لا أتردد في الجواب: نعم، فالعوامل التي أنتجت “داعش” وجذبت إليه عشرات آلاف الناشطين السلفيّين وشبه السلفيّين من كل أنحاء العالم ما تزال موجودة. تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لم يولد من العدم. فكراً، هو من رحم تنظيم “القاعدة”، وإذا أمكن استخدام التعبير الشائع في لغة الكمبيوتر “سينس”، يمكن تسميته بــ”القاعدة تطبيق رقم 2”.
من الواضح أنّ التنظيم فقد الكثير من عوامل جاذبيته وقوّته في العراق وسوريا، كما في أنحاء العالم، لكن هذا التراجع، بما في ذلك في الجغرافيا، لا يعني أنّ الفكر الذي خرج منه “داعش” و”القاعدة” وغيرهما من التنظيمات المتطرفة قد انهزم أو أنّ قدرة هذه التشكيلات على استيلاد نفسها قد إنعدمت. لذا، علينا التذكير بدور الولايات المتّحدة وحلفائها، وخصوصا بعض حلفائها في المنطقة، في خلق ودعم هذه التنظيمات؛ كما بيّن ذلك الصحافي الأمريكي روبرت دريفوس (Robert Dreyfuss) في كتابه “لعبة الشيطان” (Devil’s Game).
لقد رعت الولايات المتّحدة حركات سلفيّة وشبه سلفيّة ومدّتها بالسلاح والخبرات القتاليّة من أجل استخدامها في الصراع مع المنظومة الشيوعيّة العالميّة، وساعدتها في ذلك السعودية وحكومات عربيّة وإسلاميّة كثيرة أهمّها مصر والباكستان. وكانت أفغانستان أهمّ حلبة لهذا الصراع، ومنها ظهر تنظيم “القاعدة”. وعندما خرج هذا التشكيل “الجهادي” عن السيطرة، وأصبح ذريعة للحملة الأمريكيّة ـــ الأوروبيّة لإعادة رسم العالمين العربي والإسلامي، سياسيّاً واقتصاديّاً (وعرقيّاً أو طائفيّاً في بعض الحالات)، ظهر تنظيم “داعش” كخليفة لـ”القاعدة”، ومهمته محددة: جعل التناقض الرئيسي هو التناقض السنّي الشيعي، أي أن يكون موجها ضد إيران ومنظومة مصالحها في المنطقة، والقضاء على أية حراكات طبيعتها تغييرية في المنطقة.
ويسري هذا أيضا على “جبهة النُصرة” التي تلعب دوراً مماثلاً، وإن دخلت منذ فترة في لعبة تغيير الأسماء، إذ أن ولاءها المعلن هو للتنظيم الأم – “القاعدة”. ويمكن القول إنّ الولايات المتّحدة تصبح ضد تنظيمات مثل “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” فقط إذا رفضت تنفيذ الأجندة الأمريكية.
وللبحث عن أصل هذا التطرّف السنّي المنفلت من عقاله، لا بد من الرجوع إلى شخصيّة تاريخيّة مقيتة هي ابن تيميّة (ت. 1328) الذي كان أوّل من عمّم نهج تكفير المسلمين، ومنه استلهم عبد الله بن عبد الوهّاب مؤسّس الدعوة الوهّابيّة الكثير من أفكاره. ولكن فكر ابن تيميّة وحده لا يفسر ظهور الفكر الجهادي الحديث والعنف الفظيع الذي يروّجه كثير من السلفيّين وشبه السلفيّين ضد المسلمين. هناك عامل آخر أكثر أهمّيّة من فكر ابن تيميّة، تحديداً ردّة فعل كثير من مفكّري عصر الحداثة المسلمين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الذين جادلوا أن الإسلام هو الحلّ ليس فقط للمسلمين بل للعالم كلّه، وعليه فإن مشكلة العالم الإسلامي هي خيانة المسلمين للإسلام. لذلك يجب على المسلمين الحقيقيّين فرض الإسلام الصحيح على المسلمين بالاسم وقيادة ثورة عالميّة لفرض الإسلام ومفهوم حاكميّة الله وتحرير البشر من حاكميّة الإنسان ومن سطوة الحداثة الغربيّة ورؤيتها للعالم.
أعاد مودودي صياغة مفهوم الجهاد، عبر جدليّة ماركسيّة، كعنوان لصراع عالمي يستخدم “جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث انقلاب عام شامل” هدفه “أن يرفرف لواء القانون الإلهي العادل على العالمين وتعلو كلمته في الدنيا”
ومن أبرز مؤسّسي هذا الفكر، أبو الأعلى مودودي (1903-1979) المولود في الهند ثمّ انتقل إلى الباكستان في سنة 1947 وهو مؤسّس حركة “جماعتِ إسلامي” وتوفي لاحقاً في ولاية نيويورك. من خلال نقده للحداثة، أعاد مودودي صياغة مفهوم الجهاد، عبر جدليّة ماركسيّة، كعنوان لصراع عالمي يستخدم “جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث انقلاب عام شامل” هدفه “أن يرفرف لواء القانون الإلهي العادل على العالمين وتعلو كلمته في الدنيا” (مودودي، كتاب الجهاد).
كان لفكر مودودي تأثيره الكبير على سيّد قطب (1906-1966)، الذي استلهم منه نظريّة “مفرق الطريق”، وعلى أساسها، كفّر المجتمعات الإسلاميّة ووصف حالتها بــ “الجاهليّة”، فأسّس لمنطق التكفير والهجرة الذي تنتهجه كافّة الحركات الجهاديّة السلفيّة وشبه السلفيّة منذ حرب أفغانستان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن. ولعل نظريّة “مفرق الطريق” ومنطق “الجاهليّة” يتطلبان من “المسلمين الحقيقيّين” ترك مجتمعاتهم الكافرة والهجرة للتمركز في أماكن أخرى (أفغانستان في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم؛ العراق بعد الاجتياح الأمريكي في سنة 2003؛ سوريا مع بدء حربها في سنة 2011؛ الخ)، وإطلاق صراع عالمي هدفه “انتزاع سلطان الله المغتصب وردّه إلى الله” (قطب، معالم في الطريق).
ويهدف منطق “الجاهليّة” لإعادة استنساخ تجربة النبي محمّد – طبعاً آخرها فقط – الذي سلخ نفسه عن مجتمع الجاهليّة عندما هاجر وصحبه إلى المدينة وحاربه وانتصر عليه (هذه المقالة ليست الحيز المناسب للدخول في نقاش هل انتصر الإسلام على الجاهليّة أم لا).
من هو المسؤول عن حالة الإنهيار التي وجد فيها المسلمون أنفسهم في القرنين التاسع عشر والعشرين في مواجهة الحداثة الغربيّة والاحتلال الاوروبّي المباشر أو غير المباشر للعالم الإسلامي؟
حمّل أمثال مودودي وقطب المسؤوليّة للمسلمين أنفسهم، بعكس معظم مفكري عصر النهضة الذين حمّلوا الإسلام كلّ أو بعض المسؤوليّة في تدهور حال المسلمين. تكتمل هنا الصورة، ففكر مودودي وقطب ومثله الفكر السلفي أو شبه السلفي عامّة إذا أنتج شيئاً، إنما عنف دموي عدوّه الأوّل المسلمون، لذلك وجدت الولايات المتّحدة ضالتها في هذا الفكر، فاستخدمته منذ ستّينيات القرن المنصرم في إستراتيجيّتها تجاه العالم الإسلامي.
في سنة 2000، تنبّأ الباحث السياسي جيل كيبيل (Gilles Kepel) في كتابه عن الجهاد (Jihad: Expansion et déclin de l’islamisme) أنّ الحركات الجهاديّة الإسلاميّة وصلت إلى نهايتها وأنّه ليس لها مستقبل. ما حدث في العراق وسوريا (على سبيل المثال لا الحصر) برهن هشاشة تفكير جيل كيبيل إذ لم يدرك أنّه طالما لهذه الحركات حاجة في السياسة الدوليّة، فستنال الدعم (العلنيّ أو الخفي) لتأدية دورها. هذا لا يعني مطلقاً أن كلّ الجهاديّين عملاء، ولكن يمتلكون قابلية إستخدامهم من قبل قوى أكبر منهم لأهداف ليست بالضرورة أهدافهم.
ومع أهميّة فهم الفكر الديني الذي نهلت منه هذه التنظيمات، إلا أن الفكر وحده لا يفسّر رواجها ونجاحاتها المرحلية. مستقبل “داعش” و”القاعدة” وأخواتهما من التنظيمات الجهاديّة مرهون بثلاثة عوامل أساسيّة. العامل الأوّل هو حاجة الولايات المتّحدة وبعض الأنظمة العربيّة أو الإسلامية لها لتنفيذ أجندة محدّدة في العالمين العربي والإسلامي أو على الساحة الدوليّة (كما نرى الآن في اليمن وليبيا). العامل الثاني هو المأزق المريع للفكر الإسلامي السنّي المعاصر منذ عصر النهضة وعجزه عن إيجاد أرضيّة تكون منطلقا لفكر إسلامي تقدّمي (إذا ما وجدت بعض الحالات فهي بالإجمال اجتهادات فرديّة). أما العامل الثالث، وبرأيي هو الأهمّ، فيكمن في أن التطّرف الديني أو العرقي أصبح الآن المتنفس الوحيد لكثير من الشباب في وجه طاغوت الرأسماليّة الليبراليّة العالميّة. ليس هناك من خيارات أخرى، فالماركسيّة والشيوعيّة وحركات التحرّر لم تنجح في بلورة بديل عن الرأسماليّة، وثمة حاجة لمن يملأ فراغ تراجعها أو إنهيارها. فراغ يملأه حاليا التطّرف الديني أو العرقي كما نرى في أوروبا، الولايات المتّحدة، وحتّى في لبنان (مثال التصريحات العنصريّة لبعض ممثلي اليمين اللبناني الجديد) وكثير من دول العالم.
إن مستقبل “داعش”، كماضيه، مرهون بهذه العوامل الثلاثة. إذا بقيت بقي، وإذا بقي (أو استُنسخ في تطبيق أفظع)، فلا حول لنا ولا قوّة.
(*) أستاذ الدراسات الإسلاميّة في جامعة سميث كولدج، وعضو في معهد نانت للدراسات المتقدمّة