كهف41º، سوليدار.. شجرة كريسماس في أنفاق الملح!

سوليدار، باخموت، إقليم دونتسك، إحدى المحطات الرئيسية للزحف العسكري الروسي. مدينة ترجع أهميتها لما هو أعمق من سطح الأرض.

لنستغل فرصة احتدام المواجهة العسكرية الروسية-الأوكرانية في هذه البقعة تحديداً. في مرحلة تزيد بها المساحات التي تسيطر عليها قوات فاجنر الروسية، وتحاول أوكرانيا إعادة شحن الجبهة بأفراد وأسلحة تعويضاً عما تفقده فيها باضطراد، لكن ما تخسره من موارد في سوليدار، يبدو أنها لا تقدر على استعادته.

تتعجب حين تبحث عن صور لأنفاق حُفرت في حقول الملح الواسعة التي تقع في مدينة سوليدار. فترى من جانب، كيف اجتمعت لهذه البقعة المتنازع عليها الآن، ثروات معدنية هائلة، تم استغلالها بشكل اقتصادي، دعائي وسياحي من قِبل أوكرانيا. ومن جانب آخر، تتأمل ما تخسره أوكرانيا من مواردها ومعالمها، صحبة أمنها واستقرارها الذي يبدو أنها لم تصنعه بنجاح خلال تاريخ وجودها في أطوار متباينة، وهو الوضع الذي يبدو الآن أنه يؤول إلى ما هو أسوأ بالنسبة لها.

وكأنك تشاهد أوكرانيا تفقد بالتصوير البطيء، مدينة أسموها “أرتيومسول Artyomsol”، وهو اسم الشركة الحكومية الأوكرانية التي تدير عمليات استخراج الملح من مناجم سوليدار. كأنما تنبش في مدينة شيدت – أو بمعنى أصح حفرت – تحت الأرض، لاستخراج أملاح سحيقة ترسبت بعد جفاف بحر “بيرم” البائد، الذي دُفنت أملاحه النقية تحت طبقات من التربة. لتناقِض هذه الكهوف بمظهرها المدهش، قبح ما يحدث لها مؤخراً، بسبب التوجه الذي اختارته السلطة الأوكرانية وتسبب في إعلان روسيا الحرب عليها في 24 فبراير/شباط 2022. فقد كانت هذه الكهوف مزاراً سياحياً يتجول الزائرون بين جدران أنفاقه وغرفه في “جولة بمتحف مناجم الملح” التي زُينت على مدار السنوات بأعمال نحتية، نقوش كنسية، تماثيل وإبداعات فنية متنوعة. بينما استخدمت وحدات إضاءة في أغلب أرجاء هذه المنظومة من الأنفاق والكهوف، لتنعكس أضواءها على كريستالات الملح فيكتمل سحر الأجواء في هذا العالم العميق.

عودة إلى أجواء الحرب الدائرة على أرض المعركة التي تعلو هذه الكهوف. علق عديد المحللين على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من وقف لإطلاق النار لمدة 36 ساعة، بمناسبة الاحتفالات بمولد المسيح عيسى عليه السلام، حسب التقويم اليولياني الذي تتبعه الكنيسة الأرثوذكية الروسية فيما سمي بـ “هدنة الكريسماس”. خاصة حينما يتعلق الأمر بالمواجهة حول مدينة باخموت. قال بعضهم بأنه قرار خاطيء تسبب في غضب بعض القيادات العسكرية والجنود الروس بميادين المعركة. حيث أنه يُعتقد بأنهم يرون هذا القرار بمثابة تكرار لذات الخطأ الذي ارتكبه بوتين سابقاً في مدينة حلب، في سياق الحرب “الأهلية” -بين هلالين”- السورية. كان ذلك في كريسماس 2016-2017، حين كانت القوات الروسية-السورية تضغط للسيطرة على المدينة، التي كان يسيطر على جزء منها قوات معارضة مسلحة. وحينها كرر بوتين دعوته التي أطلقها في مستهل هذا العام، لأكثر من مرة، في تصريحات متعددة، مصحوبة بالإعلان عن “ممرات إنسانية” لسكان حلب. مما تسبب في وقتها في إطالة أمد العملية العسكرية وحصار حلب، وأدى لاستثارة حنق عسكريين روس على ذات ما يتكرر الآن في 2023.

بل إن بوتين كرر ذات الفعلة في بداية العملية العسكرية الجارية ضد أوكرانيا، في شهر فبراير/شباط 2022 ذاته. فحينما أعلن الرئيس الأوكراني وقتها عن تمنيه الانخراط في مفاوضات مع روسيا، فما كان من بوتين إلا أن دعا إلى وقف إطلاق النار. وهو المشهد الذي يحاول الكثيرون تجاهله، ضمن مسلسل إبراز والتركيز على نقاط ضعف روسيا عسكرياً، بدلاً عن تحليل أبعاد قرار بدا خاطئاً، اتخذه الرئيس الروسي في اليوم التالي لإطلاق العملية العسكرية.

بغض الطرف عن السقوط في تحليلات لشخص بوتين، تتراوح ما بين القول بأنه شخص غير رحيم أو بلا قلب، وبين من يقولون بأنه متدين أرثوذكسي يظهر جانباً إنسانياً في موسم احتفالي كمولد المسيح عليه السلام. فالرئيس بوتين كشخص ليس موضوعاً غامضاً لنركز عليه فنتوه في إجراء دراسة حالة شخصية عليه. وقد ذهب الإعلام الغربي الواهم لمسافات بعيدة في هذا الإطار، تصل كل عدة أيام إلى أن بوتين مريض وعلى وشك الموت. في مسار يبدو أنه يوازي مزاعمهم أن صواريخ روسيا على وشك النفاذ، وهو ما بدأ التطنين له منذ ما يقارب العام الكامل حتى الآن! فالأهم من كل هذه الإلهاءات البروباغندية، هو ثبات الرئيس الروسي على ذات الاستعداد لبدء المفاوضات الدبلوماسية مع أوكرانيا، لكن يبدو أن “وكلاء” الأخيرة يريدون المضي في تجربة سياسة “حافة الهاوية” التي يعتقدون أنها ستحقق أهدافهم.Soledar Mines

لنعد إلى المشهد في باخموت، “ملح الأرض” الأوكراني الذي بدأ استخراجه منذ القرن التاسع عشر الميلادي. فهذه الكهوف – إن صح التعبير – تمثل شبكة أنفاق أسفل سطح الأرض، شهدت في السنوات الأخيرة عديد الفعاليات التي تبدو لأول وهلة غريبة على محيط ملحي كأنفاق مناجم سوليدار. التي يبلغ مجموع طولها إلى ما يزيد عن 200 كيلومتر، تم شقها على عمق 288 متراً تحت الأرض. يصل ارتفاع سقف أحد أضخم هذه الكهوف – وليس أضخمها كلها – المسمى بـ”الغرفة 41 Chamber”، إلى 24 متراً وبمساحة تزيد عن 2 كلم2. وهذه المساحة تحت-الأرضية لما يشبه الكهوف الصناعية، خاصة الكهف رقم 41، هي التي سمحت بوضع مرميين لكرة القدم لتمارس اللعبة على شكل مصغر، كما استضاف ذات مرة ملء منطاد بالهواء الساخن بشكل كامل بداخله. كما أقيمت به نشاطات رياضية، مؤتمرات، حفلات موسيقية ومعارض منتجات. وحين يريد زائرو الغرفة 41 أخذ استراحة بصحبة مشروبهم المفضل، يجدون مقهىً مخصصاً لهم داخل هذا الكهف الملحي.

إقرأ على موقع 180  فورين أفيرز: التسوية مع بوتين اليوم أفضل من الغد

أما من الناحية الاقتصادية، مثّلت مناجم سوليدار، المصدر الرئيسي لملح المائدة في كل أرجاء أوكرانيا ودول أوروبية متعددة. يكفي القول، إن مناجم سوليدار الضخمة، شاركت بنسبة تقارب الـ 45% من إنتاج الملح إبان فترة الإتحاد السوفييتي (1922-1991). وقد توقف إنتاج الملح خلال العام الفائت، نتيجة للعملية العسكرية الروسية، ما دفع أصوات أوكرانية للقول عناداً، بأنه لن يحدث بأوكرانيا مشكة نقص في ملح الطعام، فأوكرانيا كما أكدوا “تملك مناجم أخرى“! جدير بالذكر أن شركة أرتيومسول الحكومية، الرائدة في مجالها بأوروبا الوسطى والشرقية، كانت قد قامت بإنتاج وشحن حوالي 2 مليون طن من الملح، كان نصيب الصادرات للخارج منها 39.5%.

عودة لمشاهد العملية العسكرية ثانيةً. فقد مثّلت أنفاق سوليدار المالحة، نقطة قوة للدفاعات الأوكرانية في هذه البقعة، في سياق محاولتهم إبقاء السيطرة على مدينة باخموت بين أيديهم. وعندما سيطرت قوات فاجنر الروسية في 5 يناير/كانون الثاني 2023، على أجزاء من شرق سوليدار، ازدادت أهمية هذه الكهوف تحت-الأرضية التي استخدمها الأوكرانيون كخنادق يتمترسون ويحتمون داخلها من القذائف الروسية، فتحولت في الفترة الأخيرة إلى خط دفاعي عسكري بالنسبة لهم، بالإضافة إلى كونها أماكن مثالية لتخزين الأسلحة، الذخائر والمؤن، بل وشنّ الهجمات على قوات فاجنر من الجهة الخلفية في بعض الأحيان. مما يضيف سبباً إضافياً يُفسر تركيز قوات فاجنر الروسية على باخموت، تحديداً سوليدار، وعلى وجه الخصوص أنفاق مناجم الملح فيها. وقد نشرت وكالة رويترز للأنباء، خبراً بتاريخ 7 يناير/كانون الثاني 2023 يؤكد ذلك. حين نقلت رغبة يفجيني بريغوجين، قائد قوات فاجنر في السيطرة على أنفاق الملح، قائلاً: “الكرزة التي تعتلي الكعكة هي نظام مناجم سوليدار وباخموت، التي تمثل في الحقيقة شبكة من المدن تحت الأرض. فهي لا يمكنها فقط إيواء مجموعة ضخمة من الناس تحت الأرض على عمق ما بين 80-100 متر، بل يمكن أيضاً لدبابات ومركبات مشاة مقاتلة أن تتجول بداخلها”. زاعماً بوجود مخزونات للأسلحة بقيت في شبكة أنفاق سوليدار منذ الحرب العالمية الأولى. يذكرنا ذلك الحديث الذي ربما يحمل بعض المبالغة، بالمواجهة العسكرية بين الطرفين للسيطرة على مصنع أزوفستال بمدينة ماريوبول، الذي تحصّن الأوكرانيون في شبكة أنفاقه، حتى نجح الروس في السيطرة عليه في مايو/آيار 2022.

ما لم يذكره بريغوجين أيضاً، أن درجة الحرارة داخل كهوف سوليدار الملحية، لا تبارح درجتي 14-15 سيليزية في كل فصول السنة، مع نسبة رطوبة 60%. مما يجعلها وسط الأجواء الباردة بالأعلى، خاصة في فصل الشتاء المتجمد، المأوى المثالي للجنود الأوكرانيين. بل إنها اكتسبت منذ زمن سمعة سياحية/علاجية، بسبب هذه الخاصية، كونها تفيد زوارها الطامعين في خواصها الشافية المزعومة من أمراض الرئة والثيرويد.Soledar salt mine concert

كيف الحال الآن؟ بعد أن كانت الغرفة 41 بكهوف سوليدار الملحية، تستضيف حفلات موسيقى كلاسيكية لأوركسترا الدونباس السيمفونية، يحضر الواحدة منها حوالي مائتي متفرج. وقد تحولت الآن من “متحف” إلى ساحة قتال، خنادق للجنود، ومخازن للأسلحة؟ كيف تحوّل شعار “Travel to Ukraine” إلى “Escape From Ukraine“؟ ومن الذي حوّل هذا الالتقاء بين عوالم التعدين، السياحة، الترفيه والفن، إلى حفلٍ يقيمه مواطنون أوكرانيون سابقاً – روس حالياً – على مسافة ليست ببعيدة عن باخموت، ليحتفلوا فيه بانفصالهم عن الدولة التي حملوا جنسيتها لأجيال؟! لا يملك أحدنا لوم أي مواطن أوكراني في أن يقول لك أن الجاني هو روسيا. وكأن بوتين استيقظ من نومه منزعجاً من صوت موسيقى أوركسترا الدونباس مثلاً، فقرر أن يعاقب أوكرانيا بالهجوم عليها عسكرياً، لإسكات صوت الموسيقى، وسرقة شجرة الكريسماس من داخل الكهف 41º !

لكن، لنحترم رغبة المواطن الأوكراني البريء: المتهم الأول هو روسيا. لكن لكي نحترم عقولنا أيضاً، حري بنا أن نرى بجانبها جناةّ كُثر. فيا ترى، من يأتي على رأس قائمة الاتهام إذن؟ سؤال إجابته دفنت وسط السطور السابقة، كما دُفنت البهجة بين أملاح سوليدار.

وهي إجابة لا تحيّر إلا من يرفض أن يرى الحقيقة.

تحياتي البديهية.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط بين إنسحاب أمريكا.. وإنكفاء أوروبا!