في نهاية محادثة هاتفية محبطة استمرت ست ساعات مع قادة الاتحاد الأوروبي في نهاية آذار/مارس الماضي، حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن جائحة “كوفيد-19” كشفت عن هشاشة الكتلة الأوروبية ومقوّمات وجودها. صحيح ان هذه الكلمات الدرامية قد حفّزت الدول الأوروبية على الذهاب نحو مشروع مشترك لإدارة الحرب على الفيروس المستجد، إلا أن ثمة قناعة راسخة اليوم بأنّ الاتحاد الأوروبي، حتى وإن خرج من هذه الحرب منتصراً، لن يكون في المستقبل كما هو اليوم.
بات المراقبون الأوروبيون معتادين على الاجتماعات الرفيعة المستوى التي يتشاجر فيها قادة الاتحاد الأوروبي، ويخرجون منها بنتائج قليلة، ولذلك فإنّ هؤلاء المراقبين أنفسهم يبدون اليوم غير قادرين على أن يحددوا بشكل دقيق حجم الأزمة التي تواجه أوروبا.
صحيح أن أوروبا تتقدم من خلال الأزمات، وقد أدارت على مدى العقد الماضي سلسلة استثنائية من الصدمات، إلا أن القادة الأوروبيين كانوا يخرجون منها بجمود مؤسساتي، ينبع من توافقات هشة بدلاً من الحلول الشاملة.
وعلى هذا الأساس، كانت كل أزمة تأتي لتقوّض بشكل تدريجي الأساس المنطقي للمؤسسات الأوروبية وآليات تضامنها.
حدث ذلك بالضبط في أزمتين خارجيتين حادتين، فاقمتا نقاط ضعفه الداخلية: (1) الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، والأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو، اللتان كشفتا ضعف الاتحاد النقدي الأوروبي، ما أدى إلى تأليب الدول الدائنة (الشمالية) مثل ألمانيا على الدول المدينة (الجنوبية)؛ (2) أزمة المهاجرين في العامين 2015 و2016، على خلفية الحرب في سوريا وليبيا وعدم الاستقرار المتواصل في أفغانستان وأجزاء من أفريقيا.
عجّلت موجات الصدمة السياسية في هاتين الأزمتين في انهيار هياكل الأحزاب السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وأعادت إحياء اليمين المتطرف– واليسار المتطرف في بعض الحالات – وهو ما انعكس في تزايد المشاعر المناهضة للعولمة، وكراهية الأجانب، والنزعات القومية، ومعاداة السامية، وباتت الأنظمة الأوروبية تجد صعوبة في تشكيل حكومات أكثرية بعد كل انتخابات غير حاسمة، في وقت لم تعد الأحزاب السياسية التقليدية قادرة على الاحتفاظ بأصوات جديدة، وهي كلها عوامل انتجت حكومات هشة، إن في افتقادها للغالبية البرلمانية المريحة أو في تكوينها التعددي (تحالف الأقليات).
لقد صُمم المشروع الأوروبي لنقل السيادة تدريجياً من المستوى الوطنى إلى المستوى فوق الوطني في مقابل فائدة أكبر – السلام والازدهار.
أهم نقاط قوة المشروع الأوروبي – سوق موحدة قوامها 446 مليون شخص، وحرية تنقل للأفراد والبضائع ورأس المال خففت الاحتكاكات التجارية الحدودية – توفر فوائد هائلة، ولكن ذلك يحدث فقط في الأوقات جيّدة، لا في أوقات الأزمات.
على هذا الأساس، أتت جائحة الفيروس التاجي لتعزز توجّهات تتعارض مع نقاط القوة السابقة الذكر: السيادة والقومية الضيقة، اقفال الحدود، الانغلاق الوطني.
وكان ملفتاً أن الكتلة الأوروبية بشكل عام – والمانيا والنمسا وهولندا بشكل خاص – قد استجابت للأزمة الحالية بشكل ضعيف، أقله في بداياتها، ما أوجد ردة فعل سياسية شديدة السلبية في المنظومة الأوروبية، قبل أن تحاول الدول ذاتها تصحيح الخطأ السابق، من خلال تحسين التعاون الأوروبي… لكن الشقوق العميقة لا تزال قائمة.
بالاستناد إلى هذا الواقع، ما الذي يمكن أن يحدث في أفق أوروبا الفوري والطويل المدى خلال أزمة “كوفيد 19” وبعدها؟
الأفق القصير المدى… مشاكل مالية
يجري العمل حالياً على تطوير حزمة من التدابير المالية القوية لدعم الدول الأوروبية الأكثر ضعفاً، وبخاصة إيطاليا وإسبانيا. ومع ذلك ، سيتعين على القادة الأوروبيين الموافقة رسمياً على ذلك.
يوصى المسؤولون الماليون في الاتحاد الأوروبي باستخدام آلية الاستقرار الأوروبية، وهي آلية مالية تم إنشاؤها في ذروة أزمة منطقة اليورو، بجانب خطوط الائتمان الجديدة.
ولكن المعركة الحقيقية ستكون حول مشروطية خطوط الائتمان، لجهة اعتماد قواعد صارمة لإقرارها، بحيث يمكن استخدامها فقط للإنفاق الصحي وتدابير لمعالجة التداعيات الاقتصادية لفيروس كوفيد-19، وستتطلب إشرافاً تكنوقراطياً لضمان العودة إلى الانضباط المالي.
يمكن أيضاً التوافق على خطة خاصة بالبطالة في الاتحاد الأوروبي إذا ساهمت الدول الأعضاء بأموال إضافية، وهو ما ينطبق على امكانية مساهمة مصرف الاستثمار الأوروبي بموارد أخرى.
وعلى هذا الأساس، يمكن الوصول إلى نتيجة سريعة لميزانية الاتحاد الأوروبي للسنوات السبع المقبلة.
ومع ذلك، فإنّ ثمة نقطة خلاف بين الدول الأوروبية، مردّها الفجوة الكبيرة في الميزانية التي خلفتها مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي.
علاوة على ما سبق، لا يزال “المال” عنصراً “تقسيمياً” للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، ذلك أن الدول الشمالية الأكثر ثراءً تنقل الثروة إلى الأعضاء الجنوبيين الأقل حظاً (وأحياناً الشرقية)، لا سيما من خلال تقاسم الديون.
الشماليون، أي ألمانيا وهولندا والنمسا وفنلندا، يؤكدون أنهم ليسوا راغبين في ضمان ديون أعضاء منطقة اليورو الآخرين، في حين أن الجنوبيين، بقيادة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، يسعون لاستخدام الوباء لإجبار الشماليين على قبول تبادل الديون بشكل ما، إما من خلال إنشاء “كورونابوندز” أو عبر تأسيس “صندوق الاتحاد الأوروبي المشترك المحدود المدة”.
لهذا السبب فإنّ الوجهة الحالية للاتحاد الأوروبي تكمن في الاستفادة من الأزمة الوبائية لكتابة دليل اقتصادي مستقبلي. ستكون الكتابة بطيئة، كما كانت الحال في الأزمات السابقة ، وستؤدي إلى تسوية مضنية لن ترضي تماماً أي عضو في الاتحاد الأوروبي، طالما أن المحركين السياسيين الرئيسيين للكتلة، فرنسا وألمانيا، منقسمان بشدة على الطريق الاقتصادي للمضي قدما: باريس تدافع عن الجنوب الأضعف، في حين تقف ألمانيا ، بطلة الشمال الغني، ثابتة.
لدى أوروبا مساران مستقبليان محتملان، أحدهما سلبي، والآخر يحتمل أن يكون أكثر تفاؤلاً (بالرغم من أنه قد ينطوي على تطور سلبي)
الأفق الطويل المدى… مستقبل مؤسساتي على المحك
انطلاقاً من الاستجابة الاقتصادية الفورية، سيكون لدى أوروبا مساران مستقبليان محتملان، أحدهما سلبي، والآخر يحتمل أن يكون أكثر تفاؤلاً (بالرغم من أنه قد ينطوي على تطور سلبي).
الجمود المؤسسي للاتحاد الأوروبي غير مستدام لأن الأثر الاقتصادي للوباء سوف يطغى على أعضائه الأكثر ضعفاً.
في السيناريو السلبي، سيكون الاتحاد الأوروبي أجوفاً بشكل متزايد، ليصبح في النهاية بلا معنى. لن تنهار الكتلة بالمعنى الرسمي، لكنها لن تكون قادرة على الحفاظ على التماسك الاقتصادي بين أعضائها الشماليين والجنوبيين، والتماسك الديموقراطي مع بعض الأعضاء الشرقيين.
ستحاول بريطانيا منافسة الاتحاد الأوروبي في المجال الاقتصادي ، وخاصة في الاقتصاد الرقمي. وسيؤدي التراجع الديموغرافي في أوروبا، وركودها الاقتصادي قبل الوباء، فيما ستؤدي ضغوط الهجرة المتزايدة من الجنوب – وكلها تقع بشكل كبير على الدول الأعضاء الجنوبية – إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، خاصة في إسبانيا وإيطاليا.
المعاهدات والقواعد والتوجيهات واللوائح الأوروبية لن تكون قادرة على حل هذه القضايا، فالكثير من الحكومات الأوروبية ستستخدم سلطات الطوارئ لعرقلة المعارضة السياسية، وستبرز في أوروبا توجهات مناقضة لمبادئ الديمقراطية، بما في ذلك تعليق الانتخابات.
ومن دون نمو اقتصادي ستتراجع القدرات الدفاعية الأوروبية أكثر، ما سيؤثر على رغبة الولايات المتحدة في توفير مظلتها الأمنية لأوروبا، وستكون أوروبا الضعيفة أكثر عرضة للتأثير الروسي والصيني.
على سبيل المثال ، قد يعترف بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي بمطالب روسيا الإقليمية بشأن أوكرانيا ورفع العقوبات، وسيتشارك البعض بشكل أعمق مع الصين.
ومع ذلك، قد يقود الوباء إلى تبني وجهة أخرى، تفضي في النهاية إلى مسار إيجابي، فإذا كانت الملاءة المالية لإيطاليا موضع شك، ستضطر ألمانيا ودول شمال أوروبا الأخرى إلى قبول مستوى ما من تبادل الديون وتحويل الثروة، وهذا من شأنه أن يحدث تحولاً كبيراً في المسار الأوروبي، ويعطي المنظومة الأوروبية معنى مالياً لفكرة “التضامن” التي يتم الترويج لها كثيراً، ويوفر المزيد من الأمل والفرص الاقتصادية لأعضاء الجنوب، ليبدأ ليورو في منافسة الدولار الأميركي بشكل أكبر على المستوى العالمي.
لكن هذا المسار يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية غير متوقعة، ذلك أن القرار المؤثر من قبل شمال أوروبا داخل المنظومة الأوروبية يمكن أن يولد واقعاً سياسياً خطيراً، لا سيما حين يتعلق الأمر بألمانيا، فالتاريخ الحديث لانهيار الاتحادات يُظهر أن أقوى عضو اقتصادي في اتحاد ما متدهور يغادره أولاً. ولذلك، فإن خروج بريطانيا كان تحذيراً ينذر بالسوء في هذا الصدد، وقد يطرح تساؤلات من قبيل: هل ترغب ألمانيا أو دول أخرى في البقاء في هذا الاتحاد المختلف؟
لقد واجه الاتحاد الأوروبي العديد من الاختبارات من قبل. ومع ذلك ، فإنّ الفيروس التاجي يمثل اختباراً لكل ما توصلنا إلى فهمه بشأن أوروبا على مدار السنوات السبعين الماضية.