إلغاء ذكرى حرب تشرين.. نهاية أسطورة البعث!

لطالما كانت حرب تشرين/أكتوبر 1973 الركيزة الأساسية في السردية البعثية الرسمية، إذ حوّل النظام السوري السابق الانتصار العسكري إلى أسطورة سياسية، استثمرها لتبرير هيمنته وشرعنة قمعه الداخلي تحت شعارات الوحدة والحرية والإشتراكية. وقد تجسّدت هذه السيطرة الرمزية على الذاكرة في صرح ضخم هو "بانوراما تشرين"، الذي لم يكن مجرد متحف، بل إعلانًا سياسيًا صامتًا، أرادت به السلطة أن تُخلّد نفسها وتجبر الزائر على الاستسلام لرواية النصر المطلق والقيادة الخالدة.

لم تكن “بانوراما تشرين” بانوراما للحرب بقدر ما كانت بانوراما للسلطة. الألوان الصاخبة، المجسمات المعدنية، الأصوات المدوية تعمل كطقوس لإعادة إنتاج وعي جمعي محدّد سلفًا. لا مكان فيها للسؤال أو الشك أو الرؤية المستقلة. كل شيء مصمم ليغمر الزائر بإحساس واحد، أنّ الهزيمة مستحيلة وأنّ التاريخ حُسم. بذلك تحوّلت البانوراما إلى جهاز لتثبيت ذاكرة رسمية مغلقة، تستبدل التاريخ بالأسطورة، والوقائع بالرواية الدعائية.

في دمشق، المدينة التي تحتضن آلاف الحكايات، صادرت السلطة الحكاية الكبرى لتختزلها داخل هذا المجسّم الحجري، وتقول من خلاله: “أنا مررت من هنا، والتاريخ ملكي وحدي”. لقد أرادت أن تحكم الزمن وتتحكم به، وأن تحوّل الذاكرة إلى أداة للسيطرة، بحيث يصبح الماضي مُصادَرًا لخدمة الحاضر، والحاضر وسيلة للتحكم في المستقبل.

غير أنّ هذه الصورة بدأت تتداعى حين جاء يوم سقوط نظام البعث ووصول أحمد الشرع إلى الحكم. القرار الأول الذي هزّ الوجدان العام لم يكن اقتصاديًا أو عسكريًا، بل رمزيًا، وتجسّد في إلغاء ذكرى حرب تشرين من التقويم الرسمي. لم يكن ذلك مجرد تعديل بروتوكولي، بل انهيارًا لمنظومة رمزية فقدت قدرتها على إنتاج الولاء أو استدعاء الخوف، فضلاُ عن طي مرحلة وتدشين مرحلة جديدة.

إلغاء ذكرى حرب تشرين لم يكن حدثًا عابرًا في روزنامة سياسية مزدحمة، بل لحظة مفصلية تعلن نهاية أسطورة استمرّت نصف قرن، وتؤذن بولادة سوريا جديدة، واقعية وبراغماتية، تبحث عن شرعيتها في الداخل وعن استقرارها في الخارج

نصب الأسد عند مدخل بانوراما حرب تشرين

في صباح ذلك اليوم، بدا ياسمين دمشق وكأنه يزهر من جديد. الأزهار البيضاء الصغيرة تسللت بين الجدران الحجرية، وكأن المدينة تستعيد تنفّسها بعد خنقٍ طويل. لم تعد الشمس مجرد انعكاس على الأسطح، بل شعاعًا يحمل وعدًا بأنّ دمشق قادرة على النهوض بعد عقود من الظل والقمع. كان المشهد يشبه رداً صامتاً على مقولة جورج أورويل: من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي. لقد تحرّر الماضي أخيرًا من قبضة الحاضر البعثي.

منذ تأسيس “بانوراما تشرين”، استخدم النظام السوري السابق هذا المَعلَم لتثبيت سلطته بعد حرب العام 1973، مقدّمًا نفسه باعتباره حامل لواء النصر والتحرير. إلا أنّ المتحف لم يكن توثيقًا للحرب بقدر ما كان تزييفًا رمزيًا متقنًا للتاريخ، هدفه السيطرة على الوعي الجماعي وتحويل الذاكرة إلى أداة طاعة عمياء.

تعرف الأنظمة الشمولية أن الخضوع ليس بالأجهزة الأمنية وحدها، بل بالتحكم في المعاني والرموز. فحين تخلق هذه الأنظمة عدوًا دائمًا، وتعيد صياغة اللغة في هيئة شعارات، فإنها تحوّل الطاعة إلى فضيلة، والمعارضة إلى خيانة. إنها لا تكمم الأفواه فحسب، بل تعيد تشكيل الوعي بحيث يصبح الولاء للنظام جزءًا من الهوية ذاتها. وهكذا تتحول السياسة إلى إدارة للذاكرة والخوف، ويغدو الواقع امتدادًا للدعاية.

لقد مثّلت حرب تشرين، لعقود، أداة سياسية لإعادة إنتاج شرعية النظام، إذ وظّفها البعث عبر المناهج والإعلام والطقوس العسكرية لتبرير القمع الداخلي. كانت الأسطورة احتفالًا سنويًا ضمن ما يشبه “الآلة الرمزية” التي تربط الولاء الوطني بالولاء للنظام. المدارس والبرامج التلفزيونية والأغاني الوطنية أعادت إنتاج تلك الرواية بوجوه جديدة كل عام، فيما ظل جوهرها واحدًا، القائد هو التاريخ، والنظام هو الوطن.

مع سقوط النظام ووصول أحمد الشرع إلى السلطة، أعلن إلغاء الاحتفال بذكرى الحرب في خطوة أراد من خلالها فصل العهد الجديد عن رمزية الحروب القديمة. القرار حمل دلالات أعمق من كونه بروتوكولًا، فقد أشار إلى رغبة النظام الجديد في إعادة بناء الشرعية على أسس براغماتية واقعية، لا على خطاب الممانعة والصمود. كانت تلك بداية إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن بعيدًا عن الأساطير الحربية والشعارات الثورية.

إلغاء ذكرى حرب تشرين لم يكن نسيانًا للماضي، بل تحرّرًا منه. لقد أنهى مرحلة من التوظيف السياسي للتاريخ، وفتح الباب أمام مفهوم جديد: “زمن السلام السياسي”، الذي يستبدل سرديات الصراع بخطاب الاستقرار والانفتاح. الرسالة كانت واضحة. دمشق لم تعد تبحث عن شرعية من خلال الحرب، بل من خلال التنمية والعلاقات الطبيعية مع محيطها العربي.

هذا التحول كان بمثابة إعلان قطيعة مع إرث “البعث المقاوم” الذي جعل من المواجهة الدائمة أداة حكم. الرسائل كانت متشابكة وموجهة إلى: إيران بأن زمن التحالف الأيديولوجي انتهى، إلى إسرائيل بأن إغلاق ملف تشرين لا يعني الاستسلام، بل الرغبة في طيّ صفحة المواجهة الشكلية، وإلى لبنان وفلسطين بأنّ مرحلة “المحور” قد انتهت، وأنّ دمشق الجديدة تبحث عن دور في الاستقرار لا في الصراع.

إقرأ على موقع 180  مباط عال: ما هي فرص فشل ونجاح فيينا 7.. و"الإتفاق المؤقت"؟

إلغاء ذكرى حرب تشرين لم يكن حدثًا عابرًا في روزنامة سياسية مزدحمة، بل لحظة مفصلية تعلن نهاية أسطورة استمرّت نصف قرن، وتؤذن بولادة سوريا جديدة، واقعية وبراغماتية، تبحث عن شرعيتها في الداخل وعن استقرارها في الخارج. وكما كانت حرب تشرين حدثًا مؤسِّسًا لسوريا البعثية، فإنّ “تشرين المعلّق” اليوم يشكّل الحدث المؤسِّس لسوريا ما بعد البعث، فلننتظر ونرى ما سيكون.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تشرين العراقي بلا تسويات.. هل حان موسم الدم؟ (2)