تشرين العراقي بلا تسويات.. هل حان موسم الدم؟ (2)

ثمة انسداد سياسي في العراق ولبنان منذ ثلاث سنوات. انطلق الحراك التشريني في كل من بغداد وبيروت في خريف العام 2019. سقطت حكومتا عادل عبد المهدي في العراق وسعد الحريري في لبنان. تمت تسمية أكثر من مرشح لرئاسة الحكومة هنا وهناك قبل أن تؤول المهمة في مطلع ربيع العام 2020 لرئيس المخابرات مصطفى الكاظمي في العراق ولحسان دياب ثم نجيب ميقاتي في لبنان.

لندع لبنان جانباً الآن. عندما كُلّف مصطفى الكاظمي بالوزارة، أخذ على عاتقه عدداً من المهام، أبرزها إجراء إنتخابات نيابية مبكرة. راهن كثيرون على تطييرها لكن جاء العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2021، وحقّقت الحكومة وعدها. لم تمضِ ساعات على اتمام الاستحقاق الانتخابي، وإعلان فوز التيار الصدري بأكثر من 70 مقعداً، حتى تبدى أن الإنسداد السياسي سيتخذ شكلاً جديداً.. إنها مرحلة الفوضى والاقتتال الأهلي.

من السهل إحالة ما تلا الإنتخابات إلى مناخ الإشتباك الأميركي ـ الإيراني، إذ لا يخفى على أحد أن العراق من أبرز ساحاته. لماذا العراق؟ الأسباب عديدة. بلدٌ عربيٌ “يطفو على محيط باسيفيكي من النفط، وآباره النفطية غزيرة الإنتاج وكلفة إنتاجه هي الأقل في العالم”، كما يقول الخبير الطاقوي الدولي ممدوح سلامة، ناهيك بحسابات واشنطن المتصلة بإبقاء عينيها، أمناً وعسكراً، مفتوحتين على طول الشريان الحيوي الممتد من طهران إلى بيروت مروراً بالعراق وسوريا.

لا ينفي هذا وذاك الأسباب العراقية للأزمة، وهي الأساس. يزيد من رسوخ هذه القناعة الغياب المفاجىء وغير المحسوب للإطفائي الإيراني التقليدي الجنرال قاسم سليماني، عن المشهد العراقي. أصبح الرجل بعد تجربة عقدين من الزمن “خبيراً مُحلّفاً” في رسم التوازنات مع الأميركيين من جهة وترسيم التوازنات العراقية الداخلية من جهة ثانية. لا يُتقن سليماني لغة العراقيين وعاداتهم وحسب، بل يستطيع فكفكة حروفهم وأمزجتهم وشخصياتهم المتعددة. ما بعد سليماني ليس كما قبله. هذا الأمر صار معروفاً. يحتاج نائبه الجنرال إسماعيل قاآني الآتي من خبرة أدغال أفغانستان، إلى سنوات ضوئية حتى يتوغل في دهاليز السياسة العراقية وخباياها. إرتباك السنتين الماضيتين الذي أعقب إغتيال سليماني، دفع ثمنه الإيرانيون والعراقيون، على حد سواء، والشواهد أكثر من أن تُحصى وتُعد.

إذا صح أن “الإطار التنسيقي” ذاهبُ بعد “الأربعينية” نحو تأليف “حكومته” مهما كانت الأثمان، تصبح كل مناخات الإقتتال الداخلي قيد التهيئة، وهذا يعني أن القوى الشيعية في العراق، من دون إستثناء، لم تبلغ سن الرشد السياسي، بل بلغت عتبة الإفلاس السياسي، ولم يعد أمامها سوى الدم

على سبيل المثال لا الحصر، توّجت عودة السيد مقتدى الصدر إلى الانتخابات المبكرة بعد توقيع قادة “البيت الشيعي” على “خارطة طريق” مُلزمة للجميع بمباركة الإيرانيين؛ سنتين من الفوضى الدستورية والسياسية؛ غير أن فوز الصدر لم يكن مُستساغاً من خصومه. شككّكوا بالإنتخابات وقالوا إنها “مزورة”. مُجدداً، أبرزت تصرفات بعض “المستشارين” الإيرانيين في بغداد، إرتسام “منظومة مصالح” جديدة لا تمت بصلة إلى المصالح العليا للبلدين، فكان أن إزداد المشهد العراقي تأزماً. يقول أحد العارفين “لم يُعذّب قادة “الإطار التنسيقي” أنفسهم حتى لإجراء اتصال هاتفي بالصدر لتهنئته بنتائج الإنتخابات. راحوا يُخططون للتنكيل به. وهذا أمر حتماً لم يكن ليقبل به سليماني أبداً”.

حاول بعض “المستشارين” توريط طهران بتبني محمد شيّاع السوداني مرشح “الإطار التنسيقي” لرئاسة الحكومة، وهذا ما دفع بالصدر إلى الإيعاز لأنصاره بالهجوم على البرلمان والمكوث فيه. بدا السوداني مرشح تحدٍ واستفزاز متعمد، خاصّةً أن الصدر وبُعيد انسحابه من البرلمان، راهن على حراك سياسي يُعيده إلى مجلس النواب (قرار المحكمة الإتحادية الأخير أبقى الأمور مُعلقة)، غير أن “الإطار التنسيقي” الذي قال ـ سابقاً ـ إن الانتخابات مزورة عاد يُدافع عن نتائجها، بعدما كسب عشرات المقاعد التي ما كان “يحلم بها”، “وهنا تقع المسؤولية الأساسية على مقتدى الصدر. معظم تحركاته كانت انفعالية، ولكنها ما بدّلت في الوقائع شيئاً، بل زادتها تأزيماً وتعقيداً”.

المؤسف أن جميع القوى السياسية شاهدة. راهن كثيرون على أن حكومة الكاظمي ستعجز عن إطفاء نار اقتتال بدأ دخانه الأسود بالصعود منذ خريف العام 2019. صحيح أن الحكومة الحالية نجحت في تأجيل إندلاع الاقتتال طوال الأشهر الـ27 الماضية التي تصدت فيها للحكم لكن من يضمن في المرحلة المقبلة أن الأمور ستبقى قيد الضبط والسيطرة؟

لا أحد يملك جواباً. أكد الكاظمي، مؤخراً، استعداده لترك المنصب إن عادت وتكررت أحداث المنطقة الخضراء والاقتتال الداخلي الذي وقع في أواخر الشهر الماضي. في جلسة الحوار الثانية برئاسته (الإثنين الماضي)، انكشفت معظم الأوراق: الكل يسعى للمواجهة وبقرارٍ واعٍ وغير حكيم. العراقيون يدفعون الثمن من أرواحهم وأرزاقهم. أكثر من أربعين قتيلاً لـ”التيار الصدري” خلال المواجهات الأخيرة مقابل أربعة لـ”الإطار التنسيقي”. رسالة دموية قاسية فعلت فعلها معطوفة على تدخل المرجعية الدينية العليا، ممثلة بالسيد محمد رضا السيستاني نجل آية الله السيد علي السيستاني. جدّد الكاظمي، في جلسة الحوار، مناشدته للصدريين بوجوب تغليب لغة الحوار على ما عداها، غير أن حسابات زعيم التيار الصدري صارت ثأرية.. وثأرية فقط، في مقابل إستشعاره تعمد الآخرين تهميشه وإهانته.

جاءت الزيارة الأربعينية لتوفّر هدنة يُريدها الجميع. هذا ما حصل بين جولتي تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، (1ت1 ـ 25 ت1). إستراح المحاربون وأخذوا وقتاً مستقطعاً، برغم سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى من نُشطاء الحراك التشريني العراقي، ممن كانوا ضحية تركيبة سلطوية يتسم معظم أركانها بالفساد أو بإنتهاج سياساتٍ تتجاوز حدود العراق، حيث لم يدرك من اتخذ ودعم ورعى وقائع تلك المرحلة، مدى حساسية “اللعب” ببعض التوازنات التي صيغت منذ العام 2003، بتوافقٍ ضمني أميركي – إيراني.

إقرأ على موقع 180  المتراس الأوكراني.. حرب رأسماليتين وإصبعين وتاريخين!

عملياً، لم تُخمد نار الأحداث الأخيرة في “الخضراء”. التخريجة التي ضبطت الموقف جاءت من مقتدى الصدر، أي تهدئة من طرف واحد، بينما لم يُحرك قادة “الإطار التنسيقي” و”الحشد الشعبي” ساكناً. في الوقت نفسه، تطرح مواقف المرجع آية الله كاظم الحائري أسئلة خطيرة بشأن مستقبل المرجعيات الشيعية العراقية وهل ثمة توجه لـ”الحصرية” ربطاً بولاية الفقيه، وهل يدل ذلك على “حشرة” أم “راحة” وهل لما يُمكن أن يصح في لبنان (حتماً بصعوبة) أن يصح في العراق؟

“حرب التسريبات” تصب في خانة المخاوف نفسها، خاصة في بلد تُعدُ وسائل التواصل الاجتماعي مُحرّكه الرئيس. لنعُد إلى تسريبات نوري المالكي الصوتية. هناك من سجل لقاءاً خاصاً، وهناك من سرّبه في توقيتٍ حرجٍ جداً، وهناك – من أراد أن يتنصل من المسؤولية – أي المالكي، فعمد إلى اعتباره “فبركة”، بدل التحلي بشجاعة الاعتراف والقول إن الحديث كان في “لحظة غضب” أو “انفعال”، وهو قد أعلن مؤخراً – في أكثر من حديثٍ خاص – عن استعداده للدخول في مواجهةٍ دموية حتى “يُصلح وضع الشيعة”!

الأجزاء الستة للتسريب تعكس دموية المالكي، واستعداده للاقتتال؛ بالمناسبة هذا ما يقوله، هو وبعض من يتماهى مع خطابه من قادة “الإطار”، في جلساتهم الخاصة هنا أو هناك، وهذا ـ أيضاً – ما يتناقض مع موقعه كرئيس سابق للوزراء لولايتين متتاليتين، من جهة؛ ومع خطاب دولةٍ يمكن أن يكون أحد رموزها ورجالاتها، من جهة ثانية؛ فضلاً عن خطورة هكذا خطاب على “البيت الشيعي” العراقي من جهة ثالثة.

كان من البديهي أن يستفيد “الصدريون” من هذه التسريبات تحشيداً لجمهورهم، وسلاحاً إضافياً ضد المالكي كما للهجوم على القضاء ورئيسه فائق زيدان، بحجة تقاعسه عن محاسبة المالكي في تحريضه المكشوف ضد الصدريين. في المقابل، وبرغم فداحة ما قاله المالكي، إلا أن الدفع بالاقتتال فشل جزئياً، ولكن مع تسريبات “التيار الصدري” أو “تسريبات الحنانة” الأخيرة، لا يمكن إلا التساؤل عما إذا كانت هناك جهات تعمل على خلط الأوراق وضرب البنية الداخلية للتنظيمات والتحالفات والدفع لتصدي بعض الشخصيات “المجنونة” و”المنفعلة” لصدارة المشهد السياسي – الميداني العراقي؟

هذا السؤال يُصبح مُبرراً إذا حاولنا فكفكة حروف “تسريبات الحنانة” التي “حرقت” عدداً من كوادر “التيار الصدري”، وإلا لماذا اختيار أربعة قياديين معروفين باعتدالهم (مصطفى اليعقوبي، حميد الغزي، أمجد العقابي وعلي سعدون اللامي)، مقارنة بغيرهم من الداعين إلى المواجهة والحسم مع “الإطار”؟ وبالتالي هل هناك من يسعى إلى تفريغ حلقة الصدر من “المعتدلين” لمصلحة عقول ميليشياوية، تزيّن للسيد مقتدى بعض القرارات الإنفعاليّة التي تخدم مسارات الفوضى؟

مصيبة العراق كما لبنان. كثيرون يقولون “لا”، ولكن ندر أن تجد من يُتقن فن إبرام التسويات. في هذه اللحظة التاريخية الصعبة، تحتاج بغداد كما بيروت إلى حائكي سجاد التسويات، ولكن عبثاً تبحثون

في المقابل، هناك من هو مستعدٌ لمواجهة الصدر، لا بل ينتظر اللحظة المناسبة للدخول في “المعركة إن فُرضت أو فرضوها”، كما يُنقل عن أحد وجوههم الأساسية؛ ولكن كلا الطرفين ـ حتى الآن ـ لا يريدان أن يكونا من يبتدئ القتال، بل يفضّلا البقاء في موقع الدفاع، وهذا ما يفسر الروايات المتضاربة لما حدث في “الخضراء” مؤخراً.

في الخلاصة، إذا تلاشت فرصة الإتفاق النووي، سيكون العراق أحد أبرز ساحات الإشتباك الإقليمي في المرحلة المقبلة، وإذا توافق الجميع مُجدداً على إجراء إنتخابات نيابية مبكرة، فإن نتائجها لن تكون مختلفة أبداً عن إنتخابات 2021. هذا يعني أن المأزق العراقي مقيم.. والتسويات في إجازة. لذلك، ستمر الزيارة الأربعينية بهدوء هش، ولكن ما بعدها، أي في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، هناك موعد مع السنوية الثالثة لحراك تشرين العراقي، وسط حديث عن تحشيد “صدري” لمصلحة “التشرينيين”، وهذا ما يفتح الباب أمام السؤال، هل بدأ العد العكسي للمواجهة؟

إذا صح أن “الإطار” ذاهبُ بعد “الأربعينية” نحو تأليف “حكومته” مهما كانت الأثمان، تصبح كل مناخات الإقتتال الداخلي قيد التهيئة، وهذا يعني أن القوى الشيعية في العراق، من دون إستثناء، لم تبلغ سن الرشد السياسي، بل بلغت عتبة الإفلاس السياسي، ولم يعد أمامها سوى الدم.

مصيبة العراق كما لبنان. كثيرون يقولون “لا”، ولكن ندر أن تجد من يُتقن فن إبرام التسويات. في هذه اللحظة التاريخية الصعبة، تحتاج بغداد كما بيروت إلى حائكي سجاد التسويات، ولكن عبثاً تبحثون.. حمى الله لبنان والعراق.. للبحث صلة.

(*) الجزء الأول: مفارقات شيعية بين لبنان والعراق.. هل من حزب للدولة؟

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  فرنسا تنعطف يميناً.. لا سردية مواطنة واحدة!