سبل وصولها إلى البحر، وتاليا خفض تكاليف الشحن البحري من خلال تحفيز التنافس في هذا السوق.
وبعد الاعلان عن انشاء ممرّ “لابيست” الكيني، الذي يهدف إلى ربط سواحل كينيا في منطقة لامو، مع جنوب السودان وإثيوبيا، صارت هذه الموانىء محط اهتمام الدول التي تملكها خصوصا جيبوتي، كما صارت عنصر جذب للدول الطامحة إلى حجز بطاقة اقتصادية في هذه المنطقة الحيوية وتثبيت رأس جسر لنفوذها فيها، مثل الصين وشركاتها التي صارت الجهة الرئيسية للتمويل، وراحت تتولى تنفيذ معظم مشاريع البنية التحتية في جيبوتي وغيرها، وذلك بهدف تعبيد طريق الحرير البحري، الذي يربط الممرّات المائية مع مشروع بيجينغ المعروف بالحزام والطريق.
يذكر أن جميع حاويات الشحن الإثيوبية تنقل عبر محطة “دوراليه للحاويات” التي كانت تديرها منذ عام 2008 شركة موانئ دبي العالمية، إلى أن أنهت جيبوتي في شباط 2019 عقدها من جانب واحد وأممت حصتها البالغة 33 في المئة.
وبرغم أن هذا الخلاف الأخير قد أدى إلى تراجع شراكة الإمارات مع جيبوتي، فإن شركة موانئ دبي استطاعت في الوقت نفسه تدارك الأمر، حيث وسعت نطاق وجودها في الموانئ المجاورة بالدول الأخرى. فقد وقعت الشركة صفقة بقيمة 440 مليون دولار من أجل تطوير ميناء بربرة في اقليم “أرض الصومال”، وأتاح الاتفاق لدولة الإمارات فرصة تطوير قاعدة بحرية قريبة من ميناء بربرة. لكنه أثار غضب الحكومة الاحادية في الصومال التي لا تعترف بحكومة “أرض الصومال” ما أدى إلى خلاف سياسي بين ابو ظبي ومقديشو، افسح المجال لقطر وتركيا في عبور هذه الثغرة الى الداخل الصومالي وبناء قاعدة عسكرية بحرية في مقديشو، مثلما فعلتا في جزيرة سواكن السودانية.
ومثلها مثل تركيا، صار للصين أول قاعدة عسكرية بحرية لها خارج البلاد وذلك في جيبوتي قبالة سواحل اليمن والصومال، في مواجهة قاعدة “ليمونير” الأميركية في البلد ذاته.
الحضور الايراني يلقي بظلاله ليس فقط في هرمز بل في المضيق الاخر، باب المندب الذي لا يقل اهمية كشريان حيوي للملاحة الدولية
انظار السعودية الى المهرة
وفيما يتركز الجهد الاماراتي على محافظة عدن ومينائها في غرب جنوب اليمن، تتجه انظار السعودية الى شرق جنوب اليمن، وتحديدا الى محافظة المهرة التي صارت في قبضة السعوديين تحت مبرر مكافحة الارهاب والتهريب. وبعد نشرها المئات من الجنود والمدرعات، شرعت الفرق الفنية السعودية في مد انبوب نفط من شرورة في العمق السعودي الى سواحل المحافظة اليمنية. ولعل الهدف الرئيسي هو انشاء منصة لتصدير النفط في ميناء نشطون المطل على بحر العرب، وذلك تفاديا – عند الحاجة ــ لنقل النفط السعودي من موانىء المملكة في الخليج عبر مضيق هرمز الذي صار ورقة ضغط في يد ايران تهدد بها ساعة تشاء.
وبطبيعة الحال، فان الحضور الايراني في هذا المشهد يلقي بظلاله ليس فقط في هرمز بل في المضيق الاخر، باب المندب الذي لا يقل اهمية كشريان حيوي للملاحة الدولية، فطهران حاضرة هناك بحلفائها الحوثيين الذين استشرسوا دفاعا عن ميناء الحديدة، ابرز موانئ المندب والبحر الاحمر.
ميناء الدقم، سنغافورة الجديدة
وفيما تجري امور المرافىء بصخب في اليمن وجيبوتي واريتريا، فان سلطنة عمان دخلت على الخط بصمتها المعهود، لكن بقوة من شانها ان تقلب حسابات جيرانها راسا على عقب.
وعلى نار هادئة، بدأ المشهد يتغير في منطقة الدقم التي كانت حتى الامس القريب، مجرد بقعة صحراوية خالية تواجه بحر العرب. لكن، وبعد استثمار ملياري دولار فيها لبناء أرصفة طويلة، وحوض جاف لبناء السفن، وشبكة طرق، ومطار وفنادق، يمكن ان نرى هناك ميناء ينافس ميناء جبل علي في الإمارات ومدينة تنافس دبي بعد انجاز المشروع الذي يكلف 60 مليار دولار بحسب حكومة مسقط، وهذا الميناء يقع في منتصف الطريق عبر بحر العرب، بين الهند وشرق أفريقيا ويمكن أن يوفر بديلا لمن لا يريد خوض مغامرة المرور في هرمز. وسيحظى الميناء بمطار كبير ومدينة سياحية وشبكة سكك حديد تتصل بمدن الصحراء اضافة الى ساحل بكر بطول 80 كيلومترا قد تجعله أكبر من البحرين أو سنغافورة.
وبحسب كتاب “مونسون: المحيط الهندي ومستقبل القوى الأميركية” لروبرت كاپلان، فان الدقم بالنسبة لعمان، “مفتاح بناء البلاد”، وبالنسبة للولايات المتحدة، “تشكل إجابة جزئية على ميناء گوادر الذي بنته الصين على الساحل الباكستاني القريب. مع إستمرار التدخل الصيني المتنامي في موانئ المحيط الهندي، فان التركيز الاميركي سيكون على الدقم بحيث تصبح البحرية الأميركية قوة بحرية في المحيط الهندي – الهادي بدلاً من قوة الأطلسي – الهادي، وهكذا ستظل البحرية الأميركية قريبة جدا من الخليج . وقد بدأت سفن البحرية في التقاطرعلى الميناء في زيارات تتزايد وتيرتها. وتخطط سلطات الميناء لمنشآت محسّنة لكي تتمكن، من استقبال حاملة طائرات نووية الدفع وغواصات نووية. وبالنسبة للصين، يمكن أن يكون الدقم ممرا للسلع الى افريقيا من دون ان يكون لها نفوذ فيه على غرار الموانىء الاخرى في المنطقة.
ومن شان مشروع كهذا في حال نجاحه ان يسحب (بالنسبة للبعض) بساط لعبة الموانىء من تحت ارجل الامارات و(بالنسبة للبعض الاخر) ورقة هرمز من يد ايران، لكن ايضا من شانه اثارة توترات وخلافات جديدة لا سيما في ظل التنافس المحموم على السيطرة وتثبيت النفوذ.
وفي غمرة التنافس الدولي والاقليمي، تبقى العين على اسرئيل التي تولي مفاتيح البحار اهمية خاصة، فهي حاضرة في كل الموانئ لا سيما الافريقية منها حيث تزداد استثماراتها الامنية والعسكرية فيها وتتضاعف لتشكل الخطر الحقيقي الذي يحجبه تنافس اهل المنطقة على مواردهم وصراعاتهم.
وبفعل هذه الصراعات، تحوَّل بحر العرب والبحر الأحمر من بحيرتين عربيتين إلى ساحة دولية مفخخة ومفتوحة لكل راغب في إيجاد موطئ قدم له فيها.