ينتظر “أبو أحمد” أن يُسمح له بحصاد أرضه التي تبلغ مساحتها حوالي 97 دونم. يراقب وأبناء قريته القمح الوفير الذي فاضت به الأرض هذا العام بعد أمطار غزيرة وظروف جوية ملائمة، واصفاً هذا الموسم بأنه “موسم خير”.
بعد سيطرة الجيش السوري على ريف حلب الجنوبي والجنوبي الغربي، وتأمين المدينة إثر المعارك الأخيرة في شهر شباط/فبراير الماضي، استعادت الحكومة السورية مساحات واسعة من الأراضي التي توصف بأنها “خزان القمح” في الشمال السوري، حيث تمتد مساحات سهلية واسعة، ذات تربة حمراء خصبة، مثّلت تاريخياً أحد أقدم مواطن القمح السوري، الأمر الذي دفع “المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة” (إيكاردا) إلى اختيار هذه المنطقة لإقامة واحد من أهم مراكزها، بعدما تم نقله من لبنان إثر اندلاع الحرب الأهلية.
رسمت حدود السيطرة خطوط تماس جديدة، يحدد طريق حلب – دمشق أحد أبرز معالمها الأمر، الذي وضع مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالقمح، والتي من المفترض أن يتم حصادها بعد حوالي شهر أو شهر ونصف الشهر، ضمن خطوط التماس، ما يعني عدم قدرة أصحابها على حصاد محصولهم قبل الحصول على سلسلة طويلة من الموافقات تبدأ في مديرية الزراعة وتصل إلى اللجنة الأمنية.
“أبو أحمد” الذي تقع أرضه على بعد نحو ثلاث كيلومترات من طريق حلب – اللاذقية في ريف حلب الجنوبي الغربي، يشرح خلال حديث إلى “180” أنه وأبناء قريته تقدموا بطلبات للسماح لهم بحصاد أراضيهم، حيث حصل البعض على موافقات بعد تقديم أوراق الملكية الثبوتية، في حين لم يمنح من تبعد أرضه أكثر من ثلاث كيلومترات عن الطريق الموافقة، موضحاً أن الأمر دخل في سراديب السياسة.
بدوره، يؤكد مدير الزراعة والإصلاح الزراعي في حلب رضوان حرصوني وجود “مشكلة” تعاني منها مساحات من الأراضي المزروعة بالقمح عند حدود التماس، موضحاً خلال اتصال هاتفي مع “180” أن مديريته قدمت، وما زالت تقدم، كافة التسهيلات الممكنة للمزارعين استعداداً للحصاد، إلا أن بعض المناطق تحتاج إلى جهود سياسية تعمل عليها الجهات المعنية، وفق تعبيره.
وتوقع حرصوني “إنتاج أكثر من 268 ألف طن من القمح هذا الموسم في المناطق الآمنة في محافظة حلب”، دون وجود أرقام واضحة حول كمية القمح المتوقع إنتاجه في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة.
ويتطلب موسم الحصاد إدخال معدات كبيرة، بالإضافة إلى إجراءات وقائية عدة خوفاً من اندلاع الحرائق التي تتسبب بإتلاف مساحات واسعة، ما يعني خسائر كبيرة في المحاصيل. هذه الإجراءات يبدو أنها دخلت طور المحادثات مع الدول الضامنة (روسيا – إيران – تركيا) لضمان تأمين الظروف المناسبة لموسم الحصاد في مناطق التماس.
بين تركيا و”قسد”
لم تتوقف زراعة القمح في ريف حلب خلال الأعوام الماضية، حيث تابع الفلاحون زراعة أراضيهم، وتمكن بعضهم، وفق تأكيدات “أبو أحمد”، من إدخال القمح وتسليمه للحكومة عن طريق وسطاء وبأسعار تقل نحو 45 ليرة سورية عن السعر الذي حددته الحكومة العام الماضي (سعرت الحكومة كيلوغرام القمح بـ185 ليرة سورية العام الماضي)، حيث تمكن الوسطاء من تحقيق أرباح كبيرة حينها، في ظل رفض الفلاحين بيع محصولهم للسلطات التركية التي خصصت هذا العام أيضاً مراكز لشراء القمح من الشمال السوري الخاضع لسيطرة الفصائل المسلحة.
وحددت الحكومة السورية سعراً جديداً هذا العام بلغ 225 ليرة سورية للكيلوغرام، وهو ذات السعر الذي حددته “الإدارة الذاتية” الكردية في الحسكة، التي تزاحم الحكومة السورية على شراء هذه السلعة الاستراتيجية التي تعتبر أحد أعمدة الأمن الغذائي.
سيكون القمح نقطة على جدول أعمال الدول الضامنة (روسيا – إيران – تركيا) لتأمين الظروف المناسبة لموسم الحصاد في مناطق التماس.
وفرضت “الإدارة الذاتية” العام الماضي على المزارعين الموجودين في مناطق سيطرتها تسليم محاصيلهم من القمح، حيث اشترت نحو 550 ألف طن من القمح بأسعار تقل نحو 30 ليرة عن الأسعار التي حددتها الحكومة السورية حينها. وهذا العام، أعلنت “الإدارة الذاتية” عن تجهيز 20 مركزاً لاستلام القمح من المزارعين بذات السعر الذي حددته الحكومة للسورية للأنواع الممتازة، وبأسعار أقل وفق نظام الشرائح بحسب جودة القمح، الأمر الذي ينذر بأزمة جديدة، خصوصاً أن مسؤولين أكراد كشفوا أن “الإدارة الذاتية” لم تستعمل إلا نحو 50 ألف طن فقط من المخزون الذي تم شراؤه العام الماضي.
كذلك، فرضت الفصائل المسلحة التابعة لتركيا التي تسيطر على مناطق في الشمال السوري على الفلاحين تسليم محاصيلهم العام الماضي، حيث يقوم وسطاء أو قادة فصائل أو بعض المجالس المحلية بشراء القمح وتخزينه في بعض الصوامع قبل نقله إلى تركيا وبيعه للسلطات التركية.
وتم خلال العام الماضي نقل آلاف الأطنان من القمح والمواد الزراعية والحبوب إلى تركيا آخرها حمولة تحتوي على 20 ألف طن تم نقلها من صوامع مدينة تل أبيض إلى تركيا، في شهر شباط الماضي، وفق ما ذكرت “هيئة المشتريات العامة التركية”.
وأمام هذه الانقسامات والخرائط التي فرضتها الحرب، يعاني موسم القمح السوري من تسرب قسم كبير منه، خصوصاً أن أبرز مناطق زراعته في سوريا (الحسكة – ريف حلب) تعاني من التجاذبات السياسية وغير خاضعة بشكل كامل لسيطرة الحكومة السورية، التي اضطرت خلال السنوات الماضية إلى استيراده.
وتستهلك سوريا ما معدله 2.5 مليون طن من القمح سنويا، بحسب تقديرات عدة، يتم تأمين القسم الأكبر منها عن طريق الإنتاج المحلي، فيما تستورد الباقي، وذلك بعد ما كانت مكتفية ذاتياً قبل الأزمة، بإنتاج يصل إلى نحو أربعة ملايين طن سنوياً، مع إمكانية تصدير 1.5 مليون طن إلى الخارج، إضافة إلى تحقيق أرباح عن طريق مبادلة القمح السوري الطري بالقمح القاسي الأقل سعراً، الأمر الذي يوفر للحكومة تحقيق هدفين في وقت واحد، عن طريق تحقيق الأرباح من جهة، وتأمين القمح اللازم لصناعة الخبز من جهة أخرى، (يستعمل القمح القاسي في صناعة الخبز).
ومع توسيع الجيش السوري دائرة سيطرته في محيط حلب، وسيطرته على مناطق واسعة في الريف الجنوبي والجنوبي الغربي، أحد أهم مواقع زراعة القمح، ضمنت الحكومة السورية عدم تسرب القمح من هذه المناطق، قبل أن تطفو على الوجه مشكلة مناطق التماس، التي تهدد بدورها المزارعين في ضياع محاصيلهم، وتفوّت على الحكومة آلاف الأطنان من القمح، الأمر الذي مازال المزارعون ينتظرون إيجاد حل له.