ثلاثون سنة من الحريرية السياسية والإقتصادية والمالية “أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم”. خرج لبنان من حربه الأهلية التي دامت 15 عاما بدين عام لم يتجاوز المليار ونصف المليار دولار، ليجد نفسه حالياً أمام دين تجاوز المئة مليار دولار أميركي. لذلك، لم يُفاجأ جورج قرم بما يسميها العامية الشعبية اللبنانية الحالية. هي إمتداد للإنتفاضات الشعبية العربية التي إندلعت في العام 2011، وكذلك إمتداد للسترات الصفراء في فرنسا منذ سنة حتى الآن. يراهن على قوة حركة الإحتجاج وصدقها وعفويتها وشعاراتها وزخمها ولكنه يخشى عليها من أهل النظام الطائفي الذين يستميتون عادة للدفاع عن مصالح لا يمكن أن يوفرها لهم إلا النظام الطائفي التقليدي.
في ما يلي الجزء الثاني والأخير من الحوار مع جورج قرم:
-أين تُصنّف لبنان ضمن خارطة المنطقة؟
-لبنان كالعادة في كل تاريخه الحديث مبني على تناقضات القوى الإستعمارية الغربية. إذا لاحظنا أنه منذ العاميات اللبنانية في العام 1820 ثم المجازر التي إرتكبت للمرة الأولى في تاريخ لبنان بين طائفتين لبنانيتين أصيلتين (الموارنة والدروز) في 1840 ثم 1845، وبلغت ذروتها في 1860، وهذه أتت نتيجة صراع بين الإمبرياليتين الفرنسية والبريطانية. لذلك، أحدد وأحلل وأفسر وضع لبنان بأنه الدولة الحاجز (Buffer state).
-لبنان الدولة الحاجز نتيجة صراع إمبريالي تاريخي. اليوم الصراع بين مَن ومَن؟
-اليوم، عندك التناقض السعودي ـ الإيراني، وهو المهيمن. أيضا عندك التناقض الإيراني ـ الإسرائيلي. برغم ذلك، أعتقد أن لا أحد في لبنان اليوم، إلا ربما قوى هامشية جدا أو تمثل عقلا متخلفا، يمكن أن تفكر بإقامة علاقات مع الدولة الصهيونية. صياغة الميثاق الوطني اللبناني تعبر في مكان ما عن مشكلة لبنان بين الشرق والغرب كساحة تصادم بينهما، وإذا نظرنا إلى فترة المتصرفية، نجد أنه كانت هناك إمبريالية جماعية، أي ان الدول الأوروبية الخمس المهمة، آنذاك، هي التي كانت تشرف على إدارة لبنان بواسطة حاكم عثماني ارمني، وبالفعل صارت عندنا فترة إزدهار وهدوء إستمرت من 1860 حتى الحرب العالمية الأولى. هذا هو تاريخ لبنان. حقبات إستقرار تدوم لفترة زمنية معينة، ولكن يبقى لبنان على خط الزلازل. شاهدناها في العام 1958، ثم في نهاية الستينيات ثم في الحرب الأهلية في العام 1975. حتى إتفاق الطائف في العام 1989 كانت صياغته ضبابية وجرى تنفيذه تحت مظلة ثلاثية توافقية أميركية سورية سعودية. الميثاق الوطني يأتي نتيجة الوضع الصدامي الذي يتعرض له لبنان بصفته دولة الحاجز.
-أليس تناقض الثنائية الأميركية ـ الإيرانية هو المهيمن على لبنان؟
-نعم.
-ومن يحمي لبنان في ظل هكذا تناقض؟
-حتى الآن، الحمد لله أنه لم تحصل صدامات مسلحة. لذلك، أنا نصحت حكوماتنا أن تعيد العلاقات مع سوريا بأسرع وقت للتسريع بعودة النازحين السوريين خاصة وأن معظم الإقتصاديين اللبنانيين متفقون على أن كمية اللاجئين السوريين بالبلد أدت إلى المزيد من إفقار اللبنانيين الفقراء.
-كيف نعيد اللاجئين السوريين إلى بلادهم والحرب مستمرة؟
-نعم، لا يمكنك أن ترجعهم بالقوة، لكن لو كان هناك عقل متنور أكثر، كان بالإمكان الإستفادة من وجود اللاجئين السوريين في لبنان من أجل وضع خطة لنهضة لبنان إقتصادياً. في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان إزدهار إقتصادنا يقوم على مزيج من استثمار قدرات بشريّة عالية الكفاءة خارجيا، واستقدام عمالة فلسطينية وسورية منخفضة الأجر داخليا. طريقة إدارة الإقتصاد اللبناني في ظل الحريرية هي التي أدت إلى إفقار اللبنانيين وحصل نهب لإمكانات البلد وثرواته. خرج لبنان من حربه الأهلية التي دامت خمسة عشرا عاما بدين عام لم يتجاوز المليار ونصف المليار دولار، ليجد نفسه حالياً أمام دين تجاوز المئة مليار دولار أميركي.
أفرغوا البلد من أي مصدر للقوة الإقتصادية الذاتية ومنطق المسكنات لم يعد يفيد. لبنان يحتاج إلى تغيير جذري وشامل في السياسات الإقتصادية والمالية
-هل فاجأتك إنتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019؟
-لم تفاجئني الإنتفاضة الشعبية بل أعتبرها إستمراراً لمسار العام 2011، وهناك تأثير أيضا لظاهرة السترات الصفراء في فرنسا. مَن يتأمّل الواقع اللبنانيَّ في السنوات الأخيرة، لن يشك للحظة واحدة بإمكانيّة انفجار الشارع اللبنانيّ.
-ماذا تسمي هذا الإنفجار: إنتفاضة، حراك أم ثورة؟
-أسميها عامية شعبية. هناك عاميات شعبية لبنانية حصلت في القرن التاسع عشر. اليوم، نحن أمام عامية شعبية جديدة بمضمون إجتماعي وهي تشمل كل مناطق لبنان وكل الشعب اللبناني، ونواتها الأساس هي الطبقة الوسطى بمستوياتها كافة.
-ما الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه؟
-ثلاثون سنة من الحريرية السياسية والإقتصادية والمالية هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. هم أفرغوا البلد من أي مصدر للقوة الإقتصادية الذاتية. لذلك لم يعد بمقدورهم تمديد عمر هذه المنظومة.. طالما هناك نفوذ ضخم لجمعية المصارف لن تتغير المعادلة. إسقاط حكومة عمر كرامي في الشارع عام 1992، كان المدخل لتجذير الحريرية السياسية في البلد. أتى رفيق الحريري رئيسا للحكومة، وعيّن رياض سلامة حاكماً للبنك المركزي. هذا المسار أوصل البلد إلى حائط مسدود. هم يريدون أن يحملوا الشعب المنتفض مسؤولية الأزمة ويريدون تدفيعه ثمنها. حاولوا الترقيع من خلال باريس 1 وباريس 2 وباريس 3 وباريس 4 ثم سيدر وغير سيدر، ولكن منطق المسكنات لم يعد يفيد. لبنان يحتاج إلى تغيير جذري وشامل في السياسات الإقتصادية والمالية.
-من يفرض هذه الرؤية التغييرية؟
-أنا أراهن على حركة الإحتجاج. إذا كبرت العامية وحققت مطالبها وإذا حكم البلد طاقم آخر غير الطقم الحالي، نعم ربما ينجو البلد.
-حركة الإحتجاج متفلتة وبلا قيادة أو مطالب محددة؟
-نعم، وعلينا أن نتوقع من النظام أن يحاول الدفاع عن نفسه بشراسة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف حركة الإحتجاج إلى حد ما.
-أنت خائف على العامية؟
-نعم أنا خائف عليها. أخشى أن يحاول البعض إستخدامها من أجل العودة إلى السياسات الطائفية التقليدية. أركان السلطة لن يسمحوا بالإتيان بطاقم جديد إلى الحكم. سيدافعون عن أنفسهم وعن مصالحهم. أقول لأهل الحراك أن المدخل لإعادة إنتاج السلطة يكون من خلال إنتخابات نيابية مبكرة وعلى أساس قانون إنتخابي وفق النسبية، وطبعا خفض سن الإقتراع إلى 18 سنة، لكن السير في هذا الإتجاه ليس مؤكدا لأن الفئة الحاكمة ماسكة البلد بـ”خوانيقو”.
كانت معادلة شهاب أنه في حال إختلاف العرب بين بعضهم البعض، على لبنان أن يكون مع الطرف العربي الأقوى
–ما رأيك بنظرية حكومة التكنوقراط؟
-هناك أسطورة إسمها الوزير التكنوقراطي. وراء كل رجل تكنوقراط سياسي يحركه ويختاره مثل الماريونيت. نعم، لا شيء إسمه التكنوقراط الصافي. أي تكنوقراطي عنده خلفية سياسية ما.
-هل تخشى أخذ البلد إلى الفوضى وثمة شواهد تاريخية تشي بأرجحية التصادم الطائفي؟
-لا لست موافقاً. تاريخ لبنان لا يقول ذلك. تجربة الرئيس فؤاد شهاب في الستينيات أنا بنظري عملت إضافة كبيرة للميثاق الوطني لم ينتبه إليها كثيرون. كانت معادلة شهاب أنه في حال إختلاف العرب بين بعضهم البعض، على لبنان أن يكون مع الطرف العربي الأقوى. لذلك، إتهمته بعض الدوائر المارونية الرجعية بأنه أسير سياسات جمال عبد الناصر وهذه الدوائر أسمته أيضا محمد شهاب.
-من هو الأقوى في المنطقة اليوم حتى يحتمي به ميشال عون؟
-من الممكن أن ترى إيران أنها صاحبة مصلحة في أن يستمر النظام الطائفي حتى لا يتضاءل نفوذها في لبنان.
-هل خيّب ميشال عون آمال جورج قرم؟
-أنا أعتقد أن ميشال عون هو رجل معارضة وليس رجل حكم. نعم، ميشال عون في المعارضة كان إنسانا عظيما، أما في الحكم، فهناك كلام آخر.
-ألا تعتقد أن المشكلة في الصيغة (الطائف) وليس في أي مكان آخر؟
-إتفاق الطائف نص على أن لبنان كامل الهوية العربية. طيب لكن عن أية عروبة يتحدث. عندك إتجاهات عربية مختلفة ومتناقضة. عروبة تقدمية وعروبة رجعية. المكون الديني فيها هو الغالب. هذا هو الطائف. ضبابي. نعم، أنا أحمل إتفاق الطائف مسؤولية ما حدث في لبنان، وتحديدا منذ أعلن من وضع إتفاق الطائف أنه حسم كامل هوية لبنان العربية 100%.. سؤالي هو عن أية عروبة كانوا يتحدثون أو يقصدون؟ التأخير في تطبيق الطائف هو المسؤول. الطائف فيه كل المواد مثل إنشاء مجلس شيوخ يمثل الطوائف والغاء الطائفية السياسية وهذا أمر غريب كأنه توجد طائفية غير سياسية!
-متى شعرت بوجود حياة سياسية في لبنان؟
-شعرت بها في العام 1998 عندما عُيّنَ الدكتور سليم الحص رئيسا للحكومة. شكلنا فريق عمل وحقق إنجازات. أقله بأيامنا ما صار ولا فضيحة إقتصادية أو مالية أو أية عملية إقتصادية أو مالية مشبوهة. بأيامنا خفضنا الفوائد. كانت 22 في المئة وصارت 14 في المئة، برغم الظروف الصعبة وقتذاك، وأقصد تحديدا تحرير الجنوب من الإحتلال الإسرائيلي في العام 2000. عندما كنت وزيرا للمال في حكومة الرئيس الحص، لم أطلب مساعدة من أحد في الخارج. إستطعنا خلق مناخ إيجابي في البلد. أعتقد أن الجهود التي قمت بها من أجل خفض الفوائد وفّرت مبالغ ضخمة على الخزينة، وقد دفعنا كل متأخرات الدولة.. يعلم الله كم هي متأخرات الدولة اليوم من ضمان ومقاولات ومستشفيات وغيرها.
الإنهيار وقع
-هل نحن في قلب الإنهيار أم على عتبته؟
-الإنهيار الإقتصادي والمالي وقَعَ والفئة الحاكمة هي التي ستطلب تدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبالتالي، سنكون تحت الوصاية وأنا حذرت من ذلك مراراً.
-هل يمكن للحكومة التي ستولد أن تستدرك أقله من خلال إعادة تبني ورقة الإجراءات الإصلاحية الإقتصادية؟
-هذه الورقة مضحكة بكل معنى الكلمة.
-هل نستطيع هيكلة الدين بأدواتنا الداخلية وليس من خلال صندوق النقد أو البنك الدولي؟
-أنا أشك بذلك مع الحكام الحاليين.
-لماذا ترجح سيناريو صندوق النقد والبنك الدولي؟
-الدين بمعظمه داخلي، والخطأ المميت أن المصارف اللبنانية تسوق سندات الدين اللبنانية في الخارج. اليوم عندك صناديق إستثمار أجنبية إكتتبت سندات خزينة بعائد مجنون.
حتى الودائع لن تنعش النموذج. أصبحنا نعيش في إقتصاد موجه من السلطات النقدية ومن خارج قواعد الليبرالية اللبنانية التقليدية، وهذا ناتج عن أخطاء متراكمة أدت إلى نهب إقتصاد البلد على مدى 30 سنة من الإقتصاد الريعي
-ألا يمكن أن تنعش وديعة مالية خارجية كبيرة الإقتصاد اللبناني؟
-حتى الودائع لن تنعش النموذج. أصبحنا نعيش في إقتصاد موجه من السلطات النقدية ومن خارج قواعد الليبرالية اللبنانية التقليدية، وهذا ناتج عن أخطاء متراكمة أدت إلى نهب إقتصاد البلد على مدى 30 سنة من الإقتصاد الريعي.
محطة تسييل لكل طائفة!
-هل ساهمت العقوبات الأميركية على حزب الله في التأثير سلبا على الإقتصاد اللبناني؟
-لا أثر إقتصاديا أو ماليا للعقوبات الأميركية. الكل يعلم أن تمويل حزب الله لا يأتي عبر المصارف اللبنانية ولا علاقة لحزب الله بتراجع التحويلات من الخارج.
-هناك مراهنة على بدء التنقيب عن الغاز في البلوكات البحرية اللبنانية في غضون الأسابيع القليلة المقبلة؟
-أعتقد أن مراهنة الفئة الحاكمة على تسريع إكتشاف الغاز ليس في محله. رأينا كيف أنهم يريدون بناء محطة تسييل غازية لكل طائفة.
-هل تعتقد أن الغاز سيكون نعمة أم نقمة؟
-حسب إستخدامه.. إما يكون نعمة أو نقمة.
-هل مسموح أميركياً أن نتحكم بمسار تصدير الغاز؟
-نحن نعرف أن الحرب على سوريا في العام 2011، بدأت بسبب أنبوب غاز قطري كان يجب أن يمر بالأراضي السورية وعندما رفض النظام رفض ذلك لأن مصالحه لا تسمح بذلك، حصل ما حصل في سوريا.
-ومن سيتحكم بغازنا اللبناني؟
كالعادة إقتصادنا فاسد تتحكم به فئة قليلة من اللبنانيين وهناك شركات أجنبية فاسدة تدفع عمولات.
(*) نُشر هذا الحوار في موقع ومجلة 180 بوست بتاريخ الرابع من كانون الأول/ديسمبر 2019.
(**) راجع الجزء الأول من هذا الحوار: التفتيت الإقليمي قائم.. ونقترب عالمياً من ازاحة الدولار