سوريا الجديدة.. الجنوب بين تعدّد الفاعلين المحليين والخارجيين (5)

شَهِدَ الجنوب السّوريّ (درعا، السويداء، القنيطرة) تحوُّلاً جذريّاً مُنذ كانون الأوّل/ديسمبر 2024، مع الانسحاب السّريع والشّامل لمؤسّسات الدّولة السّابقة من المنطقة العسكريّة والأمنيّة منها على وجه الخصوص. وخلال أيّام قليلة، اختفت الحواجز والثّكنات ونقاط المخابرات، ما أدّى إلى فراغٍ في السّلطة المركزيّة، فسارعت قوًى محلّيّةً متعدّدةَ إلى ملئه بأشكالٍ مختلفةٍ من التّنظيمات المسلّحة والإدارات المحلّيّة.

مع نهاية العام 2025، يمكن توصيف الجنوب السّوريّ بوصفه مساحةً تتقاطع فيها خمس كتل نفوذٍ رئيسيّة، لكلٍّ منها بنيتها وعلاقاتها الخارجيّة، دون وجود إطارٍ موحَّدٍ للقيادة أو الإدارة:

أوّلاً، “اللّواء الثّامن” بقيادة أحمد العودة، ويُعَدُّ من أكثر القوى تنظيمًا وتسليحًا في محافظة درعا. حيث يفرض اللّواء نفوذه على معظم مدينة درعا وأجزاءٍ واسعةٍ من ريفها الغربيّ، ويحتفظ بقنوات اتّصالٍ وتنسيقٍ مستمرٍّ مع الأردن، خصوصًا فيما يتعلّق بأمن الحدود والتّهريب وضبط التّحرّكات المسلّحة قرب الحدود. وقد تطوّر اللّواء خلال السّنوات الماضية من تشكيلٍ محلّيٍّ مدعومٍ روسيًّا إلى قوّةٍ شبه نظاميّةٍ تسعى إلى تقديم نفسها كجهةٍ ضابطةٍ للأمن في مناطق نفوذها.

ثانيًا، “حركة رجال الكرامة” في السّويداء، التي نشأت في الأصل كحركة احتجاجٍ ذات طابعٍ اجتماعيٍّ–مدنيّ، قبل أن تتّخذ شكل قوّةٍ مسلّحةٍ محلّيّةٍ متماسكةٍ نسبيًّا. إذ تسيطر الحركة على غالبيّة مناطق السّويداء، وترتكز في شرعيّتها على مرجعيّاتٍ دينيّةٍ–اجتماعيّةٍ داخل المجتمع الدرزيّ. كما تعلن الحركة رفضها لأيّ وجودٍ مسلّحٍ خارجيٍّ في المحافظة، وتسعى إلى إدارة شؤونها الأمنيّة والخدماتيّة عبر هياكل محلّيّة.

ثالثًا، “غرفة عمليّاتٍ عسكريّةٍ مدعومةٍ من “هيئة تحرير الشّام”، تنشط بشكلٍ خاصٍّ في أجزاءٍ من ريف درعا الشّرقيّ وتسعى إلى إعادة تنظيم المشهد الأمنيّ والإداريّ في مناطق نفوذها على نمطٍ قريبٍ من التّجربة في إدلب. ممّا يؤدّي إلى احتكاكاتٍ متكرّرةٍ مع قوًى وعشائر محلّيّةٍ تعارض نشوء نموذج حكمٍ ذي طابعٍ فوق محلّيٍّ أو خارجيّ المرجعيّة.

رابعًا، “تحالف العشائر الكبرى”، مثل الزّعبـيّ والمحاميد والحريريّ والرفاعيّ وغيرها، وهي تبسط نفوذها على أجزاءٍ واسعةٍ من الأرياف في درعا. يعتمد هذا التحالف على البنى العشائريّة وشبكات القرابة في تنظيم الحماية المحليّة وتسوية النّزاعات، ويُظْهِرُ تحفّظًا تجاه الخضوع لقيادةٍ عسكريّةٍ أو سياسيّةٍ مركزيّةٍ داخل الجنوب. وفي بعض المناطق، تتداخل حدود النّفوذ العشائريّ مع نفوذ التّشكيلات المسلّحة، ما يخلق أحيانًا محاور تحالفٍ وأحيانًا أخرى مناطق تنافس.

يمكن لأيّ مسارٍ تفاوضيٍّ شاملٍ بين الحكومة الجديدة والفاعلين المحلّيّين في الجنوب السوري، إذا ما دعمته توافقاتٌ إقليميّة، أنْ يفتح الباب تدريجيًّا أمام صيغ دمجٍ أمنيٍّ وإداريٍّ، تحدّ من مخاطر تفاقم التّفكّك، وتسهم في إعادة إدماج الجنوب ضمن هيكل الدّولة السّوريّة

خامسًا، “مجموعاتٌ من ضباط النّظام السّابق” في ريف القنيطرة، وما تزال فاعلةً في نطاقٍ محدودٍ. إذ تشير تقديراتٌ محلّيّةٌ إلى أنّ هذه المجموعات تستفيد من دعمٍ إسرائيليٍّ غير مباشرٍ أو مباشر، بهدف الإبقاء على وضعٍ أمنيٍّ يمنع عودة مجموعاتٍ مرتبطةٍ بإيران أو حزب الله إلى الشّريط الحدوديّ المحاذي للجولان. وعلى الرغم من عمل هذه التّشكيلات ضمن مساحةٍ جغرافيّةٍ ضيّقة، إلّا أنّها تؤثّر في معادلات الضّبط الأمنيّ على خطوط التّماسّ مع الجولان المحتلّ.

أمّا على المستوى الخارجيّ، فيلعب الأردن دورًا مؤثّرًا في الجنوب السّوريّ عبر شبكة علاقاتٍ مع عددٍ من الفصائل المحلّيّة. حيث تشير معطياتٌ ميدانيّةٌ إلى أنّ عمّان قدّمت دعمًا عسكريًّا ولوجستيًّا وتدريبيًّا لعددٍ من التّشكيلات، وأنشأَتْ قنوات اتصالٍ وغرف تنسيقٍ على الحدود لمتابعة قضايا التّهريب، خصوصًا المخدّرات والسّلاح، والتحرّكات المسلّحة. ويتمثّل الهدف المعلن للأردن في حماية أمنه الحدوديّ ومنع تسلّل الفوضى أو التّنظيمات المتطرّفة إلى أراضيه، مع السعي إلى ضبط التّوازن بين منع إعادة تشكّل سلطةٍ مركزيّةٍ قويّةٍ غير منسّقةٍ معه في الجنوب، ومنع انهيار أمنيّ شامل.

بدورها، نفّذت إسرائيل خلال العام 2025 عددًا من الضّربات الجويّة والتّوغّلات المحدودة في الجنوب السّوريّ، تحت عنوان منع إعادة تموضّع قوًى مرتبطةٍ بإيران أو حزب الله قرب الجولان. وقد أسهمت هذه العمليّات، إلى جانب دعمها لبعض المجموعات في ريف القنيطرة، في تكريس واقع تعدّد الجهات المسلّحة، ومنع نشوء قوّةٍ جنوبيّةٍ واحدةٍ ذات قدرةٍ على فرض سيطرةٍ موحَّدةٍ على كامل الشّريط الحدوديّ.

في حين أنّ روسيا، التي لعبت سابقًا دورًا مباشرًا في الجنوب عبر الشّرطة العسكريّة ورعاية اتّفاقات التّسوية، فقد انسحبت عمليًّا من المنطقة منذ أواخر 2024، في سياق إعادة تموضّعٍ أوسع لقوّاتها داخل سوريا. وكان إخلاء المواقع الرّوسيّة وانتهاء دورها كضامنٍ أو وسيطٍ بين الفصائل المختلفة قد ترك فراغًا في آليّات الضّبط والتّنسيق التي كانت قائمةً خلال الأعوام السّابقة.

وعلى الصّعيد الخليجيّ، تُسَجَّلُ ملامح تنافسٍ غير مباشرٍ بين بعض الدّول الخليجيّة عبر دعم فصائل متباينة التوجّهات. وتشير تقارير محلّيّةٍ إلى أنّ دولةً خليجيّةً تميل لدعم اللّواء الثامن وبعض التّشكيلات العشائريّة، في حين تتّجه دولةٌ خليجيّةٌ جارتها إلى فصائل أقرب أيديولوجيًّا إلى “هيئة تحرير الشّام” أو تيّاراتٍ إسلاميّةٍ أخرى. وهذا التّعدّد في خطوط الدّعم يسهم في زيادة تباين موازين القوى بين الفصائل، ويؤثّر في ديناميّات التّحالفات والصّراعات داخل القرى والبلدات.

أمّا على المستوى الدّاخليّ، فتظهر مجموعةٌ من المؤشّرات على هشاشة الوضع الأمنيّ والاجتماعيّ في الجنوب. حيث تُسَجَّلُ عشرات حوادث الاغتيال المتبادَل سنويًّا بين فاعلين محلّيّين مختلفين، مع صعوباتٍ متزايدةٍ في تأمين طرق التّنقّل بين المحافظات، مثل طريق درعا–السّويداء، الذي يمرّ بعدّة مناطق نفوذٍ تحتاج كلٌّ منها إلى تنسيقٍ أو تفاهماتٍ خاصّة. كما برزت أنشطة تهريب السّلاح والمخدّرات، وعلى رأسها الكبتاغون، كأحد مصادر الدّخل الأساسيّة لبعض المجموعات، وذلك في ظلّ تراجع القطاعات الزّراعيّة والتّجاريّة التّقليديّة.

تُسَجَّلُ ملامح تنافسٍ غير مباشرٍ بين بعض الدّول الخليجيّة عبر دعم فصائل متباينة التوجّهات. وتشير تقارير محلّيّةٍ إلى أنّ دولةً خليجيّةً تميل لدعم اللّواء الثامن وبعض التّشكيلات العشائريّة، في حين تتّجه دولةٌ خليجيّةٌ جارتها إلى فصائل أقرب أيديولوجيًّا إلى “هيئة تحرير الشّام” أو تيّاراتٍ إسلاميّةٍ أخرى. وهذا التّعدّد في خطوط الدّعم يسهم في زيادة تباين موازين القوى بين الفصائل، ويؤثّر في ديناميّات التّحالفات والصّراعات

ومن زاوية بناء الدّولة، يعكس الجنوب نموذجًا واضحًا لتحدّيات غياب مؤسّساتٍ وطنيّةٍ موحَّدةٍ في قطاعي الأمن والقضاء، وعودة أنماط الحماية والضّبط القائمة على الانتماءات العائليّة والعشائريّة أو الولاءات الفصائليّة. وهذا الواقع يطرح تحدّيًا أمام الحكومة السّوريّة الجديدة في دمشق، سواء لجهة بلورة سياسةٍ شاملةٍ لدمج الفصائل ضمن أطر ٍأمنيّةٍ وطنيّة، أو لجهة تطوير مقارباتٍ للّامركزيّة الإداريّة تراعي الخصوصيّات المحليّة دون تكريس واقع التفكّك.

إقرأ على موقع 180  ماذا إذا أشهر "الناتو" المادة 5 تهديداً أم تفعيلاً!

وفي الختام، إنّ استمرار تعدّد مراكز القوّة المحلّيّة وتضارب المصالح الإقليميّة في الجنوب قد يبقي هذا الإقليم في وضع “إدارة أمر واقع”، حيث تُدارُ الشّؤون اليوميّة عبر تفاهماتٍ محلّيّة–خارجيّةٍ متغيّرة، من دون انتقال إلى إطارٍ مستقرٍّ للحكم المحلّيّ المرتبط بمؤسّسات الدّولة المركزيّة. بالمقابل، يمكن لأيّ مسارٍ تفاوضيٍّ شاملٍ بين الحكومة الجديدة والفاعلين المحلّيّين في الجنوب السوري، إذا ما دعمته توافقاتٌ إقليميّة، أنْ يفتح الباب تدريجيًّا أمام صيغ دمجٍ أمنيٍّ وإداريٍّ، تحدّ من مخاطر تفاقم التّفكّك، وتسهم في إعادة إدماج الجنوب ضمن هيكل الدّولة السّوريّة.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  هكذا عاد "داعش" إلى قبضة الحُجّاج العراقيين