

منذ انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد، قبل ستة أشهر وحلول الإدارة السورية الجديدة مكانه بقيادة أحمد الشرع، سارعت “إسرائيل” إلى شن آلاف الغارات الجوية التي استهدفت القدرات العسكرية السورية، الجوية والبحرية والبرية ودفعت بجيشها براً لاحتلال أراض سورية جديدة تبعد أقل من عشرين كيلومتراً عن العاصمة دمشق، لتُكرّس نفسها لاعباً أساسياً في المشهد السوري.
غير أن هذه الاندفاعة “الإسرائيلية” أثارت حفيظة تركيا، الراعي الفعلي للحكم السوري الجديد، فتوجه الرئيس رجب طيب اردوغان إلى صديقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطالباً بلجم “إسرائيل” على الأراضي السورية، فكان له ما أراد، إذ أن الأخير أبلغ نتنياهو خلال آخر لقاء بينهما في البيت الأبيض أن اردوغان صديقه ولا يرضى بازعاجه. وأتبع ترامب كلامه هذا باستقبال أحمد الشرع في الرياض بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترافق ذلك مع اعلان الولايات المتحدة رفع عقوباتها الاقتصادية عن سوريا مقابل خطوات سياسية معينة أبرزها سلوك مسار التطبيع مع “إسرائيل”. وبالتزامن، أعلنت الإدارة الأميركية عن تخفيض عديد قواتها في الشمال السوري إلى النصف وباشرت فوراً بسحب ألف من جنودها هناك كما دفعت حليفها الكردي في سوريا (قسد) لتوقيع اتفاق مع الشرع يؤكد موافقة الأكراد على الاندماج في مؤسسات النظام السوري الجديد، كما أعلن زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان المسجون في تركيا منذ نحو ثلاثين عاماً عن حل حزبه ووقف كل أعماله العسكرية.
فهم نتنياهو الرسالة الأميركية فسارع إلى الموافقة على اجراء حوار مع تركيا بشأن الوضع السوري، فجرى هذا الحوار بعيداً عن الأضواء في العاصمة الأذربيجانية باكو على عدة جولات لم يعلن عن نتائجها. لكن ما تبعها من تطورات على الأرض يشير إلى أن الطرفين اتفقا على الحفاظ على “الستاتيكو” السوري القائم حالياً، إذ أن هذا “الستاتيكو” يُعطي أنقرة فرصة التقاط أنفاسها في ضوء ما نجحت بفرضه، أي فرض نظام إسلامي منفتح في إدارته الداخلية ومرتبط بالغرب، ومطبع مع “إسرائيل”. وبالتالي من شأن هكذا نظام في سوريا أن يُشكّل منصة لتوسيع النفوذ التركي باتجاه العراق ولبنان لإحياء الحلم الأردوغاني في إعادة احياء “العثمانية الجديدة”.
يُمكن القول إن نتائج المفاوضات الأميركية الإيرانية من شأنها إعادة تركيب كل المشهد الشرق أوسطي، ففشل هذه المفاوضات يُهدّد باندلاع حرب إقليمية واسعة لا أحد يستطيع التنبؤ ببداياتها أو نهاياتها… أما في حال نجاحها فيعني ذلك إعادة رسم خارطة النفوذ الاقليمي لكل من تركيا وإسرائيل وإيران والسعودية وروسيا. وأيضاً لا أحد يعرف موقع وحصة كل من هذه الدول في الخريطة الجديدة للمنطقة، ولا كيف ستكون خارطة التحالفات فيها
وإذا كان الشرع قد وجّه رسائل علنية لـ”إسرائيل” بامكانية التطبيع معها، فإن الكلام شيء والواقع شيء آخر. فأي تطبيع يمكن للشرع أن يمضي به في ظل تمسك “إسرائيل” باحتلال مرتفعات الجولان السورية واختراقها منذ ستة أشهر خط الهدنة وتوسيع احتلالها إلى أراضي سورية جديدة (تزيد مساحتها عن 600 كلم2)؟
لقد هلّل معظم الشعب السوري لسقوط نظام آل الأسد، لكن الروح الوطنية السورية لا يُمكن التفريط بها وهي ليست ملك نظام أو حزب بعينه. إن من شأن أي خطوة يقوم بها الشرع ويلتمس من خلالها الشعب السوري بشيء من التفريط بسيادته على أرضه سيترتب عليها إعادة خلط الأوراق السورية، بدءاً من “هيئة تحرير الشام” بفصائلها كافة، الأمر الذي يفتح الباب أمام خطر الإطاحة بالشرع وداعميه على أيدي السوريين الذين أيّدوه وهللوا لسقوط النظام السابق.
ويدرك كثيرون أن نظام الأسد الأب والابن رفض رفضاً قاطعاً التفريط ولو بشبر واحد من الأراضي السورية وما مفاوضات جنيف عام 2000 التي جرت بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والرئيس السوري الراحل حافظ الاسد إلا مثالاً على ذلك حيث توقفت المفاوضات بسبب إصرار الأخير على عدم التنازل عن أمتار قليلة في بحيرة طبريا. بالمقابل، فإن سلوك حكومة نتنياهو يجعل من الصعب التوصل إلى أي اتفاق بينها وبين الشرع ينص على الانسحاب من مرتفعات الجولان التي كانت “إسرائيل” قد اعلنت ضمها في العام 1981.
ومع صعوبة التقارب السوري “الإسرائيلي”، فإن تحييد العامل “الإسرائيلي” على الأرض السورية ليس هو العائق الخارجي الوحيد أمام الاستقرار فيها، على أهمية هذا العائق من الناحيتين الاستراتيجية والآنية معاً. ثمة عوامل أخرى أكثر تعقيداً، وأبرزها الوجود العسكري الروسي الذي لم يتعرض حتى الآن لضغوط جدية من أجل الخروج من الأرض السورية، وهذا الأمر قد يكون مرتبطاً أيضاً بما ستؤول إليه الحرب في أوكرانيا وما هي الأثمان التي يُمكن دفعها لوقف هذه الحرب؟
أما العوائق الداخلية التي تواجه إعادة استقرار سوريا فإن أبرزها هو تعدد التنظيمات الأصولية التي شاركت الشرع و”هيئة تحرير الشام” في اسقاط نظام الأسد وباتت تعتبر نفسها شريكة في غنائم السلطة، استكمالا لشراكتها بالتضحيات خلال الحرب، وهذه التنظيمات ليست مطواعة للشرع ولا هي على استعداد لخلع ثياب القتال وارتداء البذات الرسمية وربطات العنق كما فعل هو، لا سيما أن بينها عشرات آلاف المقاتلين الأجانب المتمسكين بسلفيتهم وأصوليتهم وعقيدتهم، بدليل الأحداث التي شهدتها مناطق الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية، ناهيك عن سلوكيات يومية داخل العاصمة دمشق حيث يُهاجمون المطاعم ويمنعون زبائنها من الاختلاط، ذكوراً وإناثاً، فضلاً عن منع المطاعم من بيع الخمور.
في مواجهة هذه السلوكيات، لم يبلور أحمد الشرع استراتيجية واضحة في التعامل مع قضية المقاتلين الأجانب، في ظل قبول أميركي بدمج جزء (بضعة آلاف) في صفوف الجيش السوري بعد تجنيسهم ومنح بعض قادتهم رتباً عسكرية عالية حتى قبل أن يعطيهم الجنسية السورية، برغم عدم خضوعهم لدورات تدريبية تؤهلهم لهذه الرتب، ليصبح ذلك بمثابة رشوة لهؤلاء القادة بهدف كسب ولائهم ولا سيما أن بعض المجموعات تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من النواة الصلبة الحامية للنظام الجديد. في المقابل، وردعاً لأعمالهم الانتقامية بحق الأقليات، استصدر الشرع من مفتي سوريا الشيخ أسامة الرفاعي الذي عيّنه خلفاً للمفتي السابق الموقوف أحمد بدر الدين حسون (يُقال إنه تعرض لتعذيب جسدي شديد استدعى نقله للمستشفى) فتوى دينية تُحرّم أية عمليات قتل خارج نطاق القانون الوضعي، وفي هذه الفتوى محاولة ايديولوجية دينية للجم عمليات القتل الانتقامية التي تقوم بها هذه الجماعات وتهديد لها بتعرضها للمحاسبة القانونية كونها تُخالف بذلك الشريعة والقانون في آن معاً إذا تمادت في ارتكاب مثل هذه الأعمال.
ثمة عوامل أخرى تتصل باستقرار سوريا، أبرزها اعادة اعمار سوريا بعد حرب استمرت 15 عاماً دمرت خلالها الكثير من البنى التحتية والمدارس والمصانع والأبنية السكنية والتي تزيد كلفتها عن عشرات وربما مئات مليارات الدولارات. ولا شك أن عملية إعادة الإعمار تصطدم بـ”قانون قيصر” الذي فرضته الولايات المتحدة على سوريا، والذي لم يلغَ بعد، حيث اكتفت الإدارة الأميركية برفع جزئي للعقوبات لا يتيح اطلاق عملية إعادة الإعمار على نطاق واسع. وحتى لو ألغي “قانون قيصر” اليوم، فإن ما ستشهده سوريا سيكون عبارة عن تنافس بين المحور القطري التركي من جهة ودول الخليج من جهة أخرى. غير أن ضابط الايقاع في هذا التنافس هو المايسترو الأميركي الذي قرّب وجهات النظر بين تركيا والسعودية وقطر من جهة وضبط التدخل الإماراتي من جهة ثانية.
لن يكون المشهد السوري منفصلاً عن مآلات المشهد الأميركي الإيراني، ولا سيما في ظل قيادة دونالد ترامب، ذلك أن كل ما كان يقيناً لم يعد كذلك وبالتالي يجب انتظار مآلات هذا المسار وانعكاساته على مجمل المشهد الإقليمي والدولي.