«تعبَ طينُك… يا مولاي».. سيرة الخال، سيرة الطين

«بين موتين تقعُ أنت. فسحة للحركة بين جمودين: جمود ما قبل البداية وجمود ما بعد النّهاية. حمامة بين رصاصتين. صهيل مهر جموح بين انكسارين للصّوت في الصدر الحرج». هكذا استهلّ عمّار الجماعي «الخال» سيرته - أو ما تيسّر منها - «تعب طينك... يا مولاي» الصادرة حديثا عن دار الفردوس للنشر والتوزيع بتونس. ومن السطور الأولى نُدرك أنّنا في حضرة نصّ استثنائيّ كُتب بلغة شعريّة ونفَس صوفي يضرب بجذوره في أعماق بادية الجنوب التونسي. 

عرّف فيليب لوجون السيرة الذاتيّة بأنّها «حكيٌ اسـترجاعي نـثري يقـوم بـه شـخص حقيقي عن وجوده الخاص». ولذلك يلجأ أغلبُ كُتّابها إلى استعمال ضمير المتكلّم ليتطابقوا مع الشخصيّات الرئيسيّة في مرويّاتهم فيكون السردُ مباشراً وحميميّاً. وقد يُؤثر البعضُ ضميرَ الغائب التماساً للحياد والموضوعيّة، كما صنع طه حسين في «الأيّام»، على سبيل المثال.

***

لم يعتمد عمّار الجماعي في سيرته ضمير المتكلّم أو الغائب، بل آثر استعمال ضمير المخاطَب. ويمكن أن نعيد ذلك الاختيار إلى ثلاثة أسباب رئيسة:

أوّلها؛ البعد الروحي في السيرة الّذي تجسّد بوضوح في المضمون كما في لغة السّرد. تصمتُ «الأنا» في السير الروحية تواضعاً وخشوعاً في حضرة المعاني الكبرى ويصبح الراوي شاهداً بعضُه على بعض.

ثانيها؛ تنزّلُ السيرةِ في عالم البدو الّذين يأنفُون بطبيعتهم من استعمال ضمير المتكلّم فلا يجرونه على ألسنتهم إلّا واستعاذوا من غوايته معقّبين بقولهم «أعوذ بالله من كلمة أنا!».

أمّا ثالثها؛ فهو فنّي متعلّق بتفاصيل سيرة الرّاوي المصطبغة بشعور كبير بالضيم في مواجهة قسوة المحيطين الطبيعي والإنساني. تعمّد عمّار الجماعي في سيرته أن يسلب الطّفلَ الّذي كان صوتَ السرد ليُعمّق إحساسه بطفولته القاسية. كأنّه أراد أن يقول لنا إنّ ذلك الصبيّ ما كان له أن يتكلّم وقد أخرسه العوزُ الشّديدُ وهو الّذي وُلد لأسرة هي «الأفقر بامتياز» في بيئة فقيرة، فشبّ في هامش الهامش.

يجدرُ التّنويهُ أنّه برغم سطوة ضمير المخاطب فإنّ في النصّ بعضاً من سيرة الغائب. اجترح عمّار الجماعي لذلك الغائب اسم «الطين» وأضافه أحياناً إلى ضمير المخاطب ليكون «طينك». في ذلك طبعاً إحالة على المعجم الأسطوري ( الطّين-الصلصال هو مادّة الخلق الأساسيّة في الأديان والأساطير القديمة) وتأكيد للنّفس الرّوحي لهذه السيرة. وهو من جهة أخرى، إمعان من الرّاوي في نفي الذات المتكلّمة بإرجاعها إلى أصلها الطيني لتصبح سيرتُها سيرةَ الطين، طينها، الّذي تكوّن ثمّ شبّ وسار في درب الحياة حتّى تعب.

***

يُشعرك النصّ بطول الرّحلة الّتي بدأت في أزمنة توحي ببعدها لإيغالها في البداوة. عندما تلدك أمّك في حصيدة ثمّ تلفّك في خرقة وتضعك في الظلّ ثمّ تستأنف الحصاد لتعشّي بناتها، فأنت بالضّرورة قادم من زمن سحيق حتّى وإن كنت ابن ستّينيات القرن العشرين. ولذلك تعب الطّين وهرم ولمّا يزل فتيّا

قسّم «الخال» عمّار الجماعي نصَّه الروائي إلى أربعة أبواب عنونها تباعاً: «تخلّقُ الطّين»، «تدبير المتوحّد»، «طفل الزّوايا» و«أيّام المسغبة». روى في «تخلّق الصلصال» حكاية مولده في أحد نجوع البادية من الجنوب التونسي. اختار صيغةَ «تفعّل» الّتي تُفيد المطاوعة للحديث عن مجيئه إلى الدنيا الّذي كان محفوفاً بمخاطر جمّة ومنفتحاً على كلّ الاحتمالات. ألقى به القدر ذات صيف من ستّينيات القرن الماضي في أحد النجوع النائية وتقاذفته تصاريف الدّهر من البداية. وُلد في حصيدة وقُطع حبله السرّي بمنجل، وكادت أمّه أن تموت على النفاس. ولمّا تحاملت على نفسها في الصباح وزغردت معلنة للنّجع مولده لم تتجاوب معها امرأة واحدة لأنّها كانت غريبة!

***

تناول الراوي في «تدبير المتوحّد» طفولته المبكّرة ما قبل المدرسة. وهي طفولة عسيرة في محيط قاسٍ تتكثّف في مشهده وهو ملسوع قد تشنّجت أطرافه وأهله يُسقونه ماء ممزوجاً بترابٍ من مقام وليّهم الصالح. كان يمكن أن يموت الفتى في سنّ مبكّرة مثل الكثير من أطفال البوادي في تلك الحقبة من تاريخ البلاد. ولكنّه عاش، عاش «ليرويها» على حدّ عبارة غابرييل غارسيا ماركيز.

 كانت حياة الفتى النحيل، سلسةً من المحطّات المنفتحة على احتمالات متنافرة. ومن اللحظات الفارقة فيها التحاقُه بالمدرسة الّذي خضع هو الآخر لقانون الصدفة المحض. حلمت أمُّه له بالكرّاس ودواة الحبر وأراد له أبوه عصا الراعي وكلبَه. ومن حسن حظّه (وحظّ قرّائه) أن انتصرت إرادة الأمّ فكان عمّار الجماعي الكاتب وكانت هذه السيرة. لو كانت المرأة البدويّة يومها أقلَّ عزماً وتصميماً، لسبب من الأسباب، لكانت رحلته في الحياة مختلفة تماماً.

***

ارتاد الفتى مدرسة بعيدة في ظروف صعبة حتّى أنّه أراد الانقطاع عنها برغم تفوّقه. تدخّلت الأمّ مرّة أخرى بقوّة وأصرّت أن يمضي في مسيرته. ومن أجل ذلك دفعت بالأسرة في طريق مجهول بعيداً عن النجع لتسكن بالقرب من المدرسة. اضطرّت المرأة إلى مخالفة الأعراف الاجتماعيّة مطالبة ببعض ميراثها (تترك المرأة البدويّة ميراثها لإخوتها الذكور حتّى ولو كانت تشكو من الخصاصة!) فكانت لها قطعة أرض في القرية تكفي بالكاد لبناء غرفة طينيّة. سرد عمّار الجماعي أخبار تلك المرحلة في البابين الثالث «طفل الزّوايا» والرابع «أيّام المسغبة».

***

لا شكّ أنّ علاقة الصبيّ بأمّه هي أحد المفاتيح الأساسيّة لقراءة هذا النصّ. كان لفاطمة (أحد الأسماء القليلة الّتي وردت في النصّ) أكثرُ من مكانة الأمّ في حياة الرّاوي. «ولدته واقفة» فكان «عصابة رأسها»، على حدّ عبارتها. ومن البداية نشأت بينهما علاقة تواطؤ روحي وفكري استمرّت إلى آخر أيّامها (ناقشته في ضبط كلمات أغنية وهي على فراش مرضها الأخير!). ولعلّ من أقوى المشاهد في هذه السيرة، على ما فيه من بالغ الحزن والشجن، مشهده وهو يتوسّد ركبتها عند الرحى ويسترق السمع إلى «عدّوداتها» الحزينة. يبعثُ صوت الرّحى الرتيب شجناً خفيّاً في نفس المرأة الغريبة ويعيد لها ذكريات بعيدة قريبة فتغمغم بمناجاة تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نواح. يتظاهر الصبي في الأثناء بالنوم لكي لا يكون رقيباً على أمّه فيمنحها فسحة الخلوة بنفسها، ولكنّه كان يلتقط كلّ كلمة عدّدت بها ويخزّنها في أعماق ذاكرته البكر. وبعد نصف قرن يستعيد ذلك المشهد بلغة مثقّلة بحزن مرّ وغصّة غائرة في النفس تذكّرنا بقصيدة الأبنودي («الخال» الأكبر!) الشهيرة «أمّايه.. وأنتِ بترحي بالرّحى» الّتي رثى بها رسّام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي (اغتاله الصهاينة في لندن سنة 1987).

إقرأ على موقع 180  "رعد موسكو" و"سعد روما".. ولبنان المُهدد!

***

كُتبتْ هذه السّيرة بلغة عالية فجاءت نثراً أعلقَ بالشعر. هي لغة صافية بها أثرٌ بيّنٌ لمدرسة النثر الفنّي القديم الّتي لا يُخفي الراوي افتتانه بها

من البداهة أن تكون الخيل إحدى الثيمات الأساسيّة لنصّ ينضح بداوة. ومن البداية يطالعنا تشبيه مدهش للأمّ – وهي تلد في حصيدة كاتمة آلامها – بالفرس وهي تحمحمُ. وهو تشبيهٌ يجمع فيه الرّاوي بين معنيين عزيزين على نفسه يُجسّدان الأصالة والكبرياء. وقد أفرد فقرةً طويلة في «طفل الزّوايا» وصف فيها بلغة جاحظيّة أنيقة جمال فرس رآها في صباه. ومن وحي تلك السنوات الاولى من عمره ظلّ مفتتناً بالخيل ووهبها حيّزاً هامّاً من حياته حتّى أنّه خصّها بدراسة قيّمة بعنوان «وصف الجواد بين الشعر الجاهلي والشعر الشفوي التونسي» صدرت عن دار ورقة للنشر والتوزيع بتونس، سنة 2023.

كُتبتْ هذه السّيرة بلغة عالية فجاءت نثراً أعلقَ بالشعر. هي لغة صافية بها أثرٌ بيّنٌ لمدرسة النثر الفنّي القديم الّتي لا يُخفي الراوي افتتانه بها. أخذ «الخال» القارئَ في جولة عبر الزّمان والمكان ليريه ملاعب صباه في النّجع، حيث الكوخ ذو الفتحين والمعمّرة (البيت في البادية) ويعرّفه على كلبه الأبلق وجدْيه الأشخم. ثمّ اصطحبه إلى المدرسة البعيدة أين اكتشف سحر حروف العربيّة وبهاءها، معرّجاً به على الجامع الّذي حفظ فيه أولى سور القرآن وفُتن بأجراس التراتيل في رحابه السّاكن. وأشهده على لحظات من التجلّى الّتي غيّرت حياته، ومنها لحظة سماعه وافتتانه بأوّل بيت من شعر الشفوي (الملحون). عمل ذلك البيت عميقاً في روحه، وانعقد من يومها رباط متين بينه وبين الأدب الشفوي حتّى غدا اليوم أحد أبرز المتخصّصين فيه.

***

عندما ننتهي من قراءة سيرة عمّار الجماعي نفهم معنى استهلالها ببيت زهير الشّهير عن تكاليف الحياة. يُشعرك النصّ بطول الرّحلة الّتي بدأت في أزمنة توحي ببعدها لإيغالها في البداوة. عندما تلدك أمّك في حصيدة ثمّ تلفّك في خرقة وتضعك في الظلّ ثمّ تستأنف الحصاد لتعشّي بناتها، فأنت بالضّرورة قادم من زمن سحيق حتّى وإن كنت ابن ستّينيات القرن العشرين. ولذلك تعب الطّين وهرم ولمّا يزل فتيّا بمقاييس العمر البيولوجي.

اختار الخال عمّار أن لا يُسهب في «مقالته في السيرة» – كما سمّاها – فجاءت جميلة في اقتضاب برغم الشّجن الغالب عليها. تواترُ نقاط الاسترسال في ثناياها يشي بأنّ في كلّ مكان منها كلام مسكوت عنه وبأنّ داخل النصّ نصوصاً كثيرة لم تُكتب. أناخت مرارة الذكريات بكلكلها على الرجل فأضنته وجعلته يتوقّف عن السّرد هاتفا بضميره المخاطَب «توقّف.. توقّف.. لقد تعب طينُك.. يا مولاي»!

Print Friendly, PDF & Email
صاحبي الكرعاني

كاتب تونسي (القيروان)، بروفسور في الرياضيات، جامعة ليل ـ فرنسا

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  عوْدٌ على بَدْء.. كلّن يعني كلّن! (1)