القرار 2803.. مرحلةٌ اِستعماريّةٌ جديدةٌ في فلسطين والمنطقة

ما بينَ اِتفاقيَّةِ شرْم ِالشيخ [أكتوبر/تشرين الأول الماضي] وقرار مجلسِ الأمنِ الدوليِّ 2803 [نوفمبر/تشرين الثاني الجاري] مَسافة ٌزَمنيَّةٌ من دونِ مَسافةٍ سياسيّةٍ. تكادُ الفوارقُ السياسيّة ُأنْ تكونَ صِفراً. وإنِ اِتّحدَتْ فهي كالعادةِ التاريخيّةِ لمصلحةِ كيانِ الاحتلالِ الإسرائيلي والولاياتِ المتحدةِ معَاً. ما يُعيدُنا بالذاكرةِ إلى تاريخِ مجلسِ الأمنِ الدوْلي منذ ما بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ إلى اليوم.

مجلسُ الأمن، منذ تأسيسه حتى الآن، يعكِسُ مصالحَ القوى الغربيّةِ الكبرى وينحازُ في الغالبِ الأعمِّ ضِدَّ قَضايا الشعوبِ، ولا سيَّما قضيَّةُ فلسطينَ التي ذبحتْها القراراتُ الدوليةُ الجائرة، والقراراتُ شبهُ المتّزنةِ غيرُ المُنفَّذةُ، مثلما ذبحَها الاحتلالُ البريطاني ثمَّ الاحتلالُ الإسرائيلي – الأميركيُّ وحُلفاؤُهُ منَ العرَبِ والغَرْبِ قبلَ حربِ الإبادةِ على غزَّةَ وخلالها وبعدَها. وربّما تستمِرُّ فِلسطينُ عُرْضةً للذبحِ على أيدي هذه القُوى أمَداً منظوراً غيرَ قصيرٍ، لكنَّ الشعبَ الفلسطينيَّ يَعرِفُ كيفُ يُنتِجُ مقاومتَهُ وَفقاً لظروفِ كلِّ مرحلةٍ، ولا يستطيعُ أيُّ دَعِيٍّ أنْ يقولَ إنَّ مقاومتَهُ ستنتهي.

القرارُ الأخيرُ لمجلسِ الأمْنِ 2803 جَبَّ ما قبلَهُ. وهوَ مقارنةً بِغيرهِ يُعدُّ الأسوأ حتَّى الآن. ولا يُجْدِي نفعاً قناعُ الحديثِ عمَّا يُسمَّى “السلام” في إخفاءِ هذه الحقيقةِ. اِعتمَدَ القرارُ المذكورُ لعبةً مطَّاطيَّةً معهودةً فهو إذْ يُشيرُ إلى ما يُسمِّيهِ القراراتِ ذاتِ الصلةِ بـِ”الشرقِ الأوسطِ”، يتجاهلُ كليَّاً حقوقَ الشعوبِ في تقريرِ مصيرها، فيُصادرُ حقَّ الفلسطينيينَ في ذلك [حقُّهم في بناءِ دولتِهم الوطنيّةِ المستقلّة]، ويرْمي في سلَّةِ المُهمَلاتِ الدوْليَّةِ القرار194 [حقُّ الفلسطينيين بالعودة] والقرار242 والقرار 338 بالرغمِ من قصورِهما. إنَّه بِبساطةٍ يفتحُ مرحلةَ اِحتلالٍ اِستعماريٍّ ثانٍ في قطاعِ غزَّةَ على الطريقةِ الأميركيّةِ المُستوحاةِ من الإرثِ البريطاني، والمستندةِ إلى الخِذلانِ العربي.

الأدهى من ذلكَ أنَّ قرارَ مجلسِ الأمن الدوْلي المذكورَ يتستَّرُ بقواعدِ القانونِ الدوليِّ فيما هذه القواعدُ – على اِختلافِ المدارسِ الفقهيَّةِ – لا تأبهُ لقرارٍ دوْليٍّ مصيريٍّ من دونِ شرعيَّةٍ محليّةٍ وطنيَّةٍ، أيْ إنَّ الشرعيَّةَ الدوْليّةَ وحدَها لا تكفي لتحديدِ مصيرِ شعبٍ غيرِ راضٍ. وإذا كانَ مجلسُ الأمن قد تبنَّى خُطَّةَ ترامب، وهو يَعلمُ مُسبَّقاً أنَّ ما يُسمَّى بالسلطةِ الفلسطينيّةِ ستَزحَفُ مسرِعةً إلى الموافقةِ كما فعلَ أبو مازن، [أعلنَ موافقته في اليوم نفسهِ لصدور القرار] فإنَّ هذه السلطةَ نفسَها فاقدةٌ الشرعيّةَ، ولِذا أعْربَتْ فصائلُ المقاومةِ فوْراً رفْضَها القرار2803 وقطعتِ الدربَ على أبو مازن. ورسمتْ أُفقاً جديداً للصراع.

هذهِ الصورةُ تَتضِحُ بجَلاءٍ عندما ندرُسُ عدداً من النقاطِ البارزةِ في القرار:

أوَّلاً؛ إنشاءُ ما سٌُمِّيَ بـِ”مجلسِ ِالسلام “. وهو – في مضمونِهِ الذي حدَّدَهُ القرارُ – مجلسُ وصايةٍ على الشعبِ الفلسطيني، يتولَّى تبعاً للنصِّ “إدارةَ حكمٍ غيرِ سياسيٍ في غزَّةَ”، ويعملُ تنفيذيَّاً مع مصرَ و”إسرائيل”. ما يَدلُّ بِوضوحٍ قاطعٍ على إسقاطِ المعنى السياسي والوطني لقضيةِ فلسطين، وتحويلِها إلى مجرَّدِ حالةٍ أمنيّةٍ، وتكريسِ غزَّةَ مَنطِقةً مفصولةً نهائيَّاً عنِ الضفّةِ الغربيّة، وتغطيةِ مشروعِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ بالسيطرةِ المباشرةِ على 53% من أرضِ القطاعِ، وإبقاءِ 47% تحت وصايةِ ما سُمِّيَ”مجلسِ السلامِ” الذي تمتدُّ إليهِ اليدُ الإسرائيليّةُ من خلالِ النصِّ الذي يُقرِّرُ أنَّ عملَ المجلسِ يكونُ بالتنسيقِ مع إسرائيل ومصر.

ثانياً؛ تشكيلُ “قوَّةِ استقرارٍ دوليَّةٍ”. هذه هي التسميةُ التي اعتمدَها القرارُ لتمويهِ شخصيَّةِ هذه القوَّةِ ودورِها، غيرَ أنَّ فصائلَ المقاومةِ لم تنْطلِ عليها هذه الخديعةُ فرفَضتِ الفكرةَ من أصلِها، ولا سيَّما أنَّ القرار 2803 ينصُّ على أنَّ هذه القوةَ تعملُ مع إسرائيلَ ومصرَ والشرطةِ الفلسطينيَّة. وهكذا يتأكَّدُ أنَّ هذه القوةَ ستكونُ ذراعاً دوْليَّةً تُكْمِلُ دورَ الاحتلالِ في غزَّة وتتيحُ لهُ فرَصاً جديدةً لتوسيعِ الاستيطانِ، ولا تخفي حكومةُ العدوِّ نِيّتها في ذلك خصوصاً على لسانِ كلٍّ من نتنياهو وبن غفير وسموتريتش.

ثالثاً؛ ينُصُّ القرارُ المذكورُ على نزعِ سلاحِ المقاومةِ، وهذه أشدُّ المسائلِ خطورةً، فالشعبُ الفلسطينيُّ لا يُمكِنُ أن يُلقي سلاحَهُ من دونِ تحقيقِ أهدافِهِ، وهنا نكونُ أمامَ خياريْن: الأوَّلُ هو التمسُّكُ الفلسطينيُّ بالسلاح ِوَرقةً سياسيّةً وعسكريَّةً معَ إبداءِ القَبولِ بالتفاوضِ. والثاني، إذا رفضتِ الولاياتُ المتحدةُ وإسرائيلُ الخِيارَ الأوّل فإنَّ ما تُسمَّى ” قوَّةَ استقرار” ستتعرَّى من ثوبِها الخُلَّبِيِّ وتتحوَّلُ إلى قوةِ صدامٍ ومواجهةٍ مع الشعبِ الفلسطينيِّ أياً تكنِ الدولُ المشاركةُ فيها، وخيرُ دليلٍ ٍعلى ذلك تجارِبُ القواتِ متعدِّدةِ الجنسيَّاتِ في العالم ِ، ومنها في لبنانَ خلالَ ثمانينيَّات القرن الماضي.

رابعاً؛ يتحدَّثُ القرارُ عمَّا يُسمِّيهِ “إصلاحَ السلطةِ الفلسطينيَّةِ” ويرى أنَّهُ بعد ذلك يجري حوارٌ بين “إسرائيلَ” والفِلسطينيين من أجلِ “العيشِ السِلمي”. وما هذا الأمرُ في عمْقِهِ سوى تهجيرٍ مقنَّعٍ، وطردِ فصائلِ المقاومةِ كلِّها من حقِّ تمثيلِ شعبها، ربطاً بعنوانٍ سياسيٍّ خطيرٍ مغزاهُ “غزَّةُ مَنطقةٌ بلا هُوّيَّةٍ منزوعةُ السلاح”، كما يُريدُ تماماً ترامب ونتنياهو وربيبُهُما أبو مازن الذي يرى التنسيق مع إسرائيلَ غايةً “مقدَّسةً” قد تَضمنُ له البقاءَ على رأسِ كِيانٍ بلديٍّ في رام الله ليُسَمِّيهِ مستقبلاً دولةً فلسطينيَّةً بحسَبِ أوهامِه.

خامساً؛ نَعرِفُ جيِّداً أنَّ الدولةَ الفِلسطينيَّةَ المُرتجاةَ لن تقومَ إلَّا بنضالِ الشعبِ الفلسطينيِّ ومقاومتِهِ، ولكنْ إذا ناقشْنا القرارَ من زاويةِ القانونِ الدوْليِّ فإنَّ مجلسَ الأمنِ تجاهلَ كلُّيَّاً “حلَّ الدولتينِ” أيْ إنَّه ألغى نهائيَّاً أيَّ استنادٍ إلى القراراتِ السابقة: 181 و242 و338 ومن ثَمَّ لم يُبقِ على شيءٍ يمكنُ التفاوضُ عليه. وهو بذلك وجَّهَ رسالةً سياسيّةً عدوانيّةً شديدةَ الوضوحِ ستكونُ لها أبعادٌ مستقبليَّةٌ لا يُمْكِنُ إغفالُها وقد أشارَ إلى هذا الأمرِ مندوبا روسيا والصين اللذانِ اِمتنعا عنِ التصويتِ.

إقرأ على موقع 180  صدق من قال 100 عام حوار ولا ساعة قتال

القرارُ إذاً، أميركيٌ – إسرائيليٌّ صِرفٌ، مثقلٌ بأفخاخٍ كثيرةٍ، وبتزويرٍ في المفاهيمِ القانونيّةِ تحت غطاءِ الشرعيّةِ الدوليّةِ التي خرقَها هو نفسُهُ أصلاً. يمزجُ بين السلام ِوالوصايةِ وهما لا يجتمعانِ، ويتغاضى عن كلِّ جرائمِ الاحتلالِ قبلَ وقفِ إطلاقِ النار وبعدَهُ، وينسِفُ المرحلةَ الثانيةَ من اتفاقِ شرْمِ الشيخِ على رغمِ هشاشةِ هذا الاتفاق، ويمتنِعُ عن إدانةِ الاستيطان.

كلُّ ذلك يحملُ رسالةً في منتهى الخطورةِ ستظهرُ في المرحلةِ القريبةِ المقبلةِ، فهو يمهِّدُ لحربٍ جديدةٍ، ويقدِّمُ سلفاً تغطيةً لما سيرتكِبُهُ الاحتلالُ في غزَّة مجدَّداً، وفي الضفّةِ الغربيّةِ التي تجمَّعتْ فيها كلُّ عواملِ الانفجار، وباتتْ على أبوابِ انتفاضةٍ واسعةٍ. والأشدُّ خطورةً أنَّ القرارَ المذكورَ تريدُهُ الولاياتُ المتحدةُ أنْ يكونَ نَموذَجاً يُحْتذَى لا في فلسطينَ وحدَها بل في لبنانَ أيضاً، ذلكَ أنَّ الخُططَ الأميركيّةَ تستهدِفُ الجنوبَ اللبناني في محاولةٍ ليكونَ بُقعةً تحتَ سيطرتِها لخدمةِ “إسرائيل”، خالياً من السلاحِ ومن الهويَّةِ ومتاحاً للسيطرةِ على الماء والغاز. إنَّنا فعليَّاً أمام مرحلةٍ استعماريَّةٍ جديدةٍ يحتاجُ فيها اللبنانيُّون والفلسطينيُّون إلى التمسُّكِ بالمقاومةِ وبالسعْيِ إلى الوَحدةِ الوطنيّةِ، ولا سيَّما أنَّ العدوَّ الإسرائيلي لن يتردَّدَ في استغلالِ أيِّ ثغرةٍ، وفي افتعالِ أيِّ فتنة.

 

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الاتفاق التجاري بين الصين وأميركا.. هدوء نسبي