لو لم يسحب حسان دياب، رئيس الحكومة الثالثة في عهد ميشال عون، البند رقم 6 من جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء، أمس (الخميس)، والمتعلق بالتعيينات في مواقع مالية شاغرة، لأمكن القول إن هذه الحكومة كان يمكن أن تصبح حكومة تصريف اعمال، ناهيك عن تداعيات سياسية أكبر وأخطر، كان يمكن أن يرتّبها قرار سعد الحريري، رئيس كتلة المستقبل النيابية، بإستقالته ونوابه من مجلس النواب. خطوة، من شأنها جعل المجلس النيابي الحالي، منقوص الميثاقية الطائفية.
وللتوضيح فحسب، لم يسحب حسان دياب هذا البند من جدول الأعمال، من أجل تعيينات معيارها الكفاءات وحسب أو مسايرة لشارع رافض أو ثلث وزاري بين معترض ومتحفظ، ولا من أجل رؤساء حكومات سابقين “أفحموه” ببيانهم السياسي الأخير، ولا حرصاً على صورة عهد يكاد نصفه الثاني، يجعل كثيرين يترحمون على نصفه الأول الذي لم يبدأ بعد.
نعم، لم يَسْحَب دياب هذا البند من جدول الأعمال لتشريع الباب أمام الكفاءات من كل الطوائف، إستجابة لما سمعه أو بَلَغَهُ عبر مواقع التواصل الإجتماعي أو وسائل الإعلام. فقط سحبه تلبية لنصيحة الرافعة الأساسية لحكومته، والمقصود هنا حزب الله الذي يصر على حمل هذه الحكومة على أكتافه، وبالتالي، تحمل ما تنجزه وما لا تنجزه، علماً أن حساباته، في هذه النقطة تحديداً، تبدو مختلفة عن حسابات الآخرين، إذ أنه يدرك أن لا بديل للحكومة الحالية إلا الفراغ الذي يمكن أن يستمر حتى نهاية العهد، فكيف في ظل أزمة صحية خطيرة وواقع مالي ونقدي وإقتصادي وإجتماعي مأزوم وقابل للتأزم أكثر يوماً بعد يوم، من دون إغفال المخاطر الخارجية؟
عندما طرحت الأسماء والسير الذاتية للمرشحين للتعيينات، لم يعترض حسان دياب على معظم الأسماء، وخصوصا التي طرحها “الثنائي الشيعي” (حزب الله وحركة أمل) ولا على الأسماء الدرزية. أما الأسماء السنية المقترحة، فلا تحمل أية بصمة سوى بصمة حسان دياب. إذاً، وكالعادة، الخلاف حول الأسماء المسيحية، وتحديداً بين رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
أما قصة دخول سعد الحريري على معركة التعيينات، فإنه دخول ملتبس وحمّال أوجه. لا هو قدم مقاربة أقنعت الحلقة الضيقة من حوله، وهي بعيدة عنه في هذه الأيام ولا تتواصل معه إلا عبر الواتساب أو الفيديو كول. ولا هو تواصل مع النواب أعضاء كتلته حتى يشرح لهم حقيقة موقفه. كل ما في الأمر، أن رؤساء الحكومات السابقين، قرروا أن يكون لهم موقفهم “في المناسبة”، وهو موقف لم يحظ بأصداء إيجابية، لا في شوارعهم ولا في الشوارع الأخرى.
الأخطر من ذلك، أن رؤساء الحكومات، وفي سياق مكمل لكل السياق الذي إنتهجه الحريري في السنوات الثلاث الأخيرة، “قرروا أن يكونوا شركاء معه في تدمير ما بقي من إتفاق الطائف، سواء عن إدراك مسبق أو عن تقدير خاطىء بالسياسة”. كيف؟
طالما أن مقام رئاسة الحكومة هو مقام لا يخص شخصاً بل طائفة وازنة في البلد، فإنه من حق هذه الحكومة وأية حكومة أخرى، وبمعزل عن إسم أو هوية رئيسها، أن تتحمل مسؤولياتها، وفق ما ينص عليه الدستور.
وجد حسان دياب نفسه أمام مراكز شاغرة، وهذا الشغور يؤدي إلى تعطيل مؤسسات، كما هي حال المجلس المركزي في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، سيما في لحظة يفترض فيها أن يكون دور هذه المؤسسات إستثنائيا ومفصليا وربما تأسيسياً. عندما تكون الحكومة دستورية ومكتملة الصلاحيات والمواصفات، هل هناك نص دستوري يمنعها من التعيين في المراكز الشاغرة؟
حتماً لو أنها أرادت الإنتقام بإنهاء مهام موظفين في الإدارة، فهذا قرار بالسياسة، ويكون الرد عليه بالسياسة مبرراً، ويصبح إعتراض رؤساء الحكومات، بالجملة والمفرق، في مكانه وزمانه، لكن في حالة الحكومة، اليوم، بدا أن الإعتراض يصيب أول ما يصيب إتفاق الطائف، خاصة وأن الحريري كان قد بادر إلى فتح “بازار” سياسي مع “الثنائي الشيعي”، متمنياً إشراكه في التسمية، طالما أن ولاية كل من نائب حاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري ورئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود قد إنتهت، وعليه، لم يبخل بعض “المتطوعين” أو “المتبرعين” بعرض بعض الأسماء عليه في إنتظار موافقته أو أقله تفادي أي “فيتو” من قبله على الأسماء المرشحة.
هذا يقود للقول إن الحكومة كانت ستعيّن الأسماء السنية التي إقترحها حسان دياب بلا شراكة مع أحد. أي أنها لم تكن أبدا في وارد تكريس المعادلة التي حاول إرساءها رؤساء الحكومات السابقين، والتي جرى حراك طرابلس، ليل الأربعاء ـ الخميس الماضي، في “مناخها” وليس بالضرورة بقرار منظم من جهة أو شخصية محددة في طرابلس، وفق تقديرات سياسية وأمنية معنية.
كان المطلوب من الحريري أن يبحث عن سيناريو مختلف عن سيناريو الإستقالة. بدت هكذا خطوة أشبه ما تكون بمحاولة إنقلابية يريد من خلالها زعيم تيار المستقبل تخويف الجميع. كيف يمكن لقائد الإنقلاب أن يقوم به وهو مقيم بالحجر الصحي في باريس؟
كيف بدا المشهد في الساعات الأخيرة ما قبل إنعقاد جلسة مجلس الوزراء؟
حسم سليمان فرنجية، ليل أمس، موقفه بإصراره على أن لا تقتصر حصته في تعيينات مجلس الوزراء (نواب حاكم مصرف لبنان المركزي، لجنة الرقابة على المصارف، هيئة الأسواق المالية، مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان) على إسم واحد (عادل دريك للجنة الرقابة على المصارف). طالب بتسمية إسمين، وإلا فإنه سيستقيل من الحكومة، وأبلغ ممثليه في مجلس الوزراء (وزير الاشغال ميشال نجار ووزيرة العمل لميا يمين) بالتغيب عن جلسة اليوم.
عند هذا الحد، تدخل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، فطلب من مسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق في الحزب الحاج وفيق صفا أن يتمنى على فرنجية تمرير الموقف بأقل خسائر ممكنة، وأن يشرح له الإعتبارات السياسية التي تحيط بوضع الحكومة والبلد. لم يتزحزح فرنجية عن موقفه قيد أنملة. عندها طلب السيد نصرالله من معاونه السياسي الحاج حسين الخليل أن يتواصل شخصياً مع جبران باسيل من أجل تدوير الزوايا وإرضاء فرنجية. كانت المصيبة أكبر في بعبدا. رفض باسيل التفاوض بموضوع التسمية، وقال إن فرنجية حقه أن يسمي شخصا واحداً و”نقطة عالسطر”.
ظل الأخذ والرد مستمرا على أكثر من خط في الساعات الثماني والأربعين الماضية. وقبل أن تقفل الأبواب، كان لا بد من تكرار المحاولة مع فرنجية. الأخير كان حاسماً: “كلما أقفل جبران الأبواب بوجهكم، تريدون أن تضغطوا عليّ. لماذا لا يحصل العكس؟ أنا أقدر موقفكم وحرصكم وخطورة وضع البلد، لكن مشكلتي هي مع جبران.. مش معكم”.
في الوقت نفسه، كان المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل يتحرك على الخط بين عين التينة وحزب الله والسراي الكبير وبنشعي، ويتواصل هاتفياً مع عدد من المعنيين سياسياً بملف التعيينات ولا سيما سعد الحريري. أولاً، كان التوافق بين بري وحزب الله كاملاً حول الأسماء الشيعية المقترحة، وعندما تبلغ بها رئيس الحكومة، قال إن لا ملاحظات لديه علي أي منها، بما فيها الإسم الشيعي الذي سمّاه الحزب القومي لهيئة الاسواق المالية، أي واجب قانصو نجل رئيس الحزب السابق الراحل علي قانصو. ثانياً، الطاشناق سمى ممثله لمنصب نائب حاكم مصرف لبنان. ثالثاً، لا مشكلة مع وليد جنبلاط برغم تحفظه على الخيارات الإرسلانية.
تواصل علي حسن خليل مراراً، على مدى أسبوع، مع سعد الحريري. كانت وجهة نظر بري أن هذه الحكومة ما زالت تشكل حاجة للجميع بمن فيهم معارضوها. ثم أن فترة السماح (100 يوم) لم تنته بعد. فلماذا إطلاق النار عليها؟ أنا لا يمر أسبوع إلا وتكون عندي ملاحظات على الأداء الحكومي وآخر نموذج ملف الإغتراب. هذا شيء وتطيير الحكومة شيء آخر.
كان المطلوب من الحريري أن يبحث عن سيناريو مختلف عن سيناريو الإستقالة. بدت هكذا خطوة أشبه ما تكون بمحاولة إنقلابية يريد من خلالها زعيم تيار المستقبل تخويف الجميع. كيف يمكن لقائد الإنقلاب أن يقوم به وهو مقيم بالحجر الصحي في باريس؟ ألا يستطيع أن يدير الإنقلاب وهو قيد الحجر في بيت الوسط؟ ألا يقتضي ذلك أن يصارح كتلته وتياره وجمهوره بمشروعه الإنقلابي؟ وماذا بعد الإستقالة؟ هل هو جاهز للعودة سياسياً إلى رئاسة الحكومة إذا طُلبَ منه ذلك؟ ثم من قال إن الحريري يستطيع اليوم إسقاط حكومة حسان دياب. في ظروف أصعب وتوازنات أكثر تعقيدا، وتحديدا في زمن حكومة نجيب ميقاتي، تعذر على الحريري أن يحقق هكذا نتيجة، فيكف يمكن أن يصل إليها اليوم؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير، لا يملك الحريري أجوبة واضحة عليها، كما أن من بقي من الحلفاء لا يملكون تقييماً مشتركاً لا للحكومة ولا للحظة السياسية. رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع تبلغ بموقف الحريري، ولكنه لم يعط أية إشارة حول نيته بملاقاته إلى منتصف الطريق. أي أن يضحي بكتلته النيابية لأجل محمد بعاصيري أو سمير حمود، بينما لم يسانده الحريري في زمن حكومة الأخير لا في التعيينات ولا في غيرها من ملفات كانت تقتضي وضع حدود لـ”فجع جبران باسيل السياسي”. وليد جنبلاط أيضاً وبرغم تحفظه على ملف التعيينات والخيارات الإرسلانية (نسبة إلى غريمه طلال ارسلان)، لا يريد أن يكبّر القضية، فالكورونا كافية ووافية وثمة أولويات على الجميع أن يتعامل معها بلغة وإدارة مختلفين.
في المقابل، بدا واضحا لعين التينة أن مواقف باسيل لن تتزحزح وهو الأمر الذي لمسه “الثنائي” خلال الإجتماع الثلاثي الذي ضم حسين الخليل وعلي حسن خليل وجبران باسيل. فرنجية لن يتراجع أيضاً. لا بد من المفاضلة بين تعيينات قد تطيح بالحكومة وبين تأجيلها إلى حين توافر الظروف المناسبة لإقرارها.
تبنى “الثنائي” خيار التأجيل. أبلغا فرنجية ورئيس الحكومة، فكانا متفهمين. وحده باسيل، كان يريد عدم تفويت الفرصة، ولم يكن مستعدا للتفاوض، خصوصاً وأنه قبل على مضض سابقاً بالتمديد لرياض سلامة. زدْ على ذلك أن الأميركيين لم يقدموا أية إشارة رافضة لإختيار بديل لمحمد بعاصيري (نائب حاكم مصرف لبنان المنتهية ولايته)، وهذه النقطة أدركها أكثر من طرف متابع للملف. يسري ذلك أيضاً على سمير حمود (رئيس لجنة الرقابة على المصارف المنتهية ولايته أيضاً)، ومن هنا يمكن تفسير موقف الحريري الذي كان مستعداً للتفاوض، شرط أن يكون شريكاً في تسمية بديل لكل من الإثنين!
ماذا بعد التأجيل؟
الحكومة مستمرة ولا أحد عنده مصلحة بالفراغ في هذه المرحلة. يسري ذلك على معظم أخصام الحكومة في الداخل وعلى معظم الخارج. من يقرأ بيان “كتلة الوفاء للمقاومة”، أمس، (الخميس) يدرك حجم دعم حزب الله السياسي الكبير لها، فهي “تتخذ أفضل الإجراءات الممكنة والأقل كلفة في التصدي للملفات الداهمة أو الموروثة”، وثمة تقدير لجهودها “في مقاربة الملفات الاستشفائية والحياتية للبنانيين”، أما ملء الشواغر في الإدارة، فهو “حق دستوري للحكومة وواجب عليها”.
من الرابح ومن الخاسر في ما جرى اليوم؟
يمكن القول إن الكل خرج رابحاً إلا العهد، وتحديداً جبران باسيل. هو يعتبر أن الوقت يضيق ولم يبق من الولاية الرئاسية إلا ثلثها الأخير. لا مشروع الكهرباء يعوّل عليه.. ولا التنقيب الإستكشافي في ضوء إنهيار أسعار النفط بات مفيداً. هل يفيد سد بسري؟
هذا ما تمخضت عنه جلسة الحكومة امس (الخميس) بتمسكها بالمشروع وبكل حيثياته الجيولوجية والبيئية، متجاهلة كل الإعتراض الشعبي والسياسي ولا سيما الجنبلاطي. هل يريد باسيل أن يجبر وليد جنبلاط على أن يحذو حذو سعد الحريري بالإستقالة أيضا من مجلس النواب؟
ليس بالمضي بسد بسري تُعبد الطريق إلى بعبدا ولا بمحاولة القول في الشوف “الأمر لي وليس لوليد جنبلاط”. المطلوب من باسيل التواضع حماية للعهد، أولاً، وتحصيناً لحقه المشروع في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، ثانياً، ولو أن ذلك بات من سابع المستحيلات.