محطات لا تُنتسى: النذورات وقبلة الهلال وترام الحريم والخرزات..

تزحزحت عن معظم مواقعها الطبقة الوسطى المصرية خلال هذا القرن الذي مضى. لم تنتقل ولم تتحول ولكن تحركت قليلاً، تزحزحت. ما عهدناه عن إنسان الطبقة الوسطى، وبخاصة هذا الإنسان الذي وافق فاشترك عن قرب أو انضم واندمج في مشروع نهضة، عهدناه لا يذهب إلى الجديد إلا وقد ترك خلفه شيئاً أو أشياء. يقال عنه، تهذباً واحتراماً، إنه أخذ معه كل ما خف حمله وثقلت قيمته. أنا شخصياً، وقد عشت في هذه الطبقة في أكثر من حي، أؤكد عن خبرة مبررة أن أحداً من بين من عرفت انتقل من الحي الذي عشنا فيه إلا وكان حزيناً على فقد ما ترك وما تخلف وراءه من أفراد وأشياء.

تركت خلفي الكثير مما لا يمكن أن يكون مكروهاً في أي وقت أو زمن. تركت خلفي قبلة على الخد من أم رأت بالمصادفة قمراً على هيئة هلال يشق طريقه بنعومة ودلال نحو مكان في بطن سماء كادت تظلم فأنارها. أظن أنني حاولت تقليد ما فعلته أمي معي. فاجأت أحد أولادي وكان في مثل عمري وأنا أتلقى قبلة شروق الهلال قبل ثلاثين عامًا. أغمضت العينين كما فعلت أمي واحتضنت النجل العزيز ورحت أحاول طبع قبلة على جبينه وأنا أطلب منه أن ينظر في السماء فالقمر هلال مستجد. أمام رد فعل غير متقبل ولا متفهم لم أكرر فعلتي، أظن أنني تركتها مع كثير من مثيلاتها من تجارب وأفعال كانت محببة في الحي الذي تركت. بل وأعلم عن يقين أنه لم يأخذ فعلتي معه إلى أتلانتا في جورجيا أو إلى بورتلاند في أوريجون ولا إلى عواصم ولايات أمريكية أخرى شهدت تنشئة حفيديي الأمريكيين. كهذا تدفن العادات وكثير من التقاليد غير الضارة.

***

لن أنسى ليلة الوفاء بالنذر. أولاً، لأنني أكون قد شفيت من مرض عضال ألم بي ولم أتخلص منه إلا بعد أن نذرت أمي للسيدة زينب نذراً وتحقق وعدها بشفاء ابنها. ثانياً، لن أنساه، لأنه وبشفائي صار واجباً مقدساً تنفيذ النذر. أذكر البيت وقد امتلأت المسالك بين باب الخروج، أو ما كنا نسميه باب السكة، وبين المطبخ بأكوام أرغفة الخبز المجفف. أما المطبخ فقد ازدحم بـ”حلل” أو ما يشبهها ولكن أكبر كثيراً مما تعودنا على رؤيته في الاستعمال اليومي. اختلف أيضا المحتوى. ففي حال كان المرض عنيفاً وطويلاً كان المحتوى لحماً مسلوقاً وفي حال الشفاء من مرض بسيط كان المحتوى مع الأرز فولًا نابتًا مسلوقًا. كله يجري بالتعاون وعملاً بالمثل القديم “قلّل من النذر وأوفي”. في الحالتين، كان البيت يعج بأبناء وبنات العمارة، كل جاهز بخبرة سابقة في توزيع النذر على “مريدي” السيدة زينب، أو بخبرة حشو الأرغفة باللحم أو بالفول مع الأرز المسلوق. كهذا كانت تنتشر وتعم الفرحة بشفاء النجل العزيز.

***

كان واجباً أن نقضي كل نهاية أسبوع مطولة في البيت الكبير، بيت الحاجة جمال. نخرج من بيتنا وقبل أن نهبط إلى بطن الشارع تكون يد أمي قد قبضت بقوة على يدي ولن تتركها حرة إلا بعد صعودي قبلها إلى صالون الحريم في الترام. خلال الشارع كنت أمشي مزهواً بما كانت أمي تلقاه من احترام أصحاب الدكاكين وبوابي العمارات ومن عابري الطريق من الجيران. كانت تعرفهم بالاسم، وإذا اقترب منا سألته أمي عن زوجته وأولاده وأخبارهم، “عاملين إيه في المدرسة والعيان إتعالج والا لسه”. لا أظن أنني اندهشت إذ كنت لا أفارق مجال رؤيتها إذا نزلت من بيتنا لأقف على الناصية أو ألعب مع أصحابي. كانت في الأمسيات الهادئة تستمع إلى أحاديثنا وإذا غابت عنها معلومة لم تتردد في سؤالي عنها. كان الحي كتاباً مفتوحاً أمامها وربما كان من حسن حظها أو من حظنا أن التلفزيون لم يكن وصل إلينا بعد.

***

لا أذكر أنني رأيت وجه أمي تكسو بعضه مساحيق أو ألوان أو أنني رأيتها ترتدي للخروج ملابس ملونة. كان الأسود أو الغامق علامة نيتها الخروج من البيت. أنجبتني وكانت ربما في أوائل الثلاثينيات بعد معاندة من الطبيعة حرمتها من أطفال تنجبهم ولا يعيشون أو لا تنجبهم أحياء. سمعت أنها عاشت معذبة ومعذبة لباقي أفراد العائلة. سمعت أيضا أنها حرصت أن لا يراني غرباء إلا وكنت في ملابس الرضيعات و”الطفلات”. وإذا اشتد ضغط الوالد تحت ضغط ضيوفه من زملاء العمل كانت تصر على ضرورة التأكد من وجود الخرزات الزرق في مواقع متعددة من صدارة ملابسي. سمعت أيضاً أن والدي لم يظهر الحماسة الضرورية لهذا النوع من السلوك إلا بعد أن أبلغهم طبيب الأطفال الأشهر في ذلك الحين أن تظل حياتي في مراحلها الأولى محل رقابة مشددة.

***

أشهد أمام منصات التاريخ العديدة أنني عشت حياة حافلة وجيدة وبصحة معقولة بالرغم من، أو بسبب، كل الاحتياطات وملابس الفتيات والخرزات الزرق وحلقات التبخير في كل مناسبة وأي مناسبة، وبرغم القلق الناتج عن مشاركة نساء في صالون الحريم بالترام، كلهن حاسدات، في كل رحلة نهاية أسبوع نزور فيها الحاجة جمال.

(*) بالتزامن مع “الشروق” 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "إسرائيل اليوم": لنتدخل مع السعودية.. رأفة بلبنان!
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  في النهاية.. أنا إمرأة حرة