“داعش”.. اقتصاد التطرّف وجغرافيا اليأس في العالم العربي

لم يعد تنظيم «داعش» ظاهرة أمنية عابرة أو تنظيمًا مسلحًا يمكن تحييده عبر التفوق العسكري وحده، بل بات نموذجًا مركّبًا للتطرّف العنيف، يقوم على تزاوجٍ خطير بين المال، والسلطة، والهشاشة الاجتماعية، والفراغ الفكري.

لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية، في ذروة تمدده، فقط من بين الأكثر وحشية في تاريخ الجماعات المسلحة، بل أيضًا من بين الأكثر ثراءً وتنظيمًا على المستوى المالي والبشري، ما مكّنه من الصمود، وإعادة التموضع، واستقطاب آلاف المقاتلين من بيئات متعددة. هذا الواقع يفرض مقاربة مختلفة في فهم التنظيم، تتجاوز التوصيف الأمني التقليدي، لتلامس الجذور البنيوية التي سمحت له بالتحول إلى كيان عابر للحدود، قادر على استثمار الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة العربية لصالح مشروعه التدميري.

أولًا؛ المال كأداة للسيطرة لا كغاية:

اعتمد «داعش» على منظومة مالية متشعبة وغير مسبوقة في تاريخ التنظيمات الجهادية. فقد شكّل النفط والغاز في سوريا والعراق، خلال فترة سيطرته، مصدرًا رئيسيًا للدخل، إلى جانب تجارة الآثار، وتهريب المخدرات، والخطف مقابل الفدية، وفرض الضرائب والإتاوات، وتبييض الأموال، وصولًا إلى الاتجار بالبشر وبيع الأعضاء البشرية.

غير أن خطورة هذه الموارد لا تكمن في حجمها فحسب، بل في كيفية توظيفها. فالتنظيم لم يتعامل مع المال بوصفه ثروة، بل باعتباره وسيلة لإنتاج السلطة، وشراء الولاءات، وبناء جهاز إداري وأمني، وتمويل ماكينة التجنيد. لقد نجح في تحويل الاقتصاد غير الشرعي إلى أداة حكم، ما منحه قدرة على الاستمرار حتى في ظل الحصار العسكري والاقتصادي.

ثانيًا؛ تفكيك أسطورة «الجاذبية العقائدية»:

على خلاف السرديات الشائعة، لا تشكّل العقيدة الدينية المتطرفة العامل الحاسم في جذب الغالبية الساحقة من المنتسبين إلى «داعش». فالدراسات الميدانية والتحقيقات الاجتماعية تؤكد أن التنظيم استثمر، قبل أي شيء آخر، في بؤس الواقع الاجتماعي وانسداد الأفق.

صحيح أن الخطاب الديني كان حاضرًا بقوة، لكنه جاء في كثير من الأحيان كغطاء أيديولوجي، لا كمحرّك أساسي. أما المحرّكات الفعلية فكانت التهميش، والبطالة، والفقر، والشعور بالإقصاء، وانعدام العدالة، وفقدان المعنى. لقد خاطب «داعش» إحباط الأفراد أكثر مما خاطب إيمانهم، ونجح في تحويل الغضب واليأس إلى عنف منظّم.

ثالثًا؛ البطالة.. الوقود الصامت للتطرّف:

شكّلت البطالة، ولا سيما بين الشباب، أحد أخطر مصادر القوة البشرية للتنظيم. ففي عام 2014، بلغت معدلات البطالة في العالم العربي نحو 18%، فيما تجاوزت نسبة البطالة بين الشباب 30% في عدد من الدول. وهي أرقام تعكس خللًا بنيويًا في الاقتصادات العربية، لا مجرد أزمة عابرة.

ومع معدلات نمو اقتصادي لم تتجاوز 3% في معظم الدول العربية، باتت أسواق العمل عاجزة عن استيعاب الداخلين الجدد، ما أدى إلى تراكم الإحباط، خصوصًا لدى المتعلمين. وفي ظل تراجع دور الدولة الاجتماعي، وتفكيك نظم الرعاية من دون بدائل حقيقية، وجد كثير من الشباب أنفسهم خارج أي أفق اقتصادي أو اجتماعي، ما جعلهم أهدافًا سهلة لخطاب التنظيم وإغراءاته المالية.

لم يكن «داعش» مجرد تنظيم إرهابي، بل مشروعًا يقوم على إدارة اليأس. لقد قدّم نفسه كبديل عن الدولة الغائبة، وعن العدالة المفقودة، وعن المستقبل المسدود. وفي مجتمعات تعاني من الاستبداد، والفساد، والتفاوت الاجتماعي، وانهيار الثقة بين الفرد والمؤسسة، وجد هذا الخطاب تربة مناسبة للانتشار

رابعًا؛ تهميش المعرفة وصناعة الجهل:

إلى جانب الفقر والبطالة، استفاد «داعش» من أزمة عميقة في بنية المعرفة والتعليم في العالم العربي. فانتشار الأمية، وارتفاع معدلات التسرب المدرسي، وضعف جودة التعليم، كلها عوامل أسهمت في إنتاج بيئات هشّة قابلة للاختراق.

إن وجود نحو 98 مليون أمي في العالم العربي، وحرمان ملايين الأطفال من التعليم الأساسي، لا يمثل مجرد فشل تنموي، بل تهديدًا مباشرًا للأمن الاجتماعي. فالجهل لا يولّد التطرف بالضرورة، لكنه يسهّل استغلاله وتوجيهه. وقد أدرك «داعش» هذه الحقيقة مبكرًا، فعمل على تكريسها في المناطق التي سيطر عليها، عبر تدمير المناهج، وفرض رسوم على التعليم، وتحويل المدرسة إلى أداة إخضاع لا تحرّر.

خامسًا؛ اليأس بوصفه مشروعًا سياسيًا:

لم يكن «داعش» مجرد تنظيم إرهابي، بل مشروعًا يقوم على إدارة اليأس. لقد قدّم نفسه كبديل عن الدولة الغائبة، وعن العدالة المفقودة، وعن المستقبل المسدود. وفي مجتمعات تعاني من الاستبداد، والفساد، والتفاوت الاجتماعي، وانهيار الثقة بين الفرد والمؤسسة، وجد هذا الخطاب تربة مناسبة للانتشار.

ومن هنا، فإن مواجهة التنظيم لا يمكن أن تنجح من دون معالجة أسباب هذا اليأس المزمن، الذي يشكّل الخزان الحقيقي للتطرّف، ويتجاوز في خطورته السلاح والمال معًا.

سادسًا؛ حدود الحل العسكري:

لا جدال في أن الضربات العسكرية كانت ضرورية لإضعاف «داعش» وتفكيك سيطرته الجغرافية، لكنها أثبتت، في الوقت نفسه، عجزها عن القضاء على الفكرة التي يمثلها. فالتنظيم يمكن أن يُهزم عسكريًا، لكنه قادر على إعادة التشكل ما دامت الشروط التي أنجبته قائمة.

إقرأ على موقع 180  برّاك استغل غياب مُنتظر الزيّدي.. فأذلته سيّدات الجنوب

إن المعركة الحقيقية هي معركة تنموية، تعليمية، ثقافية، واقتصادية، إلى جانب كونها أمنية. وهي معركة طويلة الأمد، تتطلب سياسات شجاعة تعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية، وتستثمر في الإنسان، وتفتح أفق الأمل أمام الأجيال الشابة.

سابعًا؛ تجديد الخطاب الديني:

إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز الحاجة إلى قراءة متجددة للخطاب الديني، قراءة تحرّره من التوظيف السياسي والتأويل المتطرف، وتعيد ربطه بقيم العقل، والكرامة الإنسانية، والتعايش. فغياب خطاب ديني تنويري ترك فراغًا ملأته جماعات العنف بخطاب تبسيطي وعدمي، يستثمر في الغرائز لا في القيم.

في الخلاصة؛ إن «داعش» لم يكن حادثة استثنائية، بل نتيجة منطقية لمسار طويل من الفشل السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم العربي. ومن دون مواجهة هذا الفشل بجرأة ومسؤولية، ستظل التنظيمات المتطرفة قادرة على إعادة إنتاج نفسها، بأسماء مختلفة وأشكال متحوّلة؛ فالحرب على «داعش» ليست حربًا على تنظيم، بل حرب على شروط ولادته. وهي معركة لا تُحسم في ساحات القتال وحدها، بل في المدارس، والجامعات، وفرص العمل، وعدالة التوزيع، وكرامة الإنسان.

Print Friendly, PDF & Email
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  صورتان كاشفتان.. مهانة مع ترامب وثقة مع "شي" ورفاقه الجنوبيين!