لماذا تصمت السلطة في لبنان؟

يطرح الحراك اللبناني الحالي أسئلة كثيرة، خاصة وأن لبنان لطالما كان تاريخيا مجرد ساحة أو وظيفة أو دور.

مَن يشاهد عبر شاشات التلفزة الساحات المكتظّة بحشود اللبنانيّين، ويستمع إلى النقاشات التي تدور في الخيم المنصوبة في المواقع المركزية للحراك الشعبي، يتساءل في سرِّه: “ما الذي سيُعيد هؤلاء الناس إلى بيوتهم، غير قدرة قادر”؟

محوران يدور حولهما الكلام دورةً كاملة ليعود إلى نقطة الإنطلاق، فيؤكّد على ثابتتيْن لا ثالثة لهما: قبل 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019 لا يمكن أن يكون كما بعده؛ ولا تفاوض مع السلطة برموزها الحالية (كما يؤكد المنتفضون).

إذن، لن يقبل الناس بالجلوس للحوار والتفاوض مع أيٍّ من الحكّام الحاليّين (كما طالب رئيس البلاد العماد ميشال عون)، بل إنّهم ينتظرون “مبادرةً ما” من السلطة، تكون تلبّي، بالحدِّ الأدنى، أدنى نقطة في لوائح المطالب (التي يصرّون على أنّها حقوق لا مطالب). ولكن لماذا هذا الصمت المطبق في “جنّة الحكم”؟ ولماذا لا تبادر سلطةٌ ساقطة (نظرياً) وخائفة وعاجزة (عملياً)، إلى أيّ خطوة يمكن لها أن تهدِّئ من الغضبة الشعبية العارمة على طول الوطن وعرضه؟

لا يمكننا، بالطبع، الادّعاء بامتلاك معلوماتٍ من أيٍّ من الشخصيات المصوَّب عليها من حشود الانتفاضة. حتى الصحافيون “القادرون”، سُدَّت أمامهم منافذ قصور السلطة ومراكزها ومحمياتها، ومُنعَت عليهم تسريبات مصادرهم المعلومة والمجهولة. لكن يمكن للمرء المطّلع (ولو قليلاً) أن يراقب ويستنتج ويخلص إلى الآتي:

أولاً، تراهن السلطة على الوقت (كما تُجمِع معظم التحليلات الصحفية) كي يتمّ تنفيس الاحتقان الشعبي، من خلال سحْب أو انسحاب الناس من الساحات والطرقات والمفارق، وهكذا تنتهي الحكاية (كما تعتقد) على طريقة “يا دار ما دخلك شرّ”.

ثانياً، تراهن السلطة على ضرب الحراك “من قلبه” عبر ما يُسمَّى في النظريات الإعلامية “الخطاب النزاعي”، أي ذاك الذي يسعى إلى دفْع الجمهور (ناس الحراك بخاصّة واللبنانيّين بعامّة) للتشكيك بـ”الجهة المدبِّرة والموجِّهة” للإنتفاضة، وتجريدها من الشرعيّة عبر تصنيفها وتوصيفها بألفاظ سلبية شتّى.

لِمَا العجلة طالما ما زال في الأفق أملٌ بتشغيل طابور خامس وسادس وسابع… وإقحام أحصنة طروادة داخلية وخارجية بين المنتفضين لإضعاف الحراك

ثالثاً، تراهن السلطة على “رضوخ” الحراك وتشكيل قيادة منه، وهكذا تجرّه مُرغَماً ولكن “بأسلوب راقٍ وحضاري” إلى التفاوض معها وتقديم التنازلات، وتُشغِل الناس، تالياً، بالخلافات والمواجهات الداخلية عوضاً عن مواجهة السلطة، فتحترق الانتفاضة عندما تحترق قيادتها (ألَمْ يحدث ذلك سابقاً؟).

رابعاً، تنتظر السلطة نفاد كلّ العتاد والأسلحة التي بحوزتها وحوزة حلفائها قبل أن تبادر إلى أيّ تنازل، فلِمَا العجلة طالما ما زال في الأفق أملٌ بتشغيل طابور خامس وسادس وسابع… وإقحام أحصنة طروادة داخلية وخارجية بين المنتفضين لإضعاف الحراك (القضاء عليه)؟

خامساً، اعتادت السلطة في لبنان على أخْذ (سرقة؟) المكاسب فقط، ولم تعتد، مطلقاً، على إعطاء أيّ شيء، اللهمَّ إلاّ من جعبة الدولة الفارغة.

سادساً، تنتظر السلطة متوجّسةً، وكما في كلّ الأزمات، إشاراتٍ من دولٍ غربية أو إقليمية أو عربية لم تخذلها، ولا مرّة، في إملاء سيناريو تتولّى هي (السلطة) شرف إخراجه. لكنّ هذه الإشارات، تأخرّت أو إنّها تأتي بوتيرة بطيئة، ربما لأنّ هذا الخارج ينتظر، بدوره، ما سيؤول إليه الغضب الشعبي على الأرض.

سابعاً، هناك صراع داخل أروقة السلطة نفسها على تحديد الخسائر وتوزيعها، وكيفية الاستمرار في المرحلة المقبلة عبر حجم الحصص المأمول به (لكلّ طرف) في أيّ حكومة قد تولد من رحم الإنتفاضة على أنقاض تلك التي ستسقط.

ثامناً (وربما هذا الأهمّ)، السلطة في لبنان مصابة بحالة شلل نصفي ومربَكة، إلى أقصى الحدود، كونها لم تواجه هكذا موقفاً من قبل. فحكّام لبنان يجدون أنفسهم، ولأول مرّة في تاريخهم، مضطرّين للتعامل مع “الشعب” الذي لطالما كانوا يروْن إليه كشوارع متنازعة ومتخاصمة، على رأس كلٍّ منها واحدٌ منهم. وعندما كان يثور هذا الشارع أو ذاك، كنّا نراهم يسرعون لاهثين لفتْح البازار مع “كرّازه” وتقديم “يللي بيطلع من خاطرهم” للمعوزين من الموارنة أو السنّة أو الشيعة أو الدروز… وهكذا، لذلك، ها هم اليوم يبحثون، من دون جدوى، عن “زعيم” هذه الشوارع كي يتفاوضوا معه.

كلمة أخيرة. كلّ المؤشرات تقول بأنّ اليوم ليس كالأمس وليس كالأيام الآتية. السلطة في لبنان ساقطة أخلاقياً منذ بدء التكوين، وهي سقطت شعبياً خلال العشرة أيام المنصرمة، فهل ستسقط سياسياً في الساعات المقبلة؟ هذا ما تطالب به حناجر مئات الألاف من اللبنانيّين.

(*) أستاذة في الجامعة اللبنانية (كلية الإعلام)

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إسرائيل: هذا وقت "الضربة القاتلة" للإيرانيين في سوريا والعراق!
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  قررت أن أتكلم.. وأن أكتب