“تزداد الأخطار المحدقة بإسرائيل حيال محيط شرق أوسطي ضعيف وهش، تكثر فيه جبهات القتال وبؤر عدم الاستقرار، والتي ثمة روابط بينها: من الصعب تقييم العواقب غير المقصودة للعمل العسكري والسياسي؛ سيرورات التعلم والتحسين الدائمة لدى خصوم إسرائيل الذين يستخدمون تقنيات متطورة، متاحة ورخيصة التكلفة؛ صعوبة متزايدة في تقصي الواقع على حقيقته في عالم الروايات المتناقضة، وهو ما يمس بجودة صنع القرارات.
عوامل مقررة قد تُحدث تحولات عميقة:
عرض رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”)، الجنرال تامير هايمان، ثلاثة سيناريوهات: (1) امتلاك إيران قدرات نووية؛ (2) تصدعات في المحور الشيعي في إثر اغتيال قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، بافتراض أن “ثمة بديلاً له، لكن ثمة شك في ما إذا كان له بديل”. فلقد حوّل سليماني المحور الشيعي من منظومة تنظيمات إلى منظومة جيوش تحتاج إلى جهاز قيادي، وسيطرة وبنى تحتية إدارية. وسيجد خلفه صعوبة في صيانة وتطوير هذا المشروع المعقد؛ (3) “صفقة القرن” التي عرضها رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، لحل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، تنطوي على احتمال خلخلة التوازنات الحالية في منظومة العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، وفي علاقات إسرائيل مع الدولتين اللتين عقدت معهما معاهدات سلام ـ وهما الأردن ومصرـ وخصوصاً إذا ما رأت إسرائيل في مقترح ترامب شرعية لتقوم، من جانب واحد، بتطبيق القانون الإسرائيلي (الضم) على مناطق المستوطنات في الضفة الغربية، وعلى غور الأردن.
تنافس على الهيمنة الدولية:
رأى مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، الجنرال هـربرت مكماستر، أن الصين ستواصل الدمج ما بين العدوانية الاقتصادية والتجسس الدولي، وخصوصاً التكنولوجي، سعياً للسيطرة على الاقتصاد العالمي. وفي هذا الإطار، ستحاول الاستيلاء على ثروات استراتيجية، مثل الموانئ في إسرائيل، وفي ظل غياب منافسة مضادة من طرف الولايات المتحدة وأوروبا، ستصبح الصين أكثر عدائية. و في ما يتعلق بطرق العمل التي على الغرب انتهاجها حيال هذا التهديد، قال مكماستر: “يجب تحويل ما تعتبره الصين ضعفنا الأكبر – الديمقراطية، سلطة القانون، الصحافة الحرة وحرية التعبير – إلى قوة. وإذا لم تصطدم الولايات المتحدة بالصين في جملة من القضايا، فلن يردعها (الصين) شيء عن توسيع نشاطها وتأثيرها الدوليين”.
ستانلي فيشر
لا تزال الولايات المتحدة، حتى الآن، القوة الاقتصادية والعسكرية الأكبر، غير أن توجه الرئيس ترامب – “أميركا أولاً” – يقصيها عن تحالفات وأطر تعاون دولية. وبحسب ما يقول المحافظ السابق للبنك المركزي في إسرائيل (“بنك إسرائيل”) ستانلي فيشر، فإن هذا التوجه يُضعف، أيضاً، منظومة التجارة العالمية ويهدد بخطر ركود اقتصادي عالمي خلال العقد القريب. وعلاوة على ذلك، فإن تخلي الولايات المتحدة عن مكانة القوة المهيمنة عالمياً قد يؤدي إلى ضياع وفقدان منظومات الضبط والرقابة على انتشار السلاح النووي.
شرق أوسط متغير:
يرى الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأميركية، أن الولايات المتحدة أصبحت الآن أقل تعلقاً بموارد المنطقة، مقارنة بالسابق. ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة مطالَبة بالتدخل في الشرق الأوسط على خلفية المنافسة مع روسيا والصين على التأثير الإقليمي، وحيال التحدي السلفي – الجهادي الذي يبحث عن فرص محلية لإعادة بناء نفسه من جديد. وفي أعقاب اغتيال قاسم سليماني، ازدادت دافعية الولايات المتحدة للاستمرار في ممارسة الضغط الاقتصادي والعسكري على النظام الإيراني. ثمة صعوبة في بناء تحالف شرق أوسطي ضد المحور الشيعي. ترى واشنطن أن عدد الشركاء الذين يمكنها الاعتماد عليهم قليل. بقيت إسرائيل الحليف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه، وهو ما يعني إلقاء مسؤولية جسيمة عليها في حال قررت الإدارة سحب القوات الأميركية من سوريا والعراق، إذ ربما تضطر إسرائيل عندئذ إلى خوض القتال من أجل المصالح الأميركية.
“صفقة القرن“
في أعقاب نشر خطة ترامب للتسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية (بالتزامن مع افتتاح مؤتمر “معهد الأمن القومي”)، جرى تحليل ثلاثة سيناريوهات مركزية:
التفحص والإرجاء:
في ضوء رفض الفلسطينيين للخطة، ستوافق عليها إسرائيل بالمستوى المبدئي، لكنها ستقرر عدم اتخاذ أي خطوات دراماتيكية حتى انتهاء الانتخابات العامة للكنيست (في آذار/مارس 2020)، كما ستعلن أنها ستدعو السلطة الفلسطينية إلى مناقشة تطبيق الخطوات المشمولة فيها عقب الانتخابات.
البدء بتطبيق تدريجي وترك الباب مفتوحاً أمام المفاوضات :
ستوافق إسرائيل على الخطة على أساس اعتبارها فرصة لتصميم استراتيجي مُحسَّن. ومع ذلك، ستبدي اهتماماً بالتعاون من طرف السلطة الفلسطينية وتحاول تجنيدها إلى عملية تقود إلى التسوية. وإذا ما رفضت السلطة، فلن تنتظر إسرائيل بل ستبدأ بتنفيذ خطوات لتطبيق الخطة، ـ ومرة أُخرى – مع إبقاء الباب مفتوحاً لانضمام السلطة الفلسطينية في وقت لاحق. الخطوات الأولى قد تشمل تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، لكن من دون تغيير الواقع اليومي في المنطقة.
ضم من جانب واحد :
ستوافق إسرائيل على الخطة مع استغلال رفضها من جانب الفلسطينيين، باعتبارها فرصة لتصميم المنطقة بحسب شروطها. في هذا الإطار، سيتم فرض القانون الإسرائيلي دفعة واحدة على منطقة غور الأردن وعلى المستوطنات (بحسب الترسيم الوارد في الخطة)، مع الاستعداد لتحمّل ما لهذا الإجراء من انعكاسات سلبية على الساحة الفلسطينية وعلاقة إسرائيل بالفلسطينيين، كما على علاقاتها في الحلبة الإقليمية – وخصوصاً في الجبهة الشمالية – وفي الحلبة الدولية.
في ما يتعلق بالسيناريوهات الثلاثة، لن تقوم دولة فلسطينية خلال فترة خمس سنوات من الآن، كما يرى الخبراء الذين شاركوا في المؤتمر. أي لن ينشأ واقع دولتين لشعبين. وإضافة إلى ذلك، في ظل غياب الوحدة الفلسطينية وعلامات تفكك المجتمع الفلسطيني من الداخل، من المحتمل أن تصل السلطة الفلسطينية إلى حالة من الانهيار في نهاية حقبة رئيسها الحالي، محمود عباس (أبو مازن). ولم يجد المتحدثون ما يدل على إمكان تحقق مصالحة فلسطينية ووحدة داخلية فلسطينية، ولا حتى كردة فعل على تطبيق إسرائيلي تدريجي لخطة ترامب.
هذه الخطة لا تتيح إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة وهي، من ناحية فعلية، تقسم الكيان الفلسطيني الذي سيكون محبوساً في داخل إسرائيل، إلى ستة كانتونات منفصلة، بحيث تبقى إسرائيل مسيطرة على المداخل والمخارج، وعلى محاور الحركة والمواصلات ومعابر السلطة الفلسطينية. وعليه، فقد جرى التشديد على الخشية من أن إجراءات الضم الإسرائيلية الأحادية الجانب على نحو واسع (غور الأردن وكل المستوطنات) من شأنها تسريع تفكك السلطة الفلسطينية و”إعادة المفاتيح” إلى يدي إسرائيل.
مجال العمل المتاح أمام إسرائيل، في المعركة بين حربين، ما زال مفتوحاً. لهذا، من الصواب أن تواصل إسرائيل جهودها الرامية إلى تأجيل وتشويش بناء ماكينة الحرب الإيرانية المطورة في الجبهة الشمالية
معنى هذا أنه سيكون على إسرائيل بسط سيطرتها على المنطقة وأن تتحمل، ضمن ذلك، المسؤولية عن رفاهية وجميع حاجات نحو مليونين ونصف المليون فلسطيني، من دون أي مساعدة اقتصادية خارجية. وهذا قد يقود إلى تحقق واقع الدولة الواحدة التي تنسجم إلى حد كبير مع رغبة قطاع واسع جداً من شريحة الشباب الفلسطيني التي تعتقد أن زمن الكفاح المسلح من أجل استقلال فلسطيني بجانب دولة إسرائيل قد ولى، ولذا يجب السعي نحو وضع دولة واحدة تسود فيها مساواة في الحقوق لجميع مواطنيها.
عدم القدرة على تطبيق الخطة من خلال اتفاق والخطوات الإسرائيلية الأحادية الجانب التي ستغلق الباب أمام حل الدولتين بصورة نهائية، سيؤديان إلى إبعاد الإدارة الأميركية – جمهورية كانت أم ديمقراطية، سواء بسواء – وكذلك المجتمع الدولي برمته عن محاولة الدفع نحو حل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وستترك إسرائيل وحدها تواجه المسألة الفلسطينية. استمراراً لهذا السيناريو، طُرح تقدير بأن الإدارة الديمقراطية (في الولايات المتحدة) بالذات قد تلجأ إلى إجبار إسرائيل على منح جميع السكان بين نهر الأردن والبحر المتوسط مساواة كاملة في الحقوق. وسيكون معنى هذا انتهاء الحلم الصهيوني بدولة يهودية.
مؤيدو إجراءات الضم يفضلون الضم بحكم الواقع (دي فَكتو) على أن يكون بحكم القانون (دي يوري). مع ذلك، ينقل نشر الخطة مركز الثقل من الضم الزاحف والهادئ إلى الضم التصريحي والفعلي. ولكن قبل اتخاذ القرار بضم المنطقة المختلَف عليها، يجب الأخذ في الاعتبار أن عملية الضم تشمل، أيضاً وبالتوازي والتزامن، ضم مشاعر الكراهية، الغضب والنقمة. ومن هنا، فإن الضم بغير اتفاق من شأنه أن يقود إلى دوامة من العنف وعدم الاستقرار المتواصلين.
صحيح أن الأردن يفضل الوجود العسكري الإسرائيلي في غور الأردن، كجزء من الترتيبات الأمنية في إطار أي تسوية إسرائيلية ـ فلسطينية، لكنه يرفض الضم السياسي للأغوار من جانب إسرائيل، والذي يعني في منظوره تكريس الفكرة التي تعتبر المملكة وطناً فلسطينياً بديلاً وزعزعة لأسسها، أي: انتفاء خيار الدولة الفلسطينية المستقلة، فعلياً ونهائياً.
من الضروري الحفاظ على خيار الدولتين، بأي وسيلة، وإبقاؤه، كأفق أمام الفلسطينيين في حال اقتناعهم مستقبلاً بتبني مبادئ خطة ترامب كأساس للتسوية مع إسرائيل؛ كداعم لشرعية دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية في مقابل الحلبتين الدولية والإقليمية؛ كدعامة تسند علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة كذلك في حال جلوس رئيس ديمقراطي في البيت الأبيض؛ كواقٍ من محاولات إرغام إسرائيل على قبول حل الدولة الواحدة إذا ما نشأ في الميدان واقع الدولة الواحدة. ويجب التأكيد أن خيار الدولتين هو الأفضل في نظر الجمهور اليهودي في إسرائيل – 55%؛ ونحو 70% يؤيدون الانفصال عن الفلسطينيين.
خلاصة:
وضع إسرائيل الاستراتيجي أفضل مقارنة بحالة الضعف والهشاشة التي تميز محيطها الإقليمي. خصوم إيران وأعداؤها، وخصوصاً إيران ومن يدور في فلكها، غير معنيين بمواجهة تقودهم إلى حرب مع إسرائيل ويخشون تدخل الولايات المتحدة في القتال إلى جانب إسرائيل. مجال العمل المتاح أمام إسرائيل، في المعركة بين حربين، ما زال مفتوحاً. لهذا، من الصواب أن تواصل إسرائيل جهودها الرامية إلى تأجيل وتشويش بناء ماكينة الحرب الإيرانية المطورة في الجبهة الشمالية. ومع ذلك، عليها الأخذ في الحسبان ضعف خصومها، والامتناع من استغلال الفرض العملانية من دون النظر المعمق في انعكاساتها وإسقاطاتها الاستراتيجية. وفي البُعد السياسي، من شأن استغلال ما يبدو أنه فرصة لجني أرباح فورية، وخصوصاً ضم أراض في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، أن يصعّب إمكان الانفصال المستقبلي، سياسياً وجغرافياً وديموغرافياً، عن الفلسطينيين، بما يفتح الباب أمام تسرب أسباب الضعف الفلسطيني والإقليمي إلى داخل إسرائيل، الأمر الذي سيسبب تآكلاً في قوتها”.
(الجزء الأول: حزب الله التهديد المركزي لإسرائيل https://180post.com/archives/8315 )