ما هي أرجحيّة أن تدخل منطقة شرق الفرات ضمن خارطة طريق “القصاص العادل”؟
ما تبلور إلى اليوم هو ذهاب دول وأطراف محور المقاومة إلى صياغة خطة واسعة للرد على الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته الولايات بإقدامها على قتل سليماني. وتحمل الخطة عنواناً استراتيجياً واحداً هو العمل على إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا باعتباره الثمن الموازي الوحيد الذي من شأنه تعويض ما مثّله مقتل سليماني من خسارة كبيرة، وإن كان من المتوقع أن يكون تنفيذ الخطة مرناً ومتدرجاً ومتعدد الأذرع والمستويات. ووفق الأدبيات التي يستعملها السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله يمكن تسمية هذه الخطة بـ “خارطة طريق القصاص العادل”.
ضمن هذه الرؤية الاستراتيجية الواسعة لخطط الرد على الاغتيال، تبرز منطقتا شرق الفرات في الجزيرة السورية والتنف في الجنوب الشرقي باعتبارهما من المسارح المرشحة لتشهد فصولاً من عمليات الثأر.
وما يعطي هاتين المنطقتين نوعاً من الأفضليّة لوضعهما على مهداف القصاص أن القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة فيهما تضع نصب عينيها هدفاً استراتيجياً مميزاً يتمثل في محاربة النفوذ الايراني في سوريا الذي بات يعتبر من أولويات السياسة الأميركية، وهو ما يجعل من المرجح أن تتحول لحظة اغتيال سليماني إلى منعطف حاسم في مصير الشرق السوري لجهة أيّ من المشروعين ستكون له الغلبة هناك الأميركي أم الايراني.
تبرز منطقتا شرق الفرات في الجزيرة السورية والتنف في الجنوب الشرقي باعتبارهما من المسارح المرشحة لتشهد فصولاً من عمليات الثأر
وما قد يثير إغراء محور المقاومة باعتماد شرق الفرات والتنف كنقطتي اشتباك على خارطة طريق القصاص العادل، أن الانتشار الأميركي فيهما قليل سواء من حيث العدد أو العتاد مقارنة مع قواعد أميركية متواجدة في بلدان مجاورة مثل العراق حيث أعداد الجنود الأميركيين بالآلاف، بينما مجمل أعداد الجنود الأميركيين في سبعة قواعد عسكرية في سوريا لا يتجاوز ستمئة جندي.
وثمة اختلاف آخر بين التواجد الأميركي في سوريا والعراق، ففي حين يتمتع انتشار الجنود الأميركيين في العراق بغطاء شرعي توفره الاتفاقات الأمنية بين بغداد وواشنطن وغطاء التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش. أما انتشارهم في سوريا فلا يحظى بمثل هذا الغطاء حيث تعتبر دمشق وجودهم بمثابة احتلال غير شرعي وتطالب بخروجهم.
يبرز الحديث إذاً عن عنصرين – عملياتي متعلق بقلة أعداد الجنود الأميركيين، وقانوني مرتبط بغياب الغطاء الشرعي لوجودهم – يساهمان في توجيه بوصلة القصاص صوب الوجود الأميركي في الشرق والجنوب الشرقي من سوريا، بل قد يجعلانه على قائمة المواقع المستهدفة.
في هذا السياق، تحدثت شبكات أخبار محلية في سورية مختصة بمتابعة الأوضاع في شرق الفرات، عن قيام القوات المحسوبة على إيران في مدينة البوكمال بإعادة انتشار واسعة تضمنت توزيع المقاتلين على مجموعات صغيرة ونشرهم في البساتين المحيطة بالمدينة تحسباً من تعرضهم لغارات أميركية.
كما ذكرت هذه الشبكات وصول تعزيزات عسكرية إلى محطة تي تو (T2) في البادية القريبة من محافظة ديرالزور وسط انباء عن رفع الجاهزية في صفوف القوات السورية والجماعات الرديفة (المحسوبة على إيران) في كامل تلك المنطقة.
في المقابل تحدث المرصد السوري المعارض عن “خروج أرتال من القوات الأميركية من حقل العمر النفطي وتسيير دوريات في محيط حقل كونيكو الذي يعد الأقرب إلى خط التماس مع القوات الايرانية”. واشار إلى قيام القوات الأميركية بتحصين مواقعها من خلال نشر مضادات صواريخ متطورة. ويضاف إلى ذلك إعلان موسكو عن إرسال قطع حربية بحرية إلى سوريا خشية من وقوع مواجهة أميركية- إيرانية.
يمكن اعتبار هذه التطورات المتسارعة بمثابة إشارات لا يمكن تجاهلها على ارتفاع منسوب التوتر في المنطقة وترجيح كل طرف أن تكون مرشحة لمواجهات محتملة في إطار الرد على اغتيال سليماني.
ومع عدم استبعاد اي احتمال، فإن ثمة عوامل أخرى من شأنها أن تقلل من احتمال شمول منطقتي شرق الفرات والتنف ضمن خارطة طريق القصاص العادل، وبالتالي استبعادها من قائمة المواقع الأميركية المستهدفة بشكل مباشر. وأهم هذه العوامل: أن قلة أعداد الجنود الأميركيين قد تكون سلاحاً ذا حدين فكما أنها قد تغري بالاستهداف نظراً لسهولته من الناحية العملياتية، فإنها من جهة أخرى قد تجعله هدفاً غير وازن ولا يستحق أن تكون له الأولوية طالما أن خطة الثأر وضعت نصب عينيها هدفاً استراتيجياً ضخماً من وزن إخراج الأميركي من كامل غرب آسيا.
ويتعلق العامل الثاني بتعقيدات الوضع الميداني في الشرق السوري وتشابك المصالح الاقليمية والدولية المتحكمة به، إذ بالإضافة إلى إيران وأميركا فهناك تواجد عسكري لكل من تركيا وروسيا.
والمفارقة أنه رغم أن خروج القوات الأميركية من الشرق السوري يعتبر هدفاً مشتركاً تسعى إليه كلٌّ من الدولتين الأخيرتين، إلا أنهما قد تكونان في طليعة الدول الرافضة لتصعيد الموقف في المنطقة نتيجة حرصهما على إبقاء قواتهما المنتشرة في سوريا بعيدة عن أي خطر قد تتسبب به حرب منفلتة من الضوابط.
وربما لم تكن من قبيل المصادفة أن تركز المكالمة الهاتفية بين وزير الدفاع الروسي مع نظيره الايراني يوم الاثنين على “الخطوات العملية الهادفة لمنع التصعيد في سوريا”. وثمة عامل آخر ينطوي على بُعدٍ عملياتي وهو أن الانتشار الأميركي سواء في شرق الفرات أو في التنف يتواجد ضمن محيط تسيطر عليه قوات سورية تعمل لمصلحة البنتاغون. ففي ديرالزور والحسكة هناك قوات سوريا الديمقراطية، وفي التنف هناك مغاوير الثورة، وبالتالي قد يكون لا بد من الصدام مع هاتين القوتين في سبيل التعرض للقوات الأميركية. وقد يشكل هذا الصدام لا سيما مع قوات سوريا الديمقراطية خياراً محفوفاً بالمخاطر والاعتراضات خاصة وأن روسيا تعمل على مبادرة جدية من أجل إنجاح طاولة المفاوضات بين الحكومة السورية وقوات قسد، وأي تصعيد ضد هذه الأخيرة ولو من باب فتح طريق نحو القوات الأميركية قد يجهض الجهود الروسية ويعيد الأمور إلى المربع الأول.
لم تكن مصادفة أن تركز المكالمة الهاتفية بين وزير الدفاع الروسي ونظيره الايراني على “الخطوات العملية الهادفة لمنع التصعيد في سوريا”
ما سبق لا يعني بأي شكل من الأشكال أن يجري استبعاد التواجد الأميركي في سوريا من قائمة الاستهداف بشكل نهائي، إذ قد يراود المنطقة سيناريو مختلف لكنه يصب في النهاية في خانة طرد الأميركي. ويتعلق هذا السيناريو بشكل وثيق بما سترسو عليه التطورات في العراق لجهة إخراج القوات الأميركية منه.
وتنطلق الرؤية هنا من اعتبار أن العراق هو مكان ارتكاب الجريمة، وهو المعني أكثر من غيره في أن يكون المسرح الأول لعمليات الردّ، مع ملاحظة أن نجاح العراقيين في مسعاهم لرفع الشرعية عن التواجد الأميركي تمهيداً لإنهائه فوق أراضيهم، سيؤدي تلقائياً إلى إضعاف القوات الأميركية في سوريا لأنها ستصبح من دون ظهير استراتيجي، وقد يجعلها ذلك لا تحتاج سوى إلى بعض الضغوط المتباعدة من أجل اتخاذ قرار الرحيل الذي طالما أراده الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أن تنفتح شهيته على آبار النفط.
هذا السيناريو غير المباشر قد يكون هو المرجح أكثر من غيره في منطقتي شرق الفرات والتنف. وما يزيد من احتمالات ترجيحه أن تنظيم داعش يتربص في تلك المنطقة ويترقب الفرصة المناسبة من أجل العودة إلى زمن التمكين. وبما أن أسهم توظيف التنظيم والاستثمار فيه ترتفع في وقت الأزمات، فقد تجد الولايات المتحدة وحليفتها قوات سوريا الديمقراطية الفرصة سانحة من أجل لعب ورقة داعش لمواجهة خطة القصاص ضدها. وقد تخرج الأمور عن سيطرة جميع الأطراف بدون إرادة منها ويكون تنظيم داعش هو الرابح الوحيد مما سيجري.