“النهضة” أو “الرجل المريض” في تونس

Avatar18017/02/2020
كتب الصحافي تيري بريزيون مقالة في موقع "أورينت 21" قارب فيه تطور حضور حركة النهضة في المشهد التونسي منذ ثورة 2011 حتى يومنا هذا.

يفترض أن يعيش حزب النهضة في تونس تتويجه، فهو اليوم جزء لا يتجزأ من المشهد السياسي والمؤسساتي للبلاد، ورئيسه راشد الغنوشي ثاني شخصية في الدولة (كرئيس مجلس نواب الشعب)، كما فاز الحزب بآخر انتخابات تشريعية حيث تحصّل على 54 مقعدا (من بينهم 52 مقعدا لنواب انتخبوا في قائماته) بل وقدّم حتى مرشَّحه الخاص للانتخابات الرئاسية (عبد الفتاح مورو) الذي حل في المرتبة الثالثة (بنسبة تصويت بلغت 9,12%). ويعتبر كلّ هذا أكثر من إنجاز بالنسبة لحزب عاش 30 سنة خارجا عن القانون بل وحتى في السرّية، وكان محلّ محاولة استئصال. فعلا، هذه الإنجاز انتصار، لكنه انتصار مرير.

فالانقسامات الداخلية للحزب تبرز اليوم أمام الملأ، حتى أن بعض مسؤوليه يتطرّقون – سرّا – لإمكانية انشقاق “النهضة” أو اختفائها -على الأقل في شكلها الحالي. يحتج بعض النشطاء بصمت فينأون بأنفسهم عن حياة الحزب، بينما يختار البعض الآخر أن يطبق الباب بقوة وهو يغادر. وهذا ما فعله هشام لعريض (نجل الوزير الأول السابق علي لعريض) وزياد بومخلة، وهما مسؤولان تاريخيان لشباب “النهضة”، سلّما بطاقة انخراطهما في 14 كانون الثاني/يناير – أي في ذكرى رحيل زين العابدين بن علي – رسالة منهما أن الثورة مستمرة خارج أطر الحزب الذي يرونه غير قابل للإصلاح. كذلك بالنسبة للأمين العام زياد العذاري (الذي يشغل أيضا منصب وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي)، فقد استقال من منصبه الحزبي ومن المكتب التنفيذي في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اعتراضا على اختيار الحبيب الجملي رئيسا للحكومة. وفي 10 يناير/كانون الثاني، انشق العذاري عن مجموعته البرلمانية ليضم صوته للأغلبية التي رفضت المصادقة على الحكومة الجديدة (…)

ومنذ افتتاح مجلس نواب الشعب الجديد في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، انتُخب الغنوشي رئيسا له بفضل اتفاق أبرمه مع مرشح الانتخابات الرئاسية نبيل القروي – أحد أبرز العاملين في مجال الاتصال وصاحب قناة نسمة ومؤسس حزب “قلب تونس”، الذي وصفته حركة النهضة طوال الحملة الانتخابية بكونه حزب الفساد. ولن يكون هذا التنكر لخطاب سابق هو الأخير من نوعه.

استبعاد مرشّحَين

وفق القوانين الحزبية لحركة النهضة، يفترض أن يكون رئيسها المرشح الطبيعي لمنصب رئاسة الحكومة. وبتحييد هذا الخيار، بات ضروريا اختيار شخصية مستقلة ومحل ثقة لطمأنة الحلفاء. يعود هذا الاختيار إلى مجلس الشورى، باقتراح من المكتب التنفيذي. وكان راشد الغنوشي يفكر بمرشّحَين، أوّلهما، الحبيب كشَوْ، وهو مستشار سابق للشؤون الاجتماعية لدى الوزير الأوّل، أيام حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض (أي من 2011 إلى 2014)، والذي يستحسنه الاتحاد العام التونسي للشغل، وثانيهما، هو رضا مصباح، وهو وزير سابق لزين العابدين بن علي. لكنه لم يضع اسمه على لائحة الأسماء الخمسة التي اقترحها على مجلس الشورى، وقد تفاجأ أعضاؤه بعدم دفاعه عن أي من المرشحين، وهو الذي عوّد الحزب ببذل كل جهوده لإقناع المجلس برأيه.

تربّع الحبيب الجملي رأس القائمة بـ79 صوتا، فيما لم يحصل الحبيب كشَوْ إلاّ على صوتين. الجملي – وهو كاتب دولة سابق للزراعة زمن حكومات الترويكا – ليس عضوا في حركة النهضة، لكنه يُطمئن جهاز الحزب الذي يخشى رئيس حكومة مستقلا أكثر من اللزوم، تصعب السيطرة عليه. وغداة هذا التصويت صباحا، كان راشد الغنوشي مترددا قبل موعده مع رئيس الدولة حيث سيقترح عليه رسميا هذا المرشح، فهو يعرف أن الجملي لا يوحي بالثقة الكافية. وقد حاول الغنوشي مرة أخرى فرض خيار الحبيب كشَو، وفكّر حتى في تقديم مرشّحين آخرين في آخر لحظة. لكن ميزان القوى لم يعد في صالحه، إذ لم تعد لديه السلطة الكافية لفرض خياره وانحاز أخيرا للحبيب الجملي.

في 18 ديسمبر/كانون الأول، تسبب الارتباك العام في إفشال اتفاق -أُبرم قبل يوم مع أحزاب أخرى – لتشكيل حكومة حزبية بسبب قلة الثقة. وقد تلت ذلك عملية أكثر فأكثر غموضا في كنف الحزب أسفرت عن تشكيل حكومة مستقلين، رفضها مجلس نواب الشعب بقوة في 10 يناير/كانون الثاني، بــ134 صوتا مقابل 72 (وهي أصوات نواب النهضة وتحالف الكرامة). في هذه الأثناء، تنازل راشد الغنوشي عن الحبيب الجملي واتفق مع نبيل القروي على اقتراح فاضل عبد الكافي، وهو وزير سابق لرئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي. وقد سبق وقدّم حزب “قلب تونس” عبد الكافي كمرشحه لمنصب رئاسة الحكومة في حال فوز نبيل القروي، فيما لا يزال صدى دعم رئيس حركة النهضة في 16 سبتمبر/أيلول لقيس سعيد في إطار الانتخابات الرئيسية – باسم الثورة – يتردد.

يكشف هذا الفصل انعزال حركة النهضة واحترازا لا يمكن تجاوزه من قبل الأحزاب الأخرى وضعف القيادات واستمرار صدمة الإقصاء والقمع في جسد النهضة، والميل إلى التحالف مع المنافسين لدرء خوف رجوع الديكتاتورية، عوض حلفاء يعدون بتغيير سياسي.

لا يزال الحزب الإسلامي يظهر في صورة الخطر المهدد لـ”المشروع الوطني” وكفاعل سياسي يجب الاحتفاظ به قريبا حتى يسهل خنقه. ولا يزال اندماج النهضة في الحياة السياسية يبدو كمكسب يمكن التراجع عنه، لا سيما في مناخ جيوسياسي لم يعد ملائما

ثمن الاندماج

إقرأ على موقع 180  قيس سعيّد ضد النخبة التونسية.. أي أُفق للصراع؟

لم يُضعف دخول الحياة السياسية التونسية في حقبة ديمقراطية من العداء الذي تكنّه النخب الفكرية ونخبة الدولة لحركة النهضة. إذ لا يزال الحزب الإسلامي يظهر في صورة الخطر المهدد لـ”المشروع الوطني” وكفاعل سياسي يجب الاحتفاظ به قريبا حتى يسهل خنقه. ولا يزال اندماج النهضة في الحياة السياسية يبدو كمكسب يمكن التراجع عنه، لا سيما في مناخ جيوسياسي لم يعد ملائما كما في السنوات الماضية، نظرا للاضطراب الذي تعيشه الجارتان ليبيا والجزائر. لذا، وجب دائما دفع ثمن محافظة اندماج الحزب في اللعبة السياسية.

والحال أن المستقبل كان يبدو زاهرا في مايو/أيار 2016، بعد مؤتمر النهضة، فقد حضر رئيس الدولة آنذاك – أي الباجي قايد السبسي – الافتتاح ليرسّخ تصالح الدولة مع النهضة، يدا في يد مع الغنوشي. لكن صوتا بين الناشطين ظل ينادي بأن يصبح الحزب مُصلحا للمنظومة. وقد فرض الغنوشي رُغم الاحتجاجات التي جدت أثناء المؤتمر نظرته لمكتب تنفيذي تحت سلطته عن طريق التهديد بالاستقالة.

لكن إصلاح الحزب قد مضى قدما ولقي فصل السياسي عن الدعوي صدى دوليا. وكان رئيس الحكومة آنذاك – أي الحبيب الصيد – يميل أكثر للتعامل مع حزب منظم ودائم الحضور من ميله للتعامل مع حزب الباجي قايد السبسي “نداء تونس” والذي بدأ في الانقسام. برغم ذلك، وجبت التضحية بالحبيب الصيد في يوليو/تموز 2016 بطلب من رئيس الدولة الذي كان يرغب في إعادة الأخذ بزمام الأمور (…)

ثني عزيمة ناشطي الحزب

وكان المنعرج الرئيسي عندما قرر راشد الغنوشي في مايو/أيار 2018 مساندة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي يرغب رئيس الدولة في إبعاده منذ بداية السنة. وقد كان الباجي قايد السبسي يبدو أضعف حالا، وغارقا في الأزمة التي تسبب فيها سطو ابنه على حزب “نداء تونس”. أما يوسف الشاهد، فقد كان يحظى بشعبية وحتى بالدعم، لا سيما من قبل شركاء دوليين. وقد فرض مجلس الشورى شروطه، لكن راشد الغنوشي قرر في 28 مايو/أيار أن لا سبيل من عزله، مسببا بذلك قطيعة مع السبسي. وهكذا استثمر الغنوشي نجاح حزبه النسبي في الانتخابات البلدية لفائدة لعبة السلطة، عوض الدفع نحو إصلاحات أكثر جرأة.

كانت المراهنة على شخصية مستقلة (وإن كان رئيس الحكومة) طامعة في الحكم خطيرا، وقد ذكّر لطفي زيتون – المستشار السياسي للمجلس التنفيذي للحزب – بأن اتفاق 2014 كان مع رئيس الدولة، لا مع مسؤول سياسي. وسرعان ما أيقظ الشاهد مجددا شبح الاستقطاب الأيديولوجي لإضعاف النهضة، إذ أعلن في 13 أغسطس/آب 2018 نيته في إرساء قانون العدالة في الميراث. وبقدر ما تعزز الاتفاق مع يوسف الشاهد، بقدر ما كانت الملفات المحرجة بالنسبة لحركة النهضة تظهر أمام الملأ، لا سيما مسألة الجهاز السري للحزب الذي يتهمه بعضهم (دون أدلة) بتورطه في اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي سنة 2013.

بينما كان إصلاح الحزب في مؤتمر 2016 في تعثّر، خرجت أشباح الماضي إلى العلن وتفاقمت الاحتجاجات الداخلية. وأصبح الطلاق بين القاعدة والقمة أمرا مقضيا في يوليو/تموز 2019، عندما غيّر رئيس الحزب 30 من بين رؤساء القوائم الـ33 للانتخابات التشريعية والذين اختارتهم الهيئات الجهوية للحزب، بهدف عزل المعارضين وتأسيس مجموعة برلمانية يسهل عليه التحكم فيها. لكن بقدر ما ربح الغنوشي بذلك من نفوذ، فقد خسر من سلطته، وفقد قدرته على فرض خياراته على الحزب. كما عمل على تأخير المؤتمر المزمع انعقاده في ربيع 2020، بهدف إطالة ما يفترض أن يكون عهدته الأخيرة (…).

(*) المزيد على موقع “أورينت 21”:https://orientxxi.info/magazine/article3630

(**) راشد الغنوشي، عجوز تونس الأخير: https://180post.com/archives/8508

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  كيسنجر "يعترف".. أين قراءة مصر لحرب أكتوبر؟