إيران التي خسرت رئيسها المحافظ ابراهيم رئيسي ووزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان المعروف بفطنته ودهائه الكبيرين، وعلى الرغم من حجم فاجعتها، ترمق من بعيد مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبخاصة أن طهران لم تقطع طوال السنوات الأربع الماضية الخيط الديبلوماسي الرفيع بينها وبين واشنطن، سعياً إلى الفوز بتفاهم ما أو تنظيم خلاف على ملف آخر أو إبرام ما يشبه ربط النزاع على شاكلة غض النظر الأميركي عن بيع النفط الإيراني في الأسواق عبر أدوات تتجاوز العقوبات الغربية المفروضة على طهران منذ عقود.
واللافت للانتباه أن طهران حرصت على عدم احراج إدارة جو بايدن في معظم ملفات المنطقة، بدليل ضبط منسوب التوترات الإقليمية غداة عملية “طوفان الأقصى” ومحاولة طهران لجم اندفاعة حلفائها مخافة الذهاب نحو حرب شاملة، وهذا الدور تبدى من خلال جولات مكوكية للوزير عبد اللهيان من ضمن سياسة “الصبر الإستراتيجي” الإيرانية والتي أدت فعلياً إلى تبريد العلاقات مع كل دول المنطقة العربية. وهذه السياسة، لطالما ميّزت السلوك الإيراني في العقود الماضية، ولم تكسرها طهران إلا عندما قرّرت الرد مباشرة على استهداف قنصليتها في دمشق بغارة إسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى مقتل وجرح عدد من المستشارين الإيرانيين.
وإذا كان البعض قد اعتقد أن الإشتباك الإيراني ـ الإسرائيلي الأول من نوعه بين الطرفين منذ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979، سيؤدي إلى تعديل المسارات، فإن الوقائع تشي بأن جميع الأطراف حريصة على عدم كسر قواعد الإشتباك، وهذا ما جرت ترجمته من خلال وقائع ثابتة، أبرزها عودة التفاوض الإيراني – الأميركي غير المباشر في مسقط، والتي تستكمل أيضاً بلقاءات في أروقة الأمم المتحدة، من هنا ليس من باب المصادفة أن يكون وزير الخارجية الإيراني بالوكالة علي باقري كني هو رئيس الوفد الإيراني المفاوض مع الوفد الأميركي برئاسة بريت ماكغورك، من دون اغفال الأبعاد التي تقف وراء قرار المرشد الإيراني علي خامنئي باختيار الجنرال علي شمخاني (من أصل عربي) مسؤولاً عن الملف النووي، أي في المنصب الذي كان يشغله باقري كني، في أول إشارة إلى احتمال تثبيت الأخير في منصب وزير الخارجية مع أول حكومة يتم تشكيلها غداة الإنتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة.
وما سرّبته “وول ستريت جورنال” من أن الولايات المتحدة تضغط على حلفائها الاوربيين لعدم توبيخ ايران على نشاطاتها النووية في الاجتماع المقبل للوكالة الدولية للطاقة الذرية، يؤشر إلى مستوى التفاهمات الحاصلة في اجتماعات مسقط.
غرف التفاوض الأميركية – الإيرانية والسعودية – الأميركية، والقمة المنتظرة بين جو بايدن وإيمانويل ماكرون في السادس من حزيران/يونيو المقبل في النورماندي الفرنسية ولقاءات المسؤولين القطريين في الدوحة مع عدد من القادة اللبنانيين، لا تؤدي إلى حلول، إنما تحاول خلق أرضية لملاقاة أية تسوية كبرى محتملة
وفي موازاة ذلك، يستكمل المسار الإيراني – السعودي طريقه في الاتجاه الإيجابي، فالاتصالات الديبلوماسية بين الجانبين والتي تُوّجت بقبول ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان دعوة رسمية من الرئيس الإيراني المؤقت محمد مخبر لزيارة طهران، ومشاركة وفد رسمي سعودي في عزاء رئيسي وعبداللهيان، بالتوازي مع لقاءات بين مسؤولي الملف اليمني في الرياض مع قيادات حوثية.. كلها تصب في خانة عدم العودة إلى الوراء على خط العلاقات السعودية الإيرانية.
والأكيد أن صورة السفير السعودي في لبنان وليد البخاري إلى جانب مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الله عمار الموسوي في مقر السفارة الإيرانية في بيروت وتوزيع الابتسامات والنقاشات الجانبية ليست وليدة الصدفة، وعلى الرغم من عدم ظهور أي مؤشر للقاءات معلنة وسرية بين الحزب والمسؤولين السعوديين، ثمة من يتحدث عن تحضيرات لهكذا لقاء برعاية عراقية يقودها رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، علماً أن قيادات عراقية أخرى بينها السيد عمار الحكيم ورئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي حاولت لعب دور في الإتجاه نفسه، لكن تبين أن ظروف هكذا حوار لم تكن قد نضجت في مراحل سابقة لدى الجانبين.
ولم تأتِ زيارة البخاري إلى السفارة الإيرانية محض صدفة، فقد كان متوافقاً على موعد الزيارة قبل رحيل ابراهيم رئيسي وعبد اللهيان، وذلك رداً على زيارة سابقة للسفير الإيراني مجتبى أماني للسفير السعودي في مقر اقامته في اليرزة في الثاني والعشرين من كانون الثاني/يناير الماضي، إلا أن حادثة المروحية غلّبت الطابع الاجتماعي، علماً أن السفير السعودي كان على علم بأن عمار الموسوي مكلف من قيادة حزب الله بمواكبة مراسم العزاء على مدى يومين كاملين.
ووسط الكارثة الإيرانية بخسارة كل من رئيسي وعبد اللهيان أولاً، وتجميد المسار النووي ثانياً، جاء اجتماع قادة فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية واليمنية في طهران، كأحد رسائل تعدد الخيارات الإيرانية، وللقول إن حادثة سقوط الطائرة لن تؤثر على “المحور” وتحالفاته، فضلاً عن اعطاء كلمة وحيدة في مراسم التشييع لرئيس المكتب السياسي في حركة حماس اسماعيل هنية، في رسالة متعددة الأبعاد أيضاً.
وبرغم أن طائرة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان تكاد لا تغادر أجواء السعودية، لكن نتائج زياراته المكوكية تبدو ضعيفة حتى الآن، فلا بنيامين نتنياهو وفي غمرة فشله بتحقيق نتائج مرجوة في ميدان القطاع، مستعدٌ لأن يوقف الحرب وينسحب من قطاع غزة قبيل حصوله على “انجاز ما”، وتحديداً اغتيال الصف الأول الحمساوي، بالمقابل فإن مشروع التهجير من الضفة الغربية نحو الأردن لا يزال خيار اليمين الإسرائيلي، ما يعني أن مطلب وقف الاستيطان وحل الدولتين لا يمكن تحقيقهما بسبب التعنت الإسرائيلي.
والأكيد أن الجامع المشترك بين رفض نتنياهو ورقة الشروط السعودية للتطبيع، وتثبيت السعودية سقفاً محدداً للاتفاقية الدفاعية مع الولايات المتحدة، هو أن الطرفين، أي نتنياهو وبن سلمان، يحرصان على عدم إعطاء بايدن وادارته أي مكسب انتخابي يؤدي إلى فوزه في المنازلة الانتخابية في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، بدليل التواصل المستمر بين المقربين من دونالد ترامب وولي العهد السعودي والرغبة الجامحة بعودة حرية الحركة التي تمتعت بها السعودية خلال حكم ترامب، فضلاً عن تواصل فريق ترامب مع نتنياهو ودعوته إلى القاء خطاب أمام الكونغرس قبيل موعد الانتخابات الاميركية.
من هنا فإن جولة المبعوث الفرنسي الخاص بلبنان جان ايف لودريان في بيروت، اليوم (الثلاثاء) وغداً (الأربعاء) ولقاءاته المرتقبة مع معظم القوى السياسية، لا تعدو أكثر من محاولة ملء الوقت الضائع وبالتالي تكريس حضور فرنسي في الشكل، وبخاصة أن ملف الرئاسة اللبنانية صار من المستحيل فصله عن حرب غزة ولا سيما أن حزب الله صار متسمكاً أكثر من أي وقت مضى بترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، فيما خصومه يتمترسون خلف مواقفهم الرافضة له.
والأكيد أن غرف التفاوض الأميركية – الإيرانية والسعودية – الأميركية، والقمة المنتظرة بين جو بايدن وإيمانويل ماكرون في السادس من حزيران/يونيو المقبل في النورماندي الفرنسية ولقاءات المسؤولين القطريين في الدوحة مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وقائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون والمدير العام للأمن العام اللواء الياس البيسري وقريباً مع رئيس حزب الكتائب سامي الجميل ونواب تكتل الاعتدال والنائب إبراهيم منيمنة، كل تلك النقاشات لا تؤدي إلى حلول، إنما تحاول خلق أرضية لملاقاة أية تسوية كبرى محتملة.