هل دخل لبنان مرحلة ما بعد الطائف؟

عقود مضت على توقيع اتفاق الطائف، الاتفاق الذي وُصف حينها بأنه نقطة الانطلاق نحو لبنان جديد؛ دولة مدنية حديثة تُعيد تنظيم السلطة بعد حرب أهلية استمرت خمسة عشر عامًا. آنذاك بدا الطائف كحل وسط بين القوى اللبنانية، بُني على توازنات إقليمية ودولية، وسعى لإعادة ترتيب الدولة على أسس دستورية جديدة، مع منح الطوائف اللبنانية حصصًا محددة في السلطة لضمان الاستقرار الدستوري.

لكن مع مرور السنوات، انكشفت هشاشة هذا الاتفاق، إذ لم يُطبَّق عدد كبير من بنوده، وترافقت محاولات الالتفاف على نصوصه مع تدخلات خارجية، وصعود ميليشيات مسلحة خارج سلطة الدولة، وهو ما جعل لبنان يواجه حالة الدولة الفاشلة العاجزة عن إدارة شؤون شعبها.

اليوم، ومع الانهيار الاقتصادي والشلل السياسي وتفكك مؤسسات الدولة، يطفو سؤال محوري مجددًا: هل الطائف ما يزال قائمًا كمرجعية دستورية وسياسية، أم أن لبنان دخل فعليًا مرحلة ما بعد الطائف؟

خلفية الاتفاق وظروف نشأته

اتفاق الطائف لم يكن مجرد نص لبناني داخلي، بل نتيجة تفاهمات دولية وإقليمية حساسة.

  • الدور السعودي: رعت السعودية الاتفاق لتقليل النفوذ السوري، وحماية مصالح حلفائها في لبنان، خصوصًا السنة.
  • الدور السوري: سعت سوريا لتثبيت نفوذها على لبنان، واستغلال الطائف كأداة للسيطرة على السلطة بعد الحرب.
  • الدور الأميركي: رأت فيه الولايات المتحدة فرصة لإنهاء النزاع بسرعة، وحماية أمن إسرائيل من جهة، ومنع انتشار النفوذ الإيراني من جهة أخرى.

يمكن وصف الطائف بأنه اتفاق لوقف إطلاق النار أو تسوية دولية أكثر من كونه عقدًا اجتماعيًا داخليًا. الاتفاق أعاد توزيع السلطة بين الطوائف، لكنه لم يعالج جذور الأزمة الطائفية أو يضع آليات فعالة لضمان تطبيقه. فالإلغاء النظري للطائفية السياسية، وإنشاء مجلس الشيوخ، وتوسيع صلاحيات الحكومة، كلها كانت بنودًا صعبة التطبيق بسبب غياب الإرادة السياسية والضغط الإقليمي.

الطائف كتسوية مرحلية

هكذا، بدا الطائف كحل مرحلي: هدنة بين القوى أكثر من كونه توافقًا دائمًا، ما ترك الباب مفتوحًا أمام محاولات الالتفاف على تطبيق نصوصه الإصلاحية.

لقد حاول الطائف تقديم “تسوية الحد الأدنى” للبنانيين، لكن مع توالي الإعتراضات عليه، صار عبارة عن “هدنة مؤقتة” أكثر من كونه توافقًا دائمًا. هذه الاعتراضات منذ البداية شكّلت قاعدة، إذ سرعان ما بدأت القوى السياسية باستخدام الطائف كأداة نفوذ وليس كمرجعية وطنية جامعة.

التدخلات الخارجية

كرّس نظام آل الأسد آنذاك حضوره في لبنان ليس بفعل اتفاق الطائف بقدر ما جاء ترجمة لمرحلة ما بعد الغزو العراقي للكويت وقرار حافظ الأسد بأن يكون شريكاً للأميركيين في تحرير الكويت. نال الأسد الأب مكافأة وفّرت له وصاية كاملة على لبنان حتى العام 2005. هذه الوصاية عطّلت الإصلاحات المنصوص عليها في الاتفاق، واستُخدم لبنان كصندوق بريد للصراعات الإقليمية.

إلى جانب ذلك، استمرار وجود سلاح حزب الله بعنوان “المقاومة” خارج سلطة الدولة خلق ثنائية ميليشيا – دولة، ما أضعف سيادة الدولة، وأبقى الطائف حبيس نصوصه النظرية من دون قدرة فعلية على التطبيق الكامل.

المحاصصة والشلل المؤسساتي

المحاصصة أصبحت سمة ثابتة، حيث يتم تقسيم المناصب والقرارات حسب الطائفة وليس حسب الكفاءة أو المصلحة الوطنية. هذا الأمر أدى إلى تفريغ المؤسسات من مضمونها، وخلق حالة شلل متواصل انعكست على الخدمات الأساسية والاقتصاد والحياة اليومية للمواطنين.

الطائف، وبرغم وضعه الإطار القانوني للنظام اللبناني، لم ينجح في بناء دولة قوية وفاعلة. دخول الأحزاب السياسية ومن ورائها الطوائف، إلى مفاصل الدولة أدى إلى ما يمكن تسميته تسييس الدولة بالكامل”. المؤسسات لم تعد مؤسسة جامعة أو قادرة على فرض القانون، بل تحولت إلى ساحة تقاسم حصص، حيث يُوزع النفوذ وفق المصالح الطائفية وليس وفق معايير وطنية.

الأزمات المتراكمة بعد 2005

غياب الآليات الدستورية والقانونية التي تضمن توازن السلطة بين المؤسسات جعل الدولة عاجزة عن مواجهة أزمات مالية، أو تقديم خدمات عامة أساسية، أو حماية سيادتها. الفساد المستشري على جميع المستويات أضعف قدرة الدولة على إدارة الاقتصاد أو الأمن الداخلي، وخلق حالة شبه فاشلة للدولة، حيث هي موجودة شكليًا ولكنها غائبة فعليًا في أدائها.

مستقبل الطائف يعتمد على إرادة القوى الداخلية لتجاوز المحاصصة وتوحيد الدولة، وعلى دعم المجتمع الدولي والإقليمي، إضافة إلى قبول الطوائف بإعادة صياغة العقد الإجتماعي بما يحمي هوياتها ويعزز مصلحة الدولة الجامعة

هذا الواقع بيّن أن الطائف لم ينهِ الصراع على السلطة بين الطوائف، بل أعطاه إطارًا مؤسساتيًا، لكنه ترك الفراغ الأخلاقي والسياسي الذي استغله كل طرف لتكريس نفوذه الشخصي والطائفي، ما جعل الدولة اللبنانية رهينة للأحزاب والميليشيات والمحاصصة، بدلًا من أن تكون مؤسسة جامعة لكل المواطنين.

اغتيال رفيق الحريري عام 2005 شكّل محطة مفصلية في التاريخ السياسي اللبناني. فقد كان الحريري يُعد من أبرز أعمدة إتفاق الطائف وأحد مهندسي التسوية الاقتصادية والسياسية التي أرسى دعائمها، غير أن اغتياله فجّر مشهداً جديداً أفضى إلى خروج القوات السورية تحت وطأة ضغط شعبي لبناني وضغط سياسي إقليمي ودولي. هذا الحدث كشف في الوقت نفسه هشاشة البنية المؤسساتية اللبنانية التي كانت تستند طويلاً إلى الوصاية السورية كضامن أساسي للتوازنات بين الطوائف والقوى الحزبية.

إقرأ على موقع 180  إيطاليا وتحدي "اللجوء الجنوبي".. سياسة الجدار أيضاً!

هذا الحدث أبرز محدودية قدرة الطائف على ضمان سيادة الدولة واستقلال القرار الوطني، وأعاد فتح النقاش حول مدى قدرة الدولة على إدارة نفسها دون تدخل خارجي.

سلاح حزب الله وإشكالية السيادة

يُعدّ سلاح حزب الله من أبرز العوامل المؤثرة في مصير اتفاق الطائف. فاستمراره خارج إطار الشرعية يُكرّس توازنات قوة موازية لسلطة الدولة، ويُلزم مؤسساتها بالتكيف مع واقع وجود ميليشيا مسلّحة. هذا يطرح إشكالية جوهرية: هل يمكن للطائف أن يظل إطارًا فعّالًا في غياب احتكار الدولة للقوة العسكرية؟

في هذا السياق، تُطرح خطط الحكومة بشأن نزع سلاح حزب الله كخطوة محتملة لإعادة التوازن إلى مؤسسات الدولة، لكنها في الوقت نفسه قد تفتح نقاشًا داخل البيئة الشيعية حول مدى شرعية الطائف، وما إذا كان لا يزال يعكس مصالح مختلف الطوائف في ظل التحولات الراهن؟.

استمرار سلاح حزب الله خارج الشرعية يجعل الطائف، برغم وجوده الدستوري، نصًا بلا مضمون عملي، ويجعل الدولة اللبنانية غير قادرة على فرض إرادتها الوطنية أو حماية مؤسساتها من التسلط الطائفي أو الحزبي.

أزمة النظام الحالي والبدائل

بعد أكثر من ثلاثة عقود على توقيع اتفاق الطائف، يجد لبنان نفسه أمام أزمة مركّبة متعددة الأبعاد – سياسية، اقتصادية واجتماعية – تكشف هشاشة الدولة اللبنانية وتُظهر فشل الطائف عمليًا في إدارة شؤون البلاد. ويتجلى ذلك في:

  • شلل مؤسسات الدولة الدستورية، رئاسةً وحكومةً ومجلسًا نيابيًا؛ هذه كلها تعطلت مراراً وبدت عاجزة عن اتخاذ قرارات حاسمة بفعل المحاصصة الطائفية والانقسامات الحادة بين القوى السياسية.
  • الصراع على النفوذ السياسي والموارد عمّق الانقسامات بين الطوائف والمناطق، ما أدى إلى إضعاف النسيج الاجتماعي وزيادة احتمالات النزاعات الداخلية.
  • بروز بدائل موازية للدولة من أحزاب وميليشيات وجمعيات غير حكومية باتت تؤدي وظائف أساسية يفترض أن تضطلع بها الدولة، كالأمن والخدمات، مما عزّز سلطة “اللا–دولة” على حساب المؤسسات الرسمية.

لبنان اليوم أمام خيار حاسم: إحياء الطائف وتطويره، أو الانتقال إلى مرحلة ما بعد الطائف بصياغة عقد اجتماعي جديد

في ظل هذه الأزمة المستمرة، برزت طروحات لإعادة صياغة العقد السياسي اللبناني:

  • الفيدرالية الموسعة: توزيع السلطة وفق الخصوصيات الطائفية والجغرافية للمناطق، بما يمنح كل منطقة قدرة على إدارة شؤونها الداخلية. لكن هذا الطرح يواجه رفضًا واسعًا من معظم القوى السياسية، كما من جهات إقليمية.
  • اللامركزية الإدارية الموسعة: صيغة أكثر واقعية تتيح للمناطق والطوائف هامشًا أكبر من الصلاحيات المحلية ضمن إطار الدولة المركزية، بما يُفترض أن يعزز الكفاءة الإدارية ويُلبي حاجات المواطنين بصورة أسرع.

لبنان بين الطائف وما بعده

لبنان اليوم يعيش مرحلة انتقالية بين نص الطائف وواقع الدولة الفعلي. السؤال المحوري: هل يمكن إحياء الطائف عبر تسوية داخلية أو دعم دولي، أم أن البلاد دخلت مرحلة ما بعد الطائف؟

برغم استمرار الطائف كنص دستوري، يفرض الواقع البحث عن بدائل عملية، مثل الفيدرالية الموسعة أو اللامركزية، لإعادة تنشيط الدولة. إلا أن استمرار المحاصصة الطائفية؛ وجود قوى مسلحة خارج الشرعية؛ والضغوط الإقليمية تجعل أي إصلاح تحديًا صعبًا.

مستقبل الطائف يعتمد على إرادة القوى الداخلية لتجاوز المحاصصة وتوحيد الدولة، وعلى دعم المجتمع الدولي والإقليمي، إضافة إلى قبول الطوائف بإعادة صياغة العقد الإجتماعي بما يحمي هوياتها ويعزز مصلحة الدولة الجامعة.

في النهاية، على الرغم من أن الطائف أنهى الحرب الأهلية، إلا أنه فقد فعاليته على أرض الواقع بفعل سلاح حزب الله، سقوط النظام السوري، اغتيال رفيق الحريري، واستمرار المحاصصة الطائفية.

لبنان اليوم أمام خيار حاسم: إحياء الطائف وتطويره، أو الانتقال إلى مرحلة ما بعد الطائف بصياغة عقد اجتماعي جديد.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  في زمن "الهويات".. "حرب استنزافٍ" جديدة بلا مقابل