“عملية الأربعين” كانت هي الرد الموعود لحزب الله رداً على استهداف فؤاد شكر والضاحية الجنوبية لبيروت. من بعدها، عادت المقاومة في لبنان إلى قواعد الإشتباك المعمول بها منذ فتح “جبهة الإسناد” في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي اليوم التالي لبدء عملية “طوفان الأقصى”.
وبطبيعة الحال، أبقى السيد نصرالله الباب مفتوحاً، ولو مواربة، لاحتمال تنفيذ رد آخر، في انتظار الحصول على معطيات دقيقة عن نتائج العملية المذكورة قائلاً إن كانت النتائج مُرضية للمقاومة، فإن الحساب على اغتيال شكر وقتل المدنيين في الضاحية سيكون قد أقفل وإن لا فسيكون هناك رد آخر. غير أن الأهم هو تعمد نشر تفاصيل العملية بكثير من التفاصيل والدقة بعد أن كان الجانب “الإسرائيلي” عبر وسائل إعلامه والناطق باسم جيشه قد اعتبر أن العملية الاستباقية التي نفّذتها طائراته الحربية قد أفشلت عملية المقاومة. وبات السؤال المطروح حالياً هل تستكمل قوى “المحور” ردها على ضرب الحديدة في اليمن واغتيال إسماعيل هنية في طهران؟
لنحاول تشريح سردية “إسرائيل” لما حصل يوم الخامس والعشرين من أغسطس/آب الجاري. وفق سردية تل أبيب، هناك مئة طائرة حربية نفّذت على مدى ساعة غارات طالت ستة آلاف منصة صواريخ ودمّرتها. وهنا لا بد من التوقف أمام هذين الرقمين، مئة طائرة حربية تنتشر فوق المنطقة الحدودية للبنان على مدى ساعة. من يملك الحد الأدنى من المعرفة العسكرية يرى استحالة تنفيذ هكذا نوع من الانتشار الجوي الحربي في منطقة ضيّقة بحجم شريط القرى الحدودية اللبنانية (طائرة في كل كيلومتر واحد)، وبالتالي لا يمكن أن يكون عدد الطائرات المُغيرة صحيحاً.
أما عن الستة آلاف منصة صواريخ التي زعم الجيش “الإسرائيلي” تدميرها، فيكفي أن نعرف أن توزيع الستة آلاف منصة في جنوب نهر الليطاني، يعني أن الفاصل بين منصة وأخرى سيكون عشرات الأمتار، وهو أمر يسري فقط على الجيوش الكلاسيكية وليس على القوى والمجموعات التي تخوض حرب عصابات.. زدْ على ذلك أن حزب الله أعلن عن استشهاد مقاتلين فقط في ذلك اليوم، ومن المعروف أن الحزب لا يتكتم على شهدائه (يتم إبلاغ ذوي الشهداء أولاً ثم يُصار إلى نعيهم رسمياً)، وهذا ما كان واضحاً في سلوكه الإعلامي منذ بدء عملية “طوفان الأقصى”.. والأهم أن السيد نصرالله أوضح أن هذين الشهيدين سقطا فجرأ في إحدى “الفلوات” (المناطق المفتوحة)، أي لا علاقة لاستشهادهم باستهداف المنصات، لكن لو افترضنا عكس ذلك، لا يعقل أن مقاومين إثنين يُشغلّان ستة آلاف منصة صاروخية، إلا إذا كان هدف السردية “الإسرائيلية” الايحاء بأن المنصات المذكورة كانت منتشرة في التلال والوديان بلا عناصر تتولى تشغيلها بانتظار أن يُدمّرها “الإسرائيليون” فقط لا غير!
وقد جرت العادة أن طاقم تشغيل كل منصة صواريخ يجب ألا يقل عن أربعة أشخاص، من سائق الآلية التي تحمل المنصة ورامي ومدقق الرمي وقائد المجموعة، أي أن انتشار ستة آلاف منصة على الأرض يتطلب وجود 24 ألف مقاتل بالحد الأدنى لتشغيلها، وهؤلاء أبادتهم “إسرائيل” (25% من المقاتلين الذين قال السيد نصرالله إنهم صاروا مائة ألف مقاتل) وحزب الله يتكتم على أرقام الشهداء، مكتفياُ بنعي شهيدين إثنين.
ومن المعروف وجود أحجام مختلفة لمنصات الصواريخ، وهي تبدأ بمنصة لصاروخ واحد وهذه لا تستخدمها المقاومة إلا لإطلاق صاروخ نوعي كبير، أما الصواريخ التي استخدمتها المقاومة فهي من نوع “كاتيوشا” ومنصاتها من النوع الذي يحمل 12 أو 24 أو 32 أو 48 صاروخاً. واذا اعتبرنا كمعدل وسطي للمنصات التي يزعم الجانب “الإسرائيلي” تدميرها هي من النوع الذي يحمل 24 صاروخاً، فإن عدد الصواريخ التي تم تدميرها في ساعة واحدة يبلغ 144 ألف صاروخ . يضاف إليهم عدد الصواريخ التي دمّرت هذه المنصات، فنكون أمام شبه زلزال أصاب منطقة الجنوب، ناهيك عن تطاير المئات إن لم يكن آلاف الصواريخ في كل الاتجاهات.
هذه الأرقام المستندة بالكامل للسردية “الإسرائيلية” تجعل من المستحيل على أحد تصديقها، أما عن سردية حزب الله، بحسب السيد نصرالله، فإنه كان من المقرر أن تُطلق المقاومة 300 صاروخ “كاتيوشا” لإشغال صواريخ القبة الحديدية “الإسرائيلية” ولفتح الطريق للمسيرات التي كان هدفها الرئيسي بلوغ قاعدة جاليلوت الاستخبارية قرب تل أبيب وهدفها الثانوي قاعدة شيمرا، وحدّد السيد نصرالله عدد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة بأنها كانت بين 320 و340 صاروخاً فقط، أي حوالي 15 منصة إستناداً إلى المعدل الوسطي الذي اعتمدناه سابقاً وهو منصات الـ24 صاروخاً، وهذه تتطلب وجود 60 مقاتلاً يتولون تشغيلها، أما عن المُسيرات التي لم يُكشف عددها، فيُمكن الافتراض أن عدد المقاتلين نفسه كان يتولى تشغيلها ليصبح مجموع من نفذ العملية تنفيذاً حرفياً لا يتجاوز 120 مقاتلاً، وهو رقم معقول جداً ولا يُشكّل خطراً كبيراً على الجسم التنظيمي للمقاومة، وبطبيعة الحال فإن كل طاقم رماية يحتاج إلى مجموعة حماية لا يزيد عددها عن الأربعة مقاتلين، وهذا يعني أن هناك أيضاً حوالي 120 مقاتلاً آخر ليصبح المجموع نحو 240 مقاتلاً.
وعلى صعيد اللعبة الاستخبارية بين الجانبين، حاول الجانب “الإسرائيلي” القول إنه كان يمتلك معلومات دقيقة مسبقة عن عملية حزب الله، لذلك نفذ عمليته الاستباقية، أما السيد نصرالله، فقد أوضح أن انتشار عدد كبير من المقاتلين قبيل ساعات من تنفيذ العملية كان تحت العيون الأمريكية و”الإسرائيلية”، سواء من خلال الأقمار الصناعية أو عبر الاتصالات وطائرات الاستطلاع المُسيرة ومعهم الجواسيس على الأرض، وهكذا فإن الفشل “الإسرائيلي” في ضرب المنصات التي أطلقت صواريخ المقاومة ومُسيراتها يُعتبر فشلاً استخبارياً كبيراً.
لقد بدا واضحاً أن مبالغة “الإسرائيليين” الكبيرة عما أسموها “العملية الاستباقية” تهدف إلى رسم صورة نصر وتفوق استخباري وناري على المقاومة لكن ما فضح مبالغات العدو ليس فقط الأرقام الواردة أعلاه بل التكتم الحديدي على نتائج عملية المقاومة.
هل يُمكن القول إن الحساب قد انتهى في الرد على اغتيال فؤاد شكر وقصف الضاحية الجنوبية بتكريس معادلة “ضاحية تل أبيب مقابل ضاحية بيروت الجنوبية”؟
ما يزال الجانب “الإسرائيلي” في حالة استنفار.. والمرجح ذهاب قوى “المحور” إلى الرد “بالمفرق”، وفقاً لظرف كل جهة والزمان والمكان المناسبين لها، وهذا ما فعله حزب الله في لبنان، ولكن ذلك لا يمنع أن تكون عملية حزب الله قد شكلت ما يشبه الاستطلاع بالنيران لقوى “المحور” التي ستجعل “إسرائيل” أسيرة “أوكورديون ناري” بين طهران وصنعاء وبعداد وبيروت والضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا الاستطلاع سيجعل “المحور” قادراً على الاستفادة من الايجابيات وتجنب السلبيات.
ان كشف السيد نصرالله أسباب التاخر في الرد وحدّدها بثلاثة: المناقشات بين قوى المحور حول ما اذا كان سيكون الرد متزامناً بينها جميعاً أو كلُ طرف وحده، استرخاء الجانب “الإسرائيلي” بعد ثلاثة أسابيع من الاستنفار، وإعطاء فترة سماح بانتظار مآلات مفاوضات وقف اطلاق النار في غزة التي كان متوقعاً اصطدامها بحائط الشروط التعجيزية التي يطرحها رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو. إن كشف نصرالله عن هذه الأسباب يُشير إلى أن الرد الإيراني على اغتيال هنية ليس بالضرورة أن يكون مُعلناً (قد يُصار إلى عمل أمني مقابل عمل أمني وبلا أي تبنٍ له).. إلا إذا كان هناك من “موّال” إيراني يتصل بالملف النووي.. وللأمر حديث آخر.