عندما سئل أحد قادة تيار المستقبل، قبل أيام قليلة، عن سبب نقل إحتفال الذكرى الخامسة عشرة لإغتيال رفيق الحريري من مجمع البيال الكبير، إلى باحة منزل سعد الحريري في وسط بيروت، جرّب القول إن الأسباب “أمنية بحتة”. لدى التدقيق أكثر، أجاب بسؤال “ماذا لو شاركت مجموعة من الموظفين في مؤسسات تيار المستقبل، في الإحتفال، وقررت فجأة رفع لافتات تطالب الحريري بنيل رواتبها ومستحقاتها المالية”؟ ثم طرح سؤالاً ثانياً “ماذا لو قرر أهل الحراك الشعبي محاصرة الإحتفال ومنع المدعوين من الشخصيات السياسية من الوصول إلى البيال”؟
يكاد إحتفال اليوم يعطي وحده الجواب. ثمة أزمة مالية يزيد من وطأتها تردي البنيان التنظيمي وتراجع سقف الخطاب السياسي. بهذا المعنى، يريد الحريري إحتفالية تبرز شعبيته لا العكس. هكذا ضاقت المساحة الضيقة المحيطة ببيت الحريري بجمهور لا يعكس جمهوراً أكبر لعله بات ضائعاً أو مربكاً أو محبطاً أو يفتقد للقضية كما للحاضنة الإقليمية والمحلية.
يمكن الإستنتاج من خطاب سعد الحريري سلسلة ملاحظات سريعة:
أولاً، نحن أمام خطاب عادي جدا لا يمت بصلة إلى حجم التطورات التي عصفت بالداخل اللبناني منذ التسوية الرئاسية في العام 2016، وبصورة خاصة منذ السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019 حتى الآن، ولا إلى حالة التفكك والتشظي التي يشهدها الشارع السني في لبنان ولا إلى حالة الضمور السياسي والتنظيمي في تيار المستقبل، بدليل أن زعيمه سعد الحريري الذي كان يتباهى سابقاً بتياره العابر للطوائف والمناطق، صار اليوم يجاهر بخطاب مذهبي لم يكن مألوفاً في أدبياته، برغم إصراره في الوقت نفسه، على عدم مغادرة خطاب “المدرسة الوطنية”!
ثانياً، تعمد صاحب الخطاب، التموضع سياسياً في منطقة ضبابية. لا مسميات بعينها، حتى أن من كانت أبرز سهام الخطاب موجهة ضده، أي جبران باسيل، لم يذكره بالإسم، وهذا يسري أيضا على حزب الله ولو أن الحريري بدا أستاذاً لمادة الإيماء السياسي في مثل هذه الأيام. وهذا يدل على أن الحريري يريد شد عصب جمهوره برفع سقف خطابه بنعي التسوية الرئاسية غير مأسوف على عمرها والتصويب على جبران باسيل فقط، لكن من دون المس بموقع رئاسة الجمهورية، وهو المدرك حساسية هذا الموقع عند الموارنة، بدليل موقف بكركي، في زمن الرئيس إميل لحود وفي عز مواسم 14 أذار/مارس. بالعكس، حاول الحريري، إظهار رئيس الجمهورية ميشال عون، مجرد رئيس ضعيف، أما “رئيس الظل”، فهو الرئيس الفعلي للبنان، أي جبران باسيل.
ثالثاً، يمكن القول إن الهجوم على التيار الوطني الحر من دون تسميات وكذلك الهجوم الإيمائي اللطيف على حزب الله، من بوابتي التعطيل والإنخراط في معارك المنطقة، (طبعا من دون تسمية الحزب نفسه)، إنما هو محاولة لحفظ خط الرجعة مع عون أولاً، ولتثبيت مناخ التهدئة القائم بين الحريري وحزب الله الذي ظل متمسكاً بزعيم تيار المستقبل رئيسا للحكومة حتى آخر لحظة، وصح القول إنه لو قرر اليوم زعيم تيار المستقبل العودة إلى السراي الكبير، لن يكون مستغرباً أن نشهد تداعيات سقوط حكومة حسان دياب في وقت قياسي.
رابعاً، صحيح أن الحريري قد إبتعد كثيرا عن جبران باسيل، والأسباب الحقيقية لم يشرحها أحد للبنانيين بشكل منطقي حتى الآن، لكنه يستمر بالإبتعاد أكثر عن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. الدليل حصر تمثيل القوات بالوزيرة السابقة مي شدياق، وهو حرص على تسميتها بصفتها “الشهيدة الحية”، وهذا الأمر يعكس قناعة حريرية بالإبتعاد أكثر عن الثنائي الماروني (باسيل/جعجع)، مقابل الإقتراب من البيوتات السياسية المسيحية التقليدية (آل فرنجية نموذجاً) وكذلك المراجع الدينية المسيحية، في محاولة لإستنساخ تجربة رفيق الحريري في هذه البيئة.
خامساً، حظي رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط وحده بإشادة إسمية في خطاب الحريري، وهذا الأمر كان متوقعاً، ولو أنه لا يحجب حقيقة تباعد الكيمياء الشخصية بين الرجلين. هنا، ثمة دور يلعبه بطريقة إيجابية رئيس مجلس النواب نبيه بري، ولعل أمر الثلاثي (بري والحريري وجنبلاط بعلاقة إيجابية وطيدة مع سليمان فرنجية) يحتاج إلى مقاربة مستقلة.
سادساً، بدت المناسبة فرصة لمخاطبة جمهور الحريري بالدرجة الأولى، أي أن الوظيفة الداخلية تطغى على ما عداها (من الحرف الأول حتى الأخير لكلمة الحريري)، غير أن هذا الجمهور تأثر كثيرا بالحراك الشعبي الذي صدّع ثوابته، وثمة حراك شبابي جديد في الشارع السني لا يمت بصلة إلى خطاب صار من الماضي. نحن أمام جمهور شبابي لا يعرف رفيق الحريري وعندما إغتيل، كان معظمه إما قد عرفه فقط صورة أو سمع أهله يتحدثون عن رفيق الحريري. بهذا المعنى، يتوجه الحريري في خطابه إلى جمهور رفيق الحريري الأصلي وهو جمهور ليس في مقتبل العمر، ناهيك عن أنه جمهور مأزوم، وأحد أسباب أزمته عدم إقتناعه بزعامة الحريري نفسه. الأخطر هو أن الجمهور الذي يشبه سعد الحريري نفسه ومن الفئة العمرية نفسها، لم يعد يتماهى مع هكذا خطاب. جمهور إنفجر عاطفيا مع إنفجار موكب الحريري. زلزال كبير أصابه في صميم وجدانه، فنزل إلى الشوارع وحوّل سعد إلى أيقونة. ماذا كانت النتيجة بالنسبة إلى هؤلاء بعد 15 سنة؟ هل يستطيع الحريري أن يبرر إفتقاد هؤلاء لفرصة عمل أو علم وهل يكفي أن يتم تحميل التسوية الرئاسية وجبران باسيل المسؤولية وما علاقة التسوية الرئاسية بالتشكيلات القضائية والديبلوماسية ومباريات مجلس الخدمة المدنية؟
ثمة تقاطع ظرفي بين الحريري والسعوديين، محوره تضييق المساحة التي يمكن أن يتسلل من خلالها الأتراك بالدرجة الأولى، إلى الواقع السني اللبناني، كما بيّنت وقائع الحراك في الأسابيع الأخيرة، وما عدا ذلك، فإن أموراً مثل خطاب الحريري وتموضعه وهوية فريقه، كلها لا تحظى بثقة السعوديين والإماراتيين
سابعاً، كان يمكن للحريري أن يحول المناسبة وتحت الشعار الذي إختاره “رفيق الحريري من أول وجديد”، إلى مناسبة للمصالحة الحقيقية مع كل قيادات التيار الأزرق؛ أولا، بفتح أبواب بيت الوسط أمام الجميع؛ وثانيا، بجعل مؤتمر تيار المستقبل في الشهور المقبلة، مؤتمراً إستثنائياً، بشكله ومضمونه، بحيث تكون وظيفته إعادة تجميع الصفوف وإستيعاب كل المعتكفين أو الغاضبين أو المبتعدين أو المبعدين وبتقديم رؤية للبنان الجديد، لكن الخطاب ظل عالقا عند “عقدة الوفاء”، علما أن من معظم من إبتعدوا أو أبعدوا، إنما كانت أسبابهم سياسية بالدرجة الأولى، سواء يوم إختار سعد الحريري أن يكون على يسار سمير جعجع قبل خمسة عشر عاما أو على يمين نبيه بري في العام 2020.
ثامناً، برغم التلبية الدبلوماسية للدعوة إلى الإحتفال من سفراء عرب أبرزهم السعودية والإمارات ومصر وسفراء أجانب أبرزهم السفيرة الأميركية وسفيرا فرنسا والإتحاد الأوروبي، يمكن القول أن خطاب الحريري غير قابل للصرف في حسابات السعوديين والإماراتيين بالدرجة الأولى. هذا السقف السياسي يبقى منخفضاً عن المأمول. حتى الحديث عن إعادة فتح أبواب المملكة العربية السعودية على مصراعيها للحريري، سياسياً ومالياً، “ليس دقيقاً”، كما يقول العارفون بأمور المملكة. ثمة تقاطع ظرفي بين الحريري والسعوديين، محوره تضييق المساحة التي يمكن أن يتسلل من خلالها الأتراك بالدرجة الأولى، إلى الواقع السني اللبناني، كما بيّنت وقائع الحراك في الأسابيع الأخيرة، وما عدا ذلك، فإن أموراً مثل خطاب الحريري وتموضعه وهوية فريقه، كلها لا تحظى بثقة السعوديين والإماراتيين، وهنا مكمن التغيير الحقيقي الذي لا يبدو أن الحريري في وارد الخوض به، حتى الآن.
تاسعاً، أثار الحريري قضية الإنتخابات النيابية المبكرة وهي نقطة غير موجودة على “أجندة” أي من القوى السياسية الرئيسية، وأولها تيار المستقبل، ولو جرت الإنتخابات الآن، وبموجب القانون الحالي، ليس مضمونا أن ينال الحريري مقاعد نيابية أكثر من تلك الني نالها قبل سنتين.
عاشراً، كل الكلام الذي قاله الحريري عن إتفاق الطائف تدحضه الوقائع المتراكمة منذ العام 2008 حتى الآن. كل التعطيل الذي أصاب البلد، وقدره الحريري زمنياً بأنه أكثر من ست سنوات (منذ العام 2005 حتى الآن)، إن دل على شيء إنما على وجود خلل كبير في الصيغة السياسية التي تحكم البلد، وجاء إنفجار الأزمة الإقتصادية والمالية والإجتماعية في الشهور الأخيرة، ليؤكد المؤكد. الصيغة الحالية للبنان، بأبعادها السياسية والإقتصادية باتت منتهية الصلاحية، وهي عبارة لا يود كثيرون سماعها أبداً.
ماذا بعد؟
حتما يراهن الحريري على عودته إلى السراي الكبير. ثمة قناعة عند الرجل بأن هذه الحكومة ستحترق وخلال وقت قياسي في الشارع. كرة نار المصارف واليوروبوندرز؛ الإعتمادات للمواد الأساسية من محروقات وكهرباء وطحين؛ دفع رواتب وأجور العاملين في القطاع العام؛ هذه وغيرها، ربما تجعل اللبنانيين يعيدون قراءة رواية توفيق يوسف عواد “الرغيف”. رواية جوع اللبنانيين خلال الحرب العالمية الأولى.
من يأتي بعد ثورة الجياع؟
الحريري يراهن بأن يأتي على ظهر حصان إسمه صندوق النقد الدولي. لننتظر ما ستحمله الأسابيع المقبلة.