ليس بالجديد أن توظف إسرائيل الهرولة والتنافس العربيين للتحالف معها بكافة الأشكال الاستراتيجية والدعائية والانتخابية وحسب توقيتها، ولكن الجديد هو أن تكون فاعليات هذا التنافس وتحديداً على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي الأداة الأكثر فاعلية في إدارة الخلاف بين الدوحة من ناحية وبين أبوظبي والرياض من ناحية أخرى؛ فمع ربط دونالد ترامب – في كلمته خلال مراسم توقيع اتفاقيات التطبيع الأخيرة بالبيت الأبيض – المصالحة مع قطر كمحفز لتسريع وتيرة التطبيع العربي الإسرائيلي وإنجاز “صفقة القرن”، تلقفت الدوحة هذا بممانعة إيجابية تمثلت في تفعيل دورها في التوصل لتهدئة مؤقته في قطاع غزة وإعادة تنشيط قنوات اتصالها السياسية والدبلوماسية والأمنية مع تل أبيب، وفي الوقت نفسه، إطلاق سردية إعلامية ظاهرها الدفاع عن فلسطين وقضيتها، ومغازلة الرياض بالتمسك بالمبادرة العربية 2002 أساساً للحل، وباطنها الحيلولة دون أن توظف الإمارات خطوتها المستجدة ضدها في إطار الخلاف الخليجي- الخليجي، ونزع أي فاعلية لأبو ظبي في ما يخص فلسطين وغزة، حالياً ومستقبلاً.
هذا التطور اللافت للإنتباه في العلاقات القطرية – الإسرائيلية يأتي كتسلسل منطقي للسيرورة التي اتخذت فيها الدوحة دوراً وظيفياً في تدجين المقاومة الفلسطينية في غزة للتقارب مع تل أبيب منذ تسعينيات القرن الماضي، وتحويلها مؤخراً إلى مجرد ورقة مساومة في صراع المحاور ودولها؛ ليتطور هذا الدور القطري بالنسبة إلى تل أبيب من مجرد وسيط بين الإسرائيليين والمقاومة الفلسطينية إلى قدرة قطر على استخدام المقاومة في غزة وتحديداً حركة حماس، كممر إلزامي تنهي به الحصار المفروض عليها خليجياً منذ ثلاث سنوات، وتثبيت أهميتها الوظيفية لكل من إسرائيل والولايات المتحدة بشكل يتجاوز حتى شخصيتي بنامين نتنياهو وترامب، ويؤصل لأهمية الفاعلية السياسية في مناخ التوظيف الدعائي والانتخابي الذي يشكل الحامل الأساسي لاتفاقيات التطبيع الأخيرة وربما القادمة أيضاً.
ما سبق يتسق مع تحليلات إسرائيلية ترصد وتحلل هذه المتغيرات الكبيرة في المنطقة خلال الأسابيع القليلة المنصرمة، والتي تنظر إليها من زاوية تأثيرها من عدمه على محددات الأمن الإسرائيلي، وبشكل خاص على الجبهة الجنوبية وقطاع غزة، حيث يرى محلل الشؤون العسكرية في القناة 12 الإسرائيلية، نير دفيوري، أن التهدئة التي أنجزت بوساطة قطرية في غزة مؤخراً تتناسب سياسياً وانتخابياً مع موقف نتنياهو المأزوم داخلياً، وأيضاً مع تقديرات أمنية إسرائيلية ترى ضرورة شن عمل عسكري ضد المقاومة في غزة في غضون الأسابيع المقبلة، ولو أن ذلك لا يتناسب ومناخ توقيع اتفاقيات التطبيع الأخيرة، والتي قرر فيها الإماراتيون والبحرينيون التفريط بمبدأ أقر به الإسرائيليون منذ ثلاثة عقود من الزمن، وهو الأرض مقابل السلام.
وعلى نفس المنوال ولكن من زاوية تكامل الأدوار بين الدول الخليجية في ما يخص إسرائيل، نشر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي خلاصة ورشة بحثية تناولت اتفاقيات التطبيع الموقعة مؤخراً، وتلك التي على وشك الحدوث، وقد أشارت إلى أن قطر سارعت لتفعيل أوراق نفوذها في غزة والتي بدورها تشكل أساسا لعلاقاتها الثنائية بإسرائيل، حيث خشيتها من أن تكون الخطوة المقبلة للإمارات تقليص النفوذ القطري في ما يخص القضية الفلسطينية؛ سواء عبر تجاوز أبو ظبي والمنامة وربما الرياض قريباً على حتمية حلها (وهو أمر مستبعد) قبيل تطبيع العلاقات مع تل أبيب، أو عبر تقليص فاعلية نفوذ الدوحة على الساحة الفلسطينية كجزء من شروط المصالحة المرتقبة بينها وبين التحالف الرباعي (مصر والسعودية والإمارات والبحرين)، أو حتى استغلالاً لخشية كل من عَمّان والقاهرة من تضرر دورهما التقليدي، في ضوء التطبيع الأخير، وذلك بصفتهما أول وأقدم من أقام علاقات مع إسرائيل، حيث كانت غزة أهم محاورها في العِقد الأخير، ودائما وفق قاعدة الأرض مقابل السلام، وهو الدور الذي شهد أيضاً محاولات استحواذ سعودية وإماراتية، علماً أن دور الدوحة المعتاد فلسطينياً، وتحديداً في ما يخص غزة، قد شهد تقزيماً منذ العام 2014.
تخشى الدوحة من أن تكون الخطوة المقبلة للإمارات تقليص النفوذ القطري في ما يخص القضية الفلسطينية
وكان لافتاً للإنتباه ما أقدمت عليه مصر مؤخراً بعدم ممانعة المسعى القطري الأخير في غزة، والذي شمل زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إلى بيروت قادماً من القاهرة، التي ترعى في التوقيت ذاته حواراً بين الفصائل الفلسطينية. ويتوازى كذلك مع استدارة تركية – قطرية مع مصر في مختلف الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية من ليبيا وشرق المتوسط إلى غزة وملاحقة قادة جماعة الإخوان المسلمين، التي تم إلقاء القبض على نائب مرشدها العام محمود عزت، في المدى الزمني ذاته، وهو ما يشي بأن هناك تكاملاً في توزيع الأدوار من جانب واشنطن بين حلفائها، وتعاطياً من قبل القاهرة بفاعلية مع هذا التوجه الأميركي الذي يفترض ضرورة حل الخلافات العالقة بين الدول الحليفة لها على كل الأصعدة.
وكقطع بانورامي على هذا المشهد المركب ومتغيراته المتسارعة في كافة قضايا المنطقة بمستوياتها المختلفة والمتنافرة حتى بين المعسكر الواحد، فإن ثمة ثابتاً يتمثل في المعركة الانتخابية الوشيكة في الولايات المتحدة، والتي بطبيعة الحال تمثل الأولوية القصوى لإدارة ترامب، التي بدورها لن تلتفت في المدى القريب إلى أي تصعيد بين حلفائها من شأنه أن يُضر بأحد إنجازاتها الأهم على مستوى السياسة الخارجية المتمثلة في اتفاقيات التطبيع الأخيرة، وتالياً “صفقة القرن”، وهو ما قوبل من جانب هؤلاء الحلفاء جميعاً على تنافر مواقفهم بتعاطٍ إيجابي انتظاراً لما ستفضي إليه هذه الانتخابات، والذي اختلفت وسائل التعبير عنه بصمت إيجابي سعودي قابلته الدوحة وأنقرة بالإصرار على تفعيل المبادرة العربية للسلام 2002 في ظل توجس مصر والأردن من تخفيض فاعليتهما المعهودة في علاقتهما بتل أبيب إلى حد أدنى ناتج عن تصدر الدول الخليجية إدارة مشهد العلاقات العربية الإسرائيلية في المرحلة المقبلة.