المَرمَى اسمُ مكان من الفعل رَمى بمعنى ألقى، الفاعلُ رامٍ والمفعول به مَرمِيّ بكسر الميم الثانية وتشديد الياء، أما المصدر فرمْيٌ بتسكينها، وقد استُخدِمَت لفظة المَرمَى في قديم العصور للإشارة إلى نافذة صغيرة في جدران حِصن؛ تُرمَى الحجارةُ منها على الأعداء خلال القتال، والرُّماة هم القائمون على التصويب؛ سواء بالأسلحة النارية، أو بالأقواس والسهام أو حتى بالأيدي العارية. لم يَعد اسمُ “رامي” شائعًا كما كان في فترات سابقة؛ لكن اسمَ الشاعر “أحمد رامي” ما زال حاضرًا مُتداولًا إلى يومنا هذا؛ فقد ارتبط بـ”الأطلال”؛ واحدة من أعظم القصائد التي غنتها أم كلثوم، وكذلك بقصة حبٍ أحادية الجانب؛ لم يكتب لها أن تتوج بالنهاية المَرجوة.
***
إذا انكشفت الثغراتُ وبان المَخبوء؛ بات المرءُ في مَرمى النيران؛ مُعادية أكثر الأحيان وفي بعضِها صَديقة. يقف رئيس الولايات المتحدة في مَرمَى نيران جهات داخلية عديدة؛ صحافيين، ومقدمي برامج كلامية، وأصحاب قنوات إلكترونية، وساسة مُعارضين؛ هالهم جميعًا ما يأتي به من موقعه الرفيع الذي يتطلب شيئًا من الاتزان، ويستلزم بعضًا من الحِكمة والالتزام بالأعراف والتقاليد.
***
الرَّمي تَسديدٌ، والتَّسديد حِرفة تتطلب الثباتَ العصبيَّ ورباطَ الجأشَ والتقديرَ السَّليم. أوصَت بعضُ المأثورات الدينية بتعليم الصّغار فنون الرّماية وركوبِ الخيل والسباحة؛ وهي رياضات ذات فوائد جمَّة لصِحَّة الجَّسد، فإن أُضيفت إليها ألعابُ العَدو وسِلاح المُبارزة؛ صرنا أمام لعبةَ الخُماسي الحديث التي تُعَد رياضة أوليمبية أصيلة ولنا من جوائزها نصيب.
***
قد يَرمق واحدٌ الآخرَ بعنفٍ في مَوقِف مُحتدِم، يرميه بنظرة حادة تجعله يَصمت ما كان مُتكلمًا، أو يغادر مكانه ما كان مُتأنيًا مُماطلًا، أو يغير رأيَه وقوله. النظرةُ أقوى بعضُ المرات من خُطبة كاملة، وخطابُ العينين لكلّ ذي نباهةٍ واضحٌ مَفهوم، وإذ سَقط أغلبُ الشُّعراء صَرعى العِشق؛ فقد عللوه في أبياتهم برَمية سَهمٍ من عينيّ المَحبوبة.
***
لضاربةٌ الوَدع في مُعظم أعمال الدراما عبارةٌ أثيرة؛ تقولها مُتصنّعة التدلُّل والإغراء: “ارمِ بياضك يا شابة”. البياضُ هنا كناية عن النقود التي ستضعها العابرةُ في المنديل، مُتمنية أن تحصُل على نبوءة ترضيها، وتعطيها أملًا ولو كاذبًا في تحقيق مناها.
***
إذا رَمى الرَّجلُ يمينَ الطلاقِ على زَوجه؛ فعادةٌ تشبه القَّسم المَشروط بحدوث شيء مُعيَّن، والفعلُ تهديد في غير مَحله، يجعلُ من العلاقة المتينة القائمة بين اثنين أمرًا سطحيًا، يمكن فَصمُ عراه في لحظة وتحويلُه إلى سَراب. بعضُ العارفين لا يعتدُّون بالفعل ما وَقع بناءً على غَضب عارم، والبعضُ الآخر يأخذه بجدية ولا يرى فيه مجالًا للتراجُع، وعلى كل حال؛ يأخذ التحايلُ مَجراه في مُعظم المواقف، وغالبًا ما يتأتى الالتفافُ على النتائج.
***
تُصيب الرَّمية المُوفَّقة هدفَها بدقة، أما الرَّمية الطائشة فتذهب في الهواء. اشتهرت عبارةُ النجم استيفان روستي: “نشنت ونيشانك رَشق” في فيلم “عفريتة هانم” الذي أنتِجَ بنهاية الأربعينيات، وله مَقولة أخرى مشابهة هي: “نشّت يا فالح” في فيلم “حبيبي الأسمَر” الذي أنتِجَ بنهاية الخمسينيات، والعبارتان تحملان سُخريةً ظاهرة من هذا الذي جاء برمية خائبة، فأخطأ المَرمَى وأصاب غيره.
***
البعيد عن مَرمَى النَّظر هو ما تتعذَّر رؤيته، والتعبير يُستخدَم مجازًا لاستبعاد حدوث أمرٍ ما، وفي استحالته يُقال أيضًا: “بعيد عن شنبك”، أما إذا أراد القائلُ العكسَ؛ استخدم تعبير: “على مَرمَى حَجَر” والقصد قُربٌ ودنو.
***
إذا استاء واحدٌ من آخر لأنه “بيرَمّي كلام”؛ بتشديد الراء، فتعبير مَألوف يُدلل على إتيانه بما يشبه التَّعريض؛ حيث لا تُذكَر الإساءةُ بصورة مباشرة، إنما يسير الحديثُ في خطٍ مُوازي، فيلتقط الناسُ المُراد منه بغير تصريح. الرغبةُ في عدم المُواجهة هي السائدةُ هنا، وألعابُ الكلام لا أكثر منها ولا أبرَع فيها مِننا، والمَعنى الواحد له عَشرات الوَسائل المُعبّرة عنه، والقُدرة على الفهم وحلّ الألغاز مَوهبةٌ أصيلة عند أغلب السَّامعين.
***
يتبارى الأطفالُ في مناطق مُختلفة من العالم على رَمي المُسطَّحات المائية بالحِصي. تقفز الحصاةُ صانعةً دواماتِ مياه مُتكاثرة، تتَخذ نمطًا مألوفًا وبهيجًا، يَرمي كلٌّ منهم على امتداد سَاعده ويُتابع النتيجة؛ وفي عدد الدوَّامات والقفزات مِقياسٌ للمكسَب والخسارة. كانت الألعاب في قديم الزمن بسيطة خفيفة الروح، والبهجة الناتجة عنها حقيقية لا افتعال فيها؛ لكنها تعقدت بمرور الوقت إلى أن صارت ثقيلة وعنيفة؛ لا تسبب الفرحة بل تضفي على اللاعبين مزاجًا داكنًا قلقًا.
***
قال معن بن أوس: أعلمُه الرمايةَ كل يَوم .. فلما اشتدَّ ساعدُه رَماني، ويلاقيه المأثور الشعبيّ الذي يحكي عمَن يعضّ اليد “اللي اتمدَّت له”، والمعنى في الحالين انقلابٌ غير مُتوقَّع على صاحبِ الفضل، وإيذاؤه من حيث لا يَحتسب. يُوصَم المُنقلِب بالخِسَّة إذ لم يَصُن المَعروف، ولم يحفظ عطاء من ساعده وعلمه، والأمثلة كثيرة وافرة.
***
إذا رَمى فلانٌ بفعلته إلى لفت الأنظار؛ فقد استهدفَ جذبَ الانتباه إليه. بعضُ الأشخاص لا يشعرون بالرضاء والشبع إلا حين يحتلوُّن كاملَ المشهد؛ يرتكبون كل ما مِن شأنه أن يجعلهم في بؤرة اهتمام للآخرين؛ ولو أظهرهم حمقَى مأفونين . كثيرة هي الأفعال الجاذبة؛ لكن معظمَها فارغٌ بلا قيمة، وإذا طغت توافه الأمورِ على العقول وامتلكتها؛ ضاقَ مَجالُ العملِ الجَّاد وأظلم الأفق.
***
لم يكن قرار مَجلس الأمن بنزع سِلاح المقاومة؛ سوى تأكيد على جعل الفلسطينيين في مَرمَى نيران العدو لفترة أطول، ولإن صَمتت روسيا والصّين وامتنعتا عن التَصويت؛ فإن الموافقة المِصريَّة المُعزَّزة بموافقات دول جوار عربية أخرى، وَصمةٌ شائنة لن يغفرها التاريخُ، والحقُّ أن قرارات تُؤخَذ واتفاقات تُعقَد وأفعال تبدأ وتنتهي في غفلةٍ من الزَّمن؛ إنما ترمي أصحابَها ببئس الصّفات وتورثهم العارَ الأبدي.
