يرفع كتاب “التاريخ السري للعيون الخمس” الغطاء عن التعاون الأمني والاستخباراتي الذي كان يومًا سريًا منذ عقود لشبكة “العيون الخمس”، ويكشف الدور الخفي الحاسم الذي لعبه أعضاء الشبكة وأجهزة الأمن في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مسارات أحداث التاريخ الحديث.
والعيون الخمس (Five Eyes)، المعروفة اختصارًا “FVEY”، هي شبكة تجسس النخبة الدولية لأقوى تحالف استخباراتي في العالم الغربي، بل في العالم، علمًا أنها محفوفة بالسرية منذ تشكيلها عام 1956، ولم تخرج للعلن إلا عام 2010. نشأ التحالف الاستخباري بموجب المعاهدة البريطانية الأمريكية المتعددة الأطراف (1946)، المتخصصة بمجال التعاون المشترك في استخبارات الإشارات، لكن الشبكة نوّعت مصادرها لتتضمّن المخابرات الحربية والاستخبارات البشرية والجغرافية أيضًا، لتصبح واحدة من أكثر تحالفات التجسس المعروفة شمولاً في التاريخ. تضم النواة بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا، ولاحقًا بدأت تتعاون معها مجموعة من “الشركاء ذوي التفكير المماثل” مثل سنغافورة، كوريا الجنوبية، اليابان، فرنسا وإسرائيل في مواجهة ما يرونه “تهديدًا”.
يصف المُتعاقد السابق مع وكالة الامن القومي، إدوارد سنودن، الشبكة بأنَّها “منظَّمة استخبارات فوق وطنية لا تستجيب للقوانين المعروفَة لبلدانها”. وفي سبيل تحقيق أهدافها تستخدم أنظمة مراقبة خاصة عملت على تطويرها، كما بدأت تركّز على شبكة الويب العالمية منذ مطلع الألفية الثانية، ولها العديد من المؤسسات والمنظمات التابعة والداعمة في العالم. وبعدما كانت تراقب الاتصالات العسكريَّة والدبلوماسيَّة للاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، باتت تتجسس على اتصالات جميع أنحاءِ العالم، وعلى منطقة غرب آسيا، بل وحتى على مواطني دول التحالف نفسه.
ما يلفت الإنتباه أنّ الحكومة البريطانية التي أسقطت جنسية شميمة بيغوم في شباط/فبراير 2019، هي نفسها التي تسترت على عملية تسهيل دخولها إلى سوريا. وقد نشر الكاتب كرباج تغريدة على حسابه، يوم الرابع من أيلول/سبتمبر، تضمنت موافقة جهاز الأمن الكندي على دعم تحقيق في ما عبّر عنه بـ”الخطأ الاستخباري”
وللشبكة تاريخ طويل في تنظيم الانقلابات والإطاحة بالحكومات المعارضة، واغتيال المعارضين من رؤساء وقادة، وإثارة الاحتجاجات باتجاه الثورات الملونة، ودعم الانشقاقات والتدخل في الانتخابات. ومن الشخصيات الكثيرة التي تعرضت للتجسس، المرشد الأعلى في إيران السيد علي الخامنئي، وذلك أثناء زيارة قام بها إلى كردستان عام 2009، حيث تمَّت مراقبته في إطار عملية مشتركة بين مكاتب الاتّصالات الحكوميَّة البريطانيَّة ووكالة الأمن القومي الأمريكية، في عملية استخدمت فيها تقنية عالية في تحليل صور الأقمار الصناعية ومعالجتها.
,يشير مؤلف كتاب All Out War، تيم شيبمان، إلى الضوء الجديد الذي يسلّطه كتاب كرباج على “أهم تحالف استخباراتي في العالم”، في حين عبّرت “التلغراف” عن القيمة التاريخية للكتاب بالقول إنه “يفحص عقودًا من تبادل المعلومات الاستخبارية”. أما صحيفة “التايمز”، فتنحو باتجاه نظرة ناقدة فاحصة لما يمكن أن يؤدي الكتاب إلى التشكيك في مستقبل التحالف مع رفع الغطاء عن قصص التجسس وبتعليق موجز هو “إعادة فتح النقاش”. فقد أثارت تسريبات سنودن وغيره حول تجسس الشبكة على مواطني دول التحالف الاستخباري وحلفائها نقاشًا واسعًا في البرلمان الأوروبي، وكونغرس الولايات المتحدة.
ويعرض كرباج في كتابه قصصًا موثقة لكن غير مصرح بها سابقًا، بدءًا من حلقات التجسس النازية في الثلاثينيات إلى أحدث التطورات في أوكرانيا والصين. ويوثقها عبر مقابلات شخصية أجراها مع شخصيات قيادية في ترسيخ العمل الاستخباري لتحالف “العيون الخمس”، بينها رئيسا وزراء بريطانيا تيريزا ماي وديفيد كاميرون، وأكثر من 100 مسؤول استخباراتيّ، منهم المدير العام لوكالة المخابرات المركزية الامريكية، ديفيد بتريوس؛ المدير العام لوكالة الأمن والاستخبارات المحلية البريطانية، إليزا مانينغهام بولر؛ خبير تجسس من سكوتلاند يارد ساعد في إلهام التبادلات الأولى بين المخابرات البريطانية والأمريكية؛ مدرس اقتصاد منزلي أمريكي ساعد في إنشاء واحد من أكثر برامج مكافحة الاتحاد السوفييتي فعالية؛ الضابط الوحيد لوكالة المخابرات المركزية في بودابست أثناء الثورة المجرية، إضافة إلى كياران مارتن، المسؤول الذي أشرف على تقييمات بريطانيا حول ما إذا كان يجب أن يكون لشركة الاتصالات الصينية، هواوي، دور في إنشاء شبكة G5 في بريطانيا.
لقد كشف كرباج عن دورٍ للعمل الجاسوسي الكندي في الإتجار بالبشر وتهريب مراهقات بريطانيات من أصول مختلفة للالتحاق بتنظيم “داعش” الإرهابي عام 2015 في سوريا والعراق، بينما تستّرت السلطات البريطانية على الموضوع عندما علمت بالأمر. وأثار الكتاب ضجة في الإعلام البريطاني لما كشفه عن قضية “عرائس داعش” اللندنيات اللواتي هُرّبن عام 2015، بمساعدة جاسوس كندي ليتزوجن من مقاتلين أجانب في سوريا، علمًا أنهن لم يتجاوزن السادسة عشرة من أعمارهن. فتحدثت صحيفة “الأوبزرفر”، في الرابع من شهر أيلول/سبتمبر الجاري، عما أثارته الفضيحة من جدل لدى كبار مسؤولي منظمة المخابرات الكندية الذين قالوا بدعم إجراء تحقيق في تهريب هؤلاء “العرائس”، ومنهن التلميذة البريطانية شميمة بيغوم، الموجودة في سجن مخيم الهول، شمال شرقي سوريا.
ما يزيد حساسية الموضوع وسخونته أنّ الكتاب، المقرر ترجمته إلى جميع اللغات العالمية، سيفضح تنافس الأجندات الاستخباراتية والاختلال الهائل في توازن القوى لصالح الولايات المتحدة، مع ما يكتنزه عمل كل هؤلاء من خبايا، ويوفره من صدام بين المفاهيم النظرية والتطبيقية
وما يلفت الإنتباه أنّ الحكومة البريطانية التي أسقطت جنسية بيغوم في شباط/فبراير 2019، هي نفسها التي تسترت على عملية تسهيل دخولها إلى سوريا. وقد نشر الكاتب كرباج تغريدة على حسابه، يوم الرابع من أيلول/سبتمبر، تضمنت موافقة جهاز الأمن الكندي على دعم تحقيق في ما عبّر عنه بـ”الخطأ الاستخباري”. وكانت محامية بيغوم وعائلتها، تسنيمي أكونجي، صرّحت بالقول إنه من “الصدمة” معرفة أن شخصًا يعمل لصالح المخابرات الكندية لعب دورًا رئيسيًا في عملية التهريب. وقالت إن كندا “من المفترض أن تكون حليفة، تحمي شعبنا، بدلًا من تهريب الأطفال البريطانيين إلى منطقة حرب”.
ويقدم الكتاب مادة دسمة لعالم الصحافة والعلاقات الدولية، في السجل التراكمي “الأسود” للاستخبارات الأمريكية ـ البريطانية، صاحبة مشروع “العيون الخمس”. فالكتاب يضع تحت المجهر الكثير من “الحيل القذرة” في السيطرة السياسية السرية؛ والتي تنتهك إرشادات تشغيل الخدمة الاستخبارية، وتبرز الإخفاقات في سياسات السلامة العامة والافتقار إلى القواعد والانضباط والمعايير المهنية. أولى فضائح الكتاب في أوائل أيام صدوره وثّقت دور المخابرات البريطانية والكندية بتهريب الأجانب إلى سوريا للالتحاق بتنظيم “داعش” الإرهابي، وستكشف الأيام اللاحقة المزيد من الخبايا المتماثلة مع هذا النسق والمتّسقة مع هذا المسار.
وعليه، فإن قنوات الرقابة المعتادة التي استطاع الصحفي تخطّيها يومًا، ستكون أمام مساءلات عديدة، ولعلها تفتح على تلك القنوات بابًا تتمنّى معه لو لم تتجاوب مع كرباج. ومما يزيد حساسية الموضوع وسخونته أنّ الكتاب، المقرر ترجمته إلى جميع اللغات العالمية، سيفضح تنافس الأجندات الاستخباراتية والاختلال الهائل في توازن القوى لصالح الولايات المتحدة، مع ما يكتنزه عمل كل هؤلاء من خبايا، ويوفره من صدام بين المفاهيم النظرية والتطبيقية؛ بما تنعدم معه الثقة بكل تلك المؤسسات والمنظمات التي تعمل لحسابها، فضلًا عمّا يمثله الكتاب من حجة لشعوب المنطقة المستهدَفة للتحلّي بمزيد من الوعي، وبمزيد من المسؤولية في مواجهة المخططات الخارجية التي لا تنظر إلا مصالحها الخاصة.