مفاجآت كثيرة حملها يوم أمس على روسيا ستؤسس لدخول البلاد في مرحلة تأسيسية جديدة خلال السنوات الأربع المتبقية من ولاية الرئيس فلاديمير بوتين.
في الرسالة الرئاسية السنوية للجمعية الفدرالية، التي تضم غرفتي البرلمان الروسي، مجلس الدوما، ومجلس الفدرالية، فجر بوتين مفاجأة تمثلت بضرورة إجراء حزمة من التعديلات الدستورية للمرة الأولى في تاريخ روسيا الحديثة.
مفاجأة الخطاب الذي جاء هذا العام في غير موعده الدائم (آذار/مارس) للمرة الأولى أيضاً، استبقها بوتين بالإشارة إلى أن “البلاد تواجه عدداً من المهمات واسعة النطاق في مختلف المجالات”، وتتطلب “القيام بحل العديد من المسائل بسرعة ومن دون تأخير وهي تتعلق بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي”.
وفقاً للدستور الروسي، يخاطب رئيس روسيا الاتحادية سنوياً الجمعية البرلمانية الفدرالية (البرلمان الروسي) برسالة يتحدث فيها عن وضع البلاد والاتجاهات الرئيسية للسياسة الداخلية والخارجية للمرحلة المقبلة.
وتعتبر الرسالة وثيقة سياسية قانونية، تعبر عن رؤية رئيس الدولة للتوجهات الاستراتيجية في مجال تنمية روسيا في المستقبل القريب، وتشمل موضوعات إيديولوجية وسياسية واقتصادية ومقترحات محددة حول العمل التشريعي لمجلسي البرلمان.
طرح بوتين لتعديلات الدستورية سرعان ما ترجم باستقالة حكومة دميتري ميدفيديف الذي علل القرار بضرورة إفساح المجال لبوتين لإجراء التعديلات ليس على الدستور فحسب، وإنما أيضاً على الآليات المتصلة بالتوازن بين فروع السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بشكل عام.
ولم يتأخر بوتين في الاعلان عن مرشحه الجديد للمنصب، وهو رئيس هيئة الضرائب الفدرالية، ميخائيل ميشوستين، على أن يبت مجلس الدوما بالترشيح.
رسم الخطاب السياسات الاجتماعية والاقتصادية بجانب المسائل الدولية التي ستتعامل معها روسيا في العام الحالي
تعديلات دستورية
استحوذت القضايا الداخلية والسياسات الاجتماعية والاقتصادية على الحيز الأكبر من خطاب بوتين، بالإضافة إلى موضوع التسلح والأوضاع الدولية، إلا أن ما هم ما طرح كان حزمة الاصلاحات الدستورية.
بوتين أكد بداية أن البلاد لا تحتاج إلى دستور جديد، مشدداً على ضرورة أن ” تبقى المبادئ الأساسية للنظام الدستوري وحقوق الإنسان والحريات لعقود أخرى قاعدة شاملة صلبة للمجتمع الروسي”.
وفيما شدد بوتين على أهمية أن تبقى روسيا، التي “عادت إلى السياسة الدولية كدولة لا يمكن تجاهلها”، دولةً ذات سيادة، أكد أن الوقت قد حان لإجراء بعض التغييرات في دستور البلاد.
ودعا بوتين إلى تعزيز صلاحيات البرلمان لجعل المشرعين مسؤولين عن اختيار رئيس الحكومة، بجانب الوزراء الأساسيين، موضحاً أن دور حكام المحافظات سيتعزز أيضاً رغم أن روسيا ستحافظ على نظامها الرئاسي.
وأضاف “أقترح منح مجلس الدوما ليس فقط حق الموافقة، بل والتصديق على ترشيح رئيس الوزراء وفريقه الوزاري… وهنا سيكون من واجب الرئيس أن يعينهم ولا يحق للرئيس رفض المقترحات (بهذا الشأن) التي قدمها مجلس الدوما”.
ولفت بوتين إلى أنه يجب أن يكون للرئيس الحق في تحديد أولويات وأهداف عمل الحكومة وحق إقالة رئيس الوزراء ونوابه في حال مخالفاتهم للقانون أو فقدانهم الثقة.
كما اكد على ضرورة أن تكون روسيا جمهورية رئاسية قوية وليست جمهورية برلمانية، قائلاً “أنا واثق بأن بلدنا بنظامه الإداري لا يمكن أن يتطور بسرعة ويبقى ثابتا على شكل جمهورية برلمانية… يجب أن تبقى روسيا جمهورية رئاسية قوية”.
كذلك، شدد بوتين على ضرورة أن تكون للرئيس السيطرة المباشرة على القوات المسلحة بما في ذلك الحق في تعين رؤساء أجهزة الأمن والدفاع بالتنسيق مع مجلس الفدرالية وجميع هيئات أنظمة إنفاذ القانون، بجانب المدعين العامين الإقليميين.
ولفت بوتين أيضاً إلى ضرورة أن يكون للرئيس الحق في إقالة قضاة المحكمتين العليا والدستورية، في حال قاموا بمخالفات، بحسب القانون.
وشدد بوتين على أنه “من الضروري قيام مواطني البلاد بالتصويت على مجموعة كاملة من التعديلات المقترحة على دستور البلاد”، من دون أن يحدد تاريخاً للتصويت.
وأضاف “لن نكون قادرين على بناء روسيا قوية مزدهرة إلا على أساس احترام الرأي العام… سنعمل معاً على تغيير الحياة نحو الأفضل”.
وفيما لفت بوتين إلى أن روسيا تواجه مهاماً تاريخية هائلة في المستقبل، دعا إلى مساهمة جميع المواطنين إلى التصدي لهذه المهام والتحديات، قائلاً “أنني أؤمن بأن النجاح مصمم بحسن نيتنا على إنشاء وتطوير وتنفيذ أكثر الخطط جرأة، عملنا باسم عائلتنا وأحبائنا وأطفالنا ومستقبلهم، وبالتالي، من أجل عظمة روسيا، من أجل كرامة مواطنيها”.
تغيررات في السياسة العائلية
وعلى جري عادته، تعرض الرئيس الروسي إلى الأزمة الديموغرافية التي تعاني منها روسيا، واعتبر أن الأزمة السكانية التي تعيشها البلاد تشكل تهديداً لمستقبلها وتحدياً “تاريخياً” لها.
وأوضح بوتين أن عدد سكان روسيا اليوم 147 مليون نسمة “لكننا دخلنا في فترة سيئة ديموغرافياً”، مضيفاً أن “التقديرات السيئة الحالية لا يمكن إلا أن تثير قلقنا”.
ورأى أن “مصير روسيا وتطلعاتها التاريخية يعتمد على ما سيصبح عليه عددنا” في المستقبل، داعياً إلى الخروج من “الفخ الديموغرافي”.
وخسرت روسيا أكثر من 5 ملايين نسمة منذ عام 1991 بفعل الأزمة السكانية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي. وبعد فترة من الانتعاش، عاود عدد السكان في روسيا الانخفاض منذ عام 2018 مع بلوغ الجيل الذي ولد في أولى السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي شهدت انخفاضاً في عدد الولادات، السنّ المواتي للإنجاب.
وفي هذا السياق، قال بوتين إن معدل الخصوبة (معدل الولادات للمرأة الواحدة) بلغ 1,5 ولادة للمرأة الواحدة في عام 2019، معتبراً أن هذا الرقم “يجب أن يرتفع إلى 1,7 في عام 2024”.
وفيما أعلن بوتينعن تدابير مشجعة على الإنجاب، تعهد خصوصاً بتمديد برنامج مساعدات مالية للأهل، يشمل حتى الآن دعماً مالياً لإنجاب طفلٍ ثان.
وقال بوتين “علينا أن ندعم الشباب، من يبدأون بحياتهم العائلية ويحلمون بإنجاب الأولاد”.
وستبلغ المساعدة المقدمة للعائلات ذات الطفلين 617 ألف روبل (9 آلاف يورو بحسب سعر الصرف الحالي)، تمنح بين الولادتين، كما أكد بوتين، مع إعلانه تمديد هذا البرنامج حتى كانون الأول/ديسمبر 2026.
كما أعلن عن مخصصات جديدة للعائلات التي تواجه صعوبات ويتراوح أعمار اولادها بين 3و7 سنوات فضلا عن جعل الطعام في المدارس مجانياً.
خسرت روسيا أكثر من 5 ملايين نسمة منذ عام 1991 بفعل الأزمة السكانية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي.
التعليم والرعاية الصحية
كذلك تعرض بوتين في رسالته إلى ملفي التعليم والرعاية الصحية. في البند الأول شدد على ضرورة الاهتمام “بنوعية التعليم بمدارسنا وتقديم كافة القدرات العصرية في هذا المجال”، لافتاً إلى أنه يجب تطوير إعداد المدرسين وتقديم دعم إضافي لهم. كذلك شدد على ضرورة المحافظة على مجانية التعليم في الجامعات الروسية ودعمه والارتقاء به.
وفي مجال الرعاية الصحية، أكد بوتين على ضرور أن يكون ذلك على مستوى عال بشكل دائم. وكشف عن تخصيص أكثر من 500 مليار روبل لتجهيز المشافي بالمعدات المطلوبة، مشيراً إلى أنه سيتم تطبيق نظام جديد لأجور العاملين في المجال الصحي.
كذلك تناول بوتنين الموضوعين البئيي والتقني، وطالب في الشق التقني بالإسراع في إقرار تشريعات متعلقة بالتقنية العالية ودعم تصديرها والعمل على تعزيز الطلب على الابتكارات داخل روسيا.
الاقتصاد الروسي وتعزيزه
أما في الشق الاقتصادي، فأشاد بوتين في رسالته بالمؤشرات القائمة، وشدد على ضرورة العمل على تحقيق معدل نمو في العام 2021 يفوق المعدلات العالمية.
وأشار بوتين إلى أن معدلات التضخم في البلاد بلغت العام الماضي 3 في المئة، وهو أدنى من المستويات التي توقعتها الحكومة عند 4 في المئة.
وحث الحكومة على تسريع سن التشريعات الخاصة بحماية رؤوس الأموال كخطوة لتشجيع الاستثمار، مشيراً إلى أنه اعتبارا من العام الحالي يجب زيادة نسبة الاستثمارات بما لا يقل عن 5 في المئة
وأضاف أن حصة الاستثمارات من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد يجب أن تبلغ بحلول 2024 نحو 25 في المئة، مشددا على أهمية عدم تغيير الضرائب لجذب المزيد من الاستثمارات إلى روسيا.
وشدد بوتين لعى أن أبرز مهمة للحكومة ستكون العمل على زيادة مستوى معيشة المواطن الروسي، لافتاً إلى أن الاقتصاد الكلي القوي لروسيا يجب أن يؤمن نمو دخل الفرد.
وأضاف، أنه يجب حل القضايا الاقتصادية والاجتماعية في روسيا بالاعتماد على المشروعات الوطنية.
“لا نريد تهديد أحد”
وفي الشأن دولي، أكد بوتين بأنه قد حان الوقت لإجراء محادثات جادة حول استقرار وأمن العالم.
وأضاف “يجب على مؤسسي الأمم المتحدة أن يكونوا مثالا يحتذى، والقوى الخمس الكبرى تتحمل مسؤولية خاصة في الحفاظ على البشرية وتنميتها المستدامة، كما يجب على هذه الدول إزالة الأسباب التي تهدد بحدوث حرب عالمية”.
لم يغفل بوتين في رسالته موضوع التسلح الروسي الذي يحضر في رسالته في كل عام
وتابع قائلا: “يجب على هذه الدول أن تقوم بتطوير مناهج محدثة ومتطورة لضمان الاستقرار مع الأخذ بالاعتبار العلاقات الدولية الحديثة”.
ولم يغفل بوتين في رسالته موضوع التسلح الروسي الذي يحضر في رسالته في كل عام. وفيما أكد ضمان الدفاع في البلاد لعقود قادمة شدد على أنه ينبغي على روسيا المضي في هذا الجانب وتطوير أنظمة قتالية للأجيال القادمة وهو ما تقوم به الحكومة اليوم لأن “الأمن يوفر أساسا للتطور السلمي التدريجي لروسيا، ويتيح لنا أن نفعل الكثير لكل القضايا المحلية الأكثر إلحاحا، والتركيز على النمو الاقتصادي والاجتماعي.. ولأن عظمة روسيا لا يمكن فصلها عن الحياة الجديرة لكل مواطن”.
وفي حين أوضح بوتين أن بلاده منفتحة على تعزيز التعاون مع جميع الشركاء، أكد في المقابل أن روسيا لا تهدد أحد ولا تسعى لفرض إرادتها على أحد.
ولفت إلى أن “روسيا لأول مرة في التاريخ تفوقت على دول أخرى في مجال إنتاج الأسلحة النووية الحديثة”.
وأوضح “لقد اتخذنا خطوات لتعزيز الأمن القومي في الوقت المناسب وبالكمية الكافية، وللمرة الأولى أود الإشارة إلى هذا، فللمرة الأولى من تاريخ ظهور أسلحة الصواريخ النووية، بما في ذلك حقبة الاتحاد السوفياتي، نحن لا نلحق بأحد ولا نمسك أحدا، بل على الآخرين اللحاق بنا”، مؤكداً أن “على الآخرين العمل للحصول على أسلحة تمتلكها روسيا”.