نجح الزعيم التاريخي لحزب “النهضة” التونسي راشد الغنوشي، بأن يصير رئيسا لمجلس نواب الشعب التونسي، وهو بذلك أول شخصية إسلامية ترأس البرلمان في تونس، لكن هذا المنصب الذي أراده الغنوشي تتويجا لمسيرته السياسية، كان نتيجة مسار عسير وطويل ومثير للجدل مر به الرجل طيلة حياته في تونس وفي منفاه.
درس الغنوشي العلوم الإسلاميّة في تونس، فيما صُقلت تجربته خارجها. فور إنهاء دراسته المحليّة، رفض الرجل سلوك مسار تقليديّ، فتخلّى عن التعليم وارتحل شرقا. حطّ به الرحال أولا في مصر (1964)، لكنّه لم يمكث بها طويلا، فسافر إلى سوريا ودرس الفلسفة. مع انتهاء محطّته الدمشقيّة (1968)، كان الغنوشي قد احتكّ عمليّا بثلاث تجارب عربيّة وآمن بالقومية العربية في بداية اهتمامه بالسياسة، وعايش نظامين قوميين ونظاما ذا نزعة محليّة، قد يجمع بينها تأليه الزعيم وعلمانيّتها، وإن بدرجات متفاوتة.
وعلى غرار جميع العرب، عاش الغنوشي صدمة النكسة عام 1967، وتأثر بها وصرنا أمام شاب كبر في ظلّ ثلاثة أنظمة كشفت الهزيمة والاستبداد حدود شعاراتها. كيف ستكون ردّة فعله؟ جاءت الإجابة في باريس حيث انتقل للعيش موقتا، وقد كانت العاصمة الفرنسيّة حينها في خضمّ انتفاضة 1968 الشبابيّة. لم ينغمس الغنوشي في الأجواء الفرنسيّة على غرار أغلب الشباب التونسيّين المقيمين في فرنسا في ذلك الزمن، لكنّه اكتشف القدرة التغييريّة التي يقدر عليها أبناء سنّه.
العقل السياسي لـ”الجماعة”
بشكل مفارق، لم يجد الغنوشي ضالته في ركوب موجة العصر، بل في استحضار ماض مجيد. انخرط بداية في جماعة الدعوة والتبليغ التي صقلت قدراته التواصليّة، ونشط ضمن الجالية المغاربيّة في فرنسا. عاد إلى تونس، ويقول بعض من عاصروه حينها أنّه جاء في إجازة، لكنّه سمع عن مجموعة تنشط بمساجد العاصمة، فاتصل بها ووجد مشروعها مثيرا للاهتمام إلى درجة أنّه قرر البقاء في البلاد.
تدريجيّا، صار الغنوشي العقل السياسيّ الأبرز للمجموعة التي ستتحول بداية إلى “الجماعة الإسلاميّة” ثم حركة “الاتجاه الإسلاميّ” وأخيرا “حركة النهضة”. برغم مرور الأعوام، لم يبرز أحد ينافس الغنوشي على لقبه؛ فقد ظهر شيوخ خطباء مفوهون وشخصيات كاريزميّة أكثر منه حاولت منافسته، وتولت شخصيات أخرى على غرار عبد الفتاح مورو وصالح كركر والصادق شورو وفاضل البلدي وحمادي الجبالي ومحمد بن سالم رئاسة الحركة في فترات مختلفة من الثمانينيات، لكن الغنوشي كان يعود في كل مرة للرئاسة أقوى من ذي قبل، وبقي على رأس الحركة منذ 1991 إلى اليوم.
تجاوز الثنائيّات
يُعرف عن الغنوشي أنه مستمع جيد لجميع وجهات النظر المختلفة ويسعى دائما إلى التوفيق بين الآراء، لكنه في الآن نفسه متسلط معتد بنفسه لا ينفذ إلا اجنداته. وغالبا ما كان ينزل بثقله إلى البرلمان السابق لإجبار النواب على التصويت على قانون ما، حسب توافقاته، وغالبا ما يكون موقف كتلة حركة النهضة على اليمين إلى أن يأتي الغنوشي ويفرض على النواب اتخاذ الموقف المعاكس تماما.
سطوة الغنوشي داخل حركة النهضة تنبع من ثباته على نهجه برغم تجارب السجن، حتى بعد الحكم عليه بالإعدام أواخر زمن حكم بورقيبة، ولكن كذلك من قدرته على التقاط اللحظة والتأقلم وتقديم المراجعات. هذا الملمح الأخير ظهر خاصّة بعد خروجه من تونس للمرّة الثانية والاستقرار في لندن عقب جولة في الجزائر والسودان، حيث ألّف كتبا راجت في صفوف إسلاميّي المنطقة بأسرها وأثّرت فيهم.
سطوة الغنوشي داخل حركة النهضة تنبع من ثباته على نهجه برغم تجارب السجن، حتى بعد الحكم عليه بالإعدام أواخر زمن حكم بورقيبة، ولكن كذلك من قدرته على التقاط اللحظة والتأقلم وتقديم المراجعات
في كتبه وخطبه وتحركاته انطلاقا من التسعينيات، تجاوز الغنوشي تدريجيّا الثنائيّات التي تبناها سابقا، فصار الإسلام في نظره متوافقا مع الديموقراطيّة، وتصالح مع التيّار العربيّ الوحدويّ، وقاد “النهضة” إلى التقارب مع المعارضين العلمانيّين التونسيّين على أساس برنامج حدّ أدنى جامع.
في عودته الثانية إلى تونس، ارتكس مشروعه في نسخته المطوّرة، فرغم تحالف حركته مع حزبين علمانيّين بعد الانتخابات الأولى عقب سقوط نظام زين العابدين بن علي، رفضه طيف واسع من العلمانيّين. تفاقم الرفض مع سلوكه منهجا يحتوي السلفيّين الذين اعتبر أنّهم يذكرونه بشبابه، أي بحماسته ورعونته في ذلك السنّ، وسيفاقم هؤلاء من المشكل إثر اغتيال زعيمين علمانيّين، أحدهما ماركسيّ والآخر قوميّ عربيّ، شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
عقب ذلك، توتّرت الأوضاع في تونس، وكانت تسير في اتجاه يشبه ما آلت إليه الأمور في مصر. ادرك الغنوشي اللحظة، وذهب للقاء الباجي قائد السبسي في باريس، وقد كان ذلك بمثابة خطوة إلى الوراء ستتلوها خطوات إلى الأمام. أغضب اللقاء مع الرجل الذي عمل في نظامي بورقيبة وبن علي طيفا واسعا من جمهور “النهضة”، لكنّه كان فاتحة ما صار يُعرف بـ”توافق الشيخين” الذي جعل الغنوشي أحد قطبي القرار السياسيّ في البلاد، وإن انطلاقا من موقع غير رسميّ.
معارك بجبهات متعددة
توفى قائد السبسي وهو رئيس للجمهورية، وقد حقّق بذلك حلمه في أن يرث بورقيبة وأن يمنحه بالنيابة عنه جنازة مهيبة حرمه منها بن علي. لكنّ الغنوشي أيضا يحمل طموحا في أن يلقى اعترافا مماثلا، لا من أنصار حركته فقط، بل من مجمل الشعب التونسيّ ومن الدولة. ترشح الغنوشي إلى البرلمان وليس إلى رئاسة الجمهوريّة، لأنّه لم يعد مستعدا لمغامرة غير محسوبة العواقب يُمكن أن تنهيه إلى الأبد ليصير مرشحا رئاسيّا سابقا أو حتى رئيس دولة ترفض نصف الدول العربيّة استقباله.
كان الهدف من المقعد البرلمانيّ واضحا منذ البداية، السعي إلى رئاسة البرلمان. حقّق الغنوشي مطمحه منذ الجلسة الأولى، وتحالف مع كلّ من كان مستعدا لذلك، حتى حزب “قلب تونس” الذي قاد حملة انتخابيّة حامية ضدّه باعتباره أحد أحزاب منظومة بن علي. تمثّل رئاسة البرلمان موقعا ممتازا للتحوّل إلى شخصيّة وطنيّة، فالبرلمان هو عماد النظام السياسيّ الحاليّ في البلاد، كما يضمن أوقات عمل ملائمة لشيخ في النصف الثاني من عقده السابع حيث يمكن لنائبيه تولي مهامه في أيّ وقت، ويوفر لقاءات دوريّة مع أهم المسؤولين في البلاد وضيوفها المرموقين، وتُقام لمن تولى المنصب جنازة وطنيّة وحداد رسميّ.
قد يبتعد الغنوشي عن رئاسة الحركة في المرحلة المقبلة باعتبار أن القانون الداخلي للنهضة يمنعه من الترشح لولاية أخرى، لكنه سيبقى فاعلا أساسيا في الحياة السياسية
ومنذ وضع الغنوشي نصب عينيه رئاسة البرلمان، شرع في تحقيق حلمه عبر تعيين نفسه على رأس قائمة النهضة للانتخابات البرلمانية في تونس العاصمة، وأبعد بذلك رئيس القائمة وأبرز معارضيه داخل الحركة (وزير الصحة الأسبق عبد اللطيف المكي). هذا القرار كاد يحدث انقساما حادا داخل النهضة حيث انتفضت مجموعة القيادات المحسوبة على “الثوري” في مواجهة تيار الغنوشي “المهادن” الذي ابعد القيادات المناوئة لرئيس الحركة من رئاسة القائمات المترشحة للبرلمان، وبالتالي، أفقد عددا منها فرصة الفوز بمقعد في البرلمان، وذلك لضمان كتلة نيابية موالية له بالكامل.
استراتيجية “معاقبة” المخالفين لم تبدأ مع ترشح الغنوشي لعضوية البرلمان بل كانت حاضرة طيلة مسيرة الرجل في الحركة. فجميع القيادات التي خرجت عن طاعة الغنوشي تم ابعادها نهائيا من الحركة ومن الحياة السياسية مثل صالح كركر وحمادي الجبالي والمفكر حميدة النيفر. حتى نائبه عبد الفتاح مورو (نائب رئيس البرلمان السابق) لم يتبوأ هذه المكانة في البرلمان التونسي وفي النهضة إلا بعد تجديد الولاء للغنوشي وعودته الى النهضة بعد غيابه عنها لنحو عقدين من الزمن بسبب نقده للتوجه العنيف الذي سلكته الحركة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات.
وفي المؤتمر السابق لحركة النهضة، واجه الغنوشي معارضة شديدة من قبل التيار الذي رفض المصالحة مع النظام السابق وأصر على محاسبة الغنوشي على حصيلة رئاسته للحركة. هذه المعارضة رفضت منح الغنوشي صلاحيات كبيرة داخل الحركة على غرار التصرف في الاموال وتعيين أعضاء المكتب السياسي، لكن الغنوشي رفض قطع اجنحته خاصة المالية وهدد بالانسحاب فكان أن منحه المؤتمر ما يريد، وفي المقابل، عاقب معارضيه وابعدهم عن المكتب السياسي والمكتب التنفيذي للحركة. وبذلك ضمن الغنوشي لنفسه ولاية جديدة وأخيرة على رأس النهضة دون معارضين.
توريث النهضة
قد يبتعد الغنوشي عن رئاسة الحركة في المرحلة المقبلة باعتبار أن القانون الداخلي للنهضة يمنعه من الترشح لولاية أخرى، لكنه سيبقى فاعلا أساسيا في الحياة السياسية خاصة وأنه على رأس السلطة التشريعية في البلاد، ومعه كتلة نيابية غالبيتها من الموالين له.
لكن خلافته على رأس النهضة لا تزال تحير النهضويين بمختلف توجهاتهم. فرغم أن الغنوشي دأب منذ انتخابات 2014 التشريعية على تقديم وجوه شابة وجديدة وعصرية، بديلة عن الوجوه الكلاسيكية، وقرّبها منه وبوأها مناصب قيادية في النهضة وفي الحكومة وكان يهدف إلى أن تكون هذه الوجوه هي التي ستشكل القيادة الجديدة للنهضة في مرحلة ما بعده، إلا أنّ الامر ليس بتلك البساطة.
فخلافة رجل مثل الغنوشي حافظ على وحدة الحركة لعقود طويلة ولعب أدورا محلية كبيرة كما حاول في السنوات الأخيرة لعب أدوار إقليمية تبدأ من ليبيا وتمر في القاهرة (حيث سعى للعب دور بين الإخوان والنظام بدفع قيل إنّ ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف كان منحه إياه) وتصل إلى إسطنبول (حيث قيل أيضاً إنّه سعى في بداية العام لتحقيق مصالحة بين رجب طيب اردوغان والرئيس السابق عبدالله غول)، مرشحة لأن تحدث خلافات قوية بين أبناء النهضة، بين الأخوة الأعداء.
بهذا فقط، ينضم الغنوشي إلى بورقيبة والسبسي في كونهم من جيل لا يستهويه لا تنازل، ولا توريث (ديموقراطي).