تكاد قصة “أبي الحسن” البغدادي الخيالية تنطبق على رجب طيب أردوغان، الذي تحوّل حرفياً إلى “سلطانٍ ليومٍ واحدٍ” قبل سنوات، يوم اتخذ من الأزمة في سوريا بوابة لمعاقبة “الأشرار” وأن يعيش “كذبة” استعادة أمجادٍ عثمانية بائدة، تحوّلت وهمٍ منذ قرنٍ من الزمن.
اليوم، يخوض أردوغان أحدث مغامراته، التي تلامس نوبة هستيريا “أنا الخليفة!”، التي اتخذت منحى أكثر خطورة في أعراضها منذ السابع والعشرين من شباط/فبراير، حين قرر الذهاب بالمغامرة إلى أبعد حدود: إعلان (شبه) حرب على سوريا، الشروع في الخطوات العملية لابتزاز الأوروبيين بورقة اللاجئين، تسوّل الدعم من “الحلف الأطلسي”، اعتقال صحافيي وكالة الانباء الروسية في تركيا، وأخيراً مطالبة فلاديمير بوتين بالانسحاب من سوريا… والتلويح بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل!
في الواقع فإنّ أعراض “الهستيريا السلطانية” استثيرت في يوم مظلم للغاية على طموحات أردوغان التوسعية: في ليبيا، تعرضت بعثته العسكرية لهجوم من قبل قوات المشير خليفة حفتر ما أسفر عن مصراع 10 جنود، وبعد ساعات قليلة، كانت الطائرات السورية تشن غارة جوية على مواقع للجيش التركي في إدلب أدت إلى مقتل 33 عسكرياً، بحسب المعطيات الرسمية، التي يشكك البعض في أن حصيلتها نهائية.
ولكن الهجوم السوري لم يأتِ من فراغ. طوال الأيام التي سبقته، ثبت أن الجيش التركي انتقل من توفير الدعم المعنوي للجماعات المسلحة في ليبيا وسوريا، إلى توفير الدعم العملاني، من خلال تغطية هجماتها بالمدفعية التي استهدفت الجيش السوري، في تحوّل أريد من خلاله تحقيق انجاز تكتيكي يسمح باستعادة السيطرة على مناطق نجح الجيش السوري في تحريرها، بما في ذلك مدينة سراقب ذات البعد الاستراتيجي، والتي تشكل نقطة التقاء بين طريقي “إم-4″ و”إم-5” اللتين تحولتا إلى عقدة الصراع في الشمال السوري.
هكذا كان الهجوم محاولة من جانب السوريين، وخلفهم الروس، لتلقين أردوغان درساً قاسياً، فقد اتضح أن الجنود الأتراك كانوا في نفس المكان مع إرهابيي “جبهة النصرة”، وفق الرواية الروسية، وطالما أن الجانب التركي لم يؤكد أنّ جنوده في تلك اللحظة كانوا يقاتلون الإرهابيين، فإنّ ذلك يعزز فرضية أنهم كانوا يتعاونون معهم.
أبعد من ذلك، فإنّ التعنّت التركي في تنفيذ اتفاق سوتشي، الذي يعد أحد امتدادات تفاهمات مسار استانا، قد دفع بالوضع إلى ذروة التوتر، على النحو الذي نشهده اليوم، ومع ذلك، فإنّ أية خطوة في اثارة “هستيريا” أردوغان لم تكن لتحصل لولا إدراك كامل بأنّ الرئيس التركي بات بالفعل “سلطاناً ليومٍ واحدٍ”.
ثبت ذلك بالأدلة القاطعة خلال الأيام الماضية، فحتى عضوية تركيا في “حلف شمال الأطلسي” لم تكن كافية لمنح “السلطان” قدرة الردع أمام قوة عظمى مثل روسيا، فقد فشلت في تفعيل بند الميثاق “الأطلسي” الخاص بالدفاع الجماعي، فلم تحصل إلا على دعم معنوي لا يقدّم ولا يؤخر.
لم يكن الموقف “الأطلسي” مفاجئاً، فثمة عناصر عدة تجاهلها أردوغان حين قرر التوجه إلى حلفائه.
أول تلك العناصر أن الضربة التي تكبّدتها القوات التركية في سوريا أبعد ما تكون عن واقعة يمكن التعامل معها بمنطق “الدفاع الجماعي”، بالنظر إلى أنها تمت ضد قوات متواجدة بشكل غير قانوني على أراضي دولة أخرى.
أبعد من هذا التفسير الحرفي لبند “الدفاع الجماعي”، ثمة عوامل سياسية كانت كافية لتوقع فتور “الأطلسيين”، فالدول الأوروبية أظهرت بوضوح منذ فترة طويلة عدم رغبتها في القتال في سوريا، علاوة على أن أردوغان نفسه فعل كل ما هو ممكن لجعل الأوروبيين ينفرون منه، وآخرها استخدامه ورقة اللاجئين عبر فتح الحدود أمامهم نحو اليونان، لا بل تزويدهم بخرائط تظهر طرق النزوح نحو “الجنّة الأوروبية”.
على نحو مشابه، وإن بحيثيات مختلفة، لا يبدو دونالد ترامب متحمساً لتقديم المساعدة، فخطوة من هذا القبيل من شأنها أن تجر الولايات المتحدة إلى حرب كبرى في الشرق الأوسط، بالنظر إلى مخاطر الصدام مع روسيا من جهة، واحتمالات أن يجر ذلك هجمات على القواعد الأميركية من جانب إيران، التي لم تجف فيها دماء قاسم سليماني بعد، من جهة أخرى.
ومن المؤكد أن ترامب أبعد ما يكون عن الذهاب إلى مغامرة توفر لخصومه الديموقراطيين فرصة قوية، على مسافة أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، ليتهموه بجرّ الولايات المتحدة إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط، يعود منها جنوده بتوابيت ملفوفة بالعلم الأميركي.
لكن ما سبق لا يكفي لأن يتراجع أردوغان عن مغامرته الجديدة، فهو لا يتمتع برفاهية الانكفاء أمام مأزق يحاصره بشقّ داخلي وآخر خارجي.
في الداخل، أتت الضربة التي تعرض لها في إدلب لتصب الزيت على النار، فعلاوة على مخاطرته بتململ قاعدته الإسلامية، ثمة اتهامات توجه إليه بأنه أرسل جنوده عمداً ليُقتلوا من أجل تعزيز قوته.
في الداخل التركي ثمة اتهامات توجه إلى اردوغان بأنه أرسل جنوده عمداً ليُقتلوا من أجل تعزيز قوته
ولا يخفى أن الأزمة السورية تحوّلت منذ فترة إلى عنصر أساسي في السياسة الداخلية التركية، فعندما قرر اردوغان غزو سوريا، تحدث عن الخطر الكردي، لكنه الآن يجد صعوبة في اقناع الأتراك بحيثيات قتاله في سوريا، أو أن يجد المبررات التي جعلته يبالغ في تقدير قوته الخارجية، إن في قدرته على تحدي روسيا، أو في قدرته على جذب الدعم التقليدي من حلفائه “الأطلسيين”.
بهذا المعنى، لم يعد أمام أردوغان من خيار إلا القتال، ولكن السؤال يكمن في تحديد مدى هذا القتال وآفاقه، وهو أمر يبقى رهناً بالموقف الروسي.
من هنا، يمكن افتراض أن عملية “درع الربيع” التركية لا تندرج في إطار اعلان الحرب على سوريا، بل يمكن الاصطلاح على وضعها في خانة “إعلان شبه حرب”، قد يسعى اردوغان من خلالها إلى حالة “لا حرب ولا سلم”، بما يمنحه هامشاً لدفع روسيا نحو التراجع، أو بالحد الأدنى انتزاع مكاسب تفاوضية.
كل ذلك، يجعل الطريق الوحيد التي يمكن أن يسلكها اردوغان تمر عبر موسكو حصراً، ما يجعله يميل في أهدافه إلى حد أقصى، هو تراجع روسيا، وحد أدنى هو التوصل إلى تفاهمات جديدة، تضمن لتركيا – أو بالأصح له على وجه الخصوص – تحقيق أكبر قدر من المكاسب.
تبدو المعادلة هنا بسيطة بقدر ما هي معقدة: إذا تراجعت روسيا، فلن يجد أردوغان أية مشكلة في الحاق الهزيمة بالجيش السوري ، ويعزز بذلك مكانة تركيا كقوة إقليمية؛ أما في حال رفضت روسيا التراجع، فاحتمالات الحرب الكبرى تبقى ضئيلة، ذلك أن أردوغان لن يستطيع تحمل تبعاتها، فالهزيمة العسكرية المرجحة هنا ستعني نهايته السياسية.
من هنا، يمكن فهم التحركات الأخيرة لأردوغان باعتبارها محاولة للضغط باتجاه دفع روسيا نحو التراجع، خصوصاً أن الأخيرة ما زلت حريصة على عدم تعريض علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا للخطر، لا بل ثمة في روسيا من يعتقد أن بقاء أردوغان هو الضمانة لعدم المس بخطوات التقارب التي سلكها البلدان خلال السنوات الماضية.
الأزمة الحالية محصورة ضمن معركة الرهانات على تراجع الطرف الآخر، دونما تجاوز للخط الرفيع الفاصل بين السلام والحرب
ومع ذلك، فإنّ التراجع ليس خياراً مطروحاً عند القيادة الروسية، فهو سيفسر بكل بساطة على أنه دليل ضعف “قوة دولية” أمام ابتزازات “قوة اقليمية” في واحدة من أكثر النقاط حساسية في الأمن القومي الروسي – سوريا.
ما سبق يشكل معضلة كبرى بالنسبة إلى روسيا، ومع ذلك فإنها لا ترتقي إلى مستوى المأزق، على النحو الذي تستشعره تركيا، فأبواب الحل ليست مغلقة، طالما أن الطرفين لا يزالان محافظين على مبدأ الإحجام عن اتخاذ ما يسمى “الخطوة المميتة”.
كل ذلك يجعل الأزمة الحالية محصورة ضمن معركة الرهانات على تراجع الطرف الآخر، دونما تجاوز للخط الرفيع الفاصل بين السلام والحرب.
على هذا الأساس، يمكن افتراض أن مقاربة فلاديمير بوتين للأزمة الحالية مع رجب طيب أردوغان تقوم على جملة من العناصر المركبة التي يحمل كل منها عوامل تفجير بقدر ما يحمل عوامل تسوية، ويمكن إيجازها على النحو التالي:
أولاً ، بات واضحاً أن مصالح روسيا وتركيا في سوريا تتقاطع في نقطة معينة، قبل أن تتناقض في نقطة معينة أخرى، وهذا الامر يعود بالدرجة الأولى إلى أن قرار رحيل الأميركيين النهائي من سوريا بات قاب قوسين أو أدنى، وهو ما يستتبع تنافساً استراتيجياً حاداً على سوريا بين ثلاثة أطراف – روسيا، تركيا، وإيران – تدرك تماماً أنّ أحداً منها لا يستطيع أن يُخرج الآخر، ما يجعل هذا التنافس قائماً على مجرّد محاولات لكسب مزيد من النقاط.
ثانياً، الموقف الاستراتيجي لتركيا بالغ الصعوبة، وهو ما يفسر السبب في سعي أردوغان يلعب أوراقه الأخيرة، التي يمكن افتراض أنها ستكون الأكثر خطورة، فهو يعيش عزلة دولية، ومعاركه الإقليمية باتت تتوزع على أكثر من جبهة (سوريا- ليبيا) لا يجد فيها أيّ حليف قوي.
ثالثاً، تدرك روسيا وتركيا أن التعاون المثمر أمر حيوي لكليهما، وأن تكلفة الصراع العسكري ستكون باهظة، ما يدفعهما إلى تجنّب الذهاب في التصعيد إلى النهاية.
هذا ما يجعل الوجهة العامة في موسكو وأنقرة، على حد سواء، تميل نحو خيار التسوية السياسية، من بوابة الدبلوماسية الروسية التي تتمتع باحترافية عالية في إدارة هذا الشكل من النزاعات، والتعامل مع شخصية مثل اردوغان، وهي تقوم على إدراك خصوصية وضع أردوغان، التي تجعله في حاجة إلى مخرجٍ آمنٍ من المأزق الخارجي الذي ذهب إليه برجليه من جهة، وتحفظ له امكانية لعب دور “السلطان” في الداخل التركي من جهة ثانية.
بذلك، فالحل الأمثل في روسيا ربما يكون التوصل إلى اتفاقيات جديدة، خلال القمة المرتقبة بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، من شأنها أن تضمن المصالح الاستراتيجية الروسية في سوريا خصوصاً، والشرق الأوسط بشكل عام، وتسمح في الوقت ذاته لأردوغان بالعودة من موسكو إلى اسطنبول على ظهر حصان أبيض، ليعيش مجدداً دور “السلطان”… ولو ليومٍ واحدٍ آخر.