يعتبر المجال الطبيعي، واحدا من المجالات التي تتأسس عليه مواقف وتفاسير دينية، لا سيما وأنّ النصوص الدينية أعطت الكثير من المبررات لتفسير ظواهر الطبيعة، ومنها الزلازل والفيضانات، بوصفها انتقاماً أو غضباً من الله، أو كون الإله وحده صلاحية التدخّل في بعض الظواهر. الاعتقاد بالعلاقة بين الديني والطبيعي لا يقتصر على المتدينين في مجتمعاتنا. في أميركا مثلاً، وحتى يومنا هذا، يرفض بعض العلماء الإنجيليين الخوض في دراسات وأبحاث تحدّ من الاحتباس الحراريّ. بنظرهم، هذا من عمل الرّبّ، الذي وحده يدير الكون وينظّمه. والأمثلة عن الآراء الدينية في المسائل الطبيعية كثيرة. ففي العام 2014، شهدت المنطقة العربية ندرة في هطول الأمطار، ما عرّضها إلى أزمة شحّ في المياه. وقتذاك، ضجّ المشهد بالخطب الدينية التي تقدّم تفسيراً لندرة المتساقطات، وترجعُ سببه إلى ابتعاد الناس عن الدين، فضلا عن إقامة صلوات إستسقاء.
وعلى سبيل المثال أيضاً، اشتعلت عام 2016 حرائق في مناطق من فلسطين المحتلة، فكتب عدد من الحاخامات اليهود وقتها أن سبب الحريق يعود إلى “غضب الرب” لعدم احترام الشعائر الدينية اليهودية. كما اندلعت حرائق من نوع آخر آنذاك عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين جمهورين عربي وإسرائيلي، حيث اعتبر العرب أن الله وبتلك الحرائق إنما ينتقم من الصهاينة. زدْ على ذلك، أمثلة عدة تُتوّج في وقتنا هذا باللجوء إلى الدين لمحاربة وباء كورونا المستجد!
ايمن أبو عمر: من مات بسبب فيروس كورونا “هو شهيد”!
بعض ردود الفعل الدينية على وباء كورونا:
في الخامس من الشهر الحالي، كتب الصحافي الصيني “ووفي يو” مقالةً في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان: “هل فيروس الكورونا هو انتقام البنجول”؟ استشهد فيه بمقولات من الكتب الصينية القديمة تحذر من أكل الحيوانات البرية، مثل البنجول والثعابين والخنزير. ويقول الكاتب أنه ثمة احتمالات بأن يكون الوباء قد انتقل من البنجول، ليعتبر في نهاية المقال أن كورونا قد تكون ثأراً “بنجوليا” من البشر الذين لم يسترشدوا بالكتب الصينية القديمة.
أما الدكتور محمد خليفة البدري، وهو مدرس أصول الفقه بجامعة الأزهر، فقد صرّح أن البلاء “لا يحل إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، وبالنظر إلى ما فعلته الصين مع المسلمين نجد الأمر عسيرًا ألا نفسره على هذا النحو”، ويردف أن الصين من الدول التي تعادي الدين عمومًا، فلا مانع من أن يكون ذلك نزل بسبب ذنوبهم وعدائهم لله”.
يعني ذلك أن المسلم، حتى لو كان صينياً وأصيب بمرض الكورونا، فذلك ليس بعلامة على سوء الخاتمة. وذهب الدكتور أيمن أبو عمر، وكيل وزارة الأوقاف ومدير عام الفتوى وبحوث الدعوة في مصر إلى حد القول إن من مات بسبب فيروس كورونا “هو شهيد”!
وفي السياق، أطلق رجل الدين الإيراني البارز، علي رضا بناهيان، جملة من التصريحات التي أشار فيها إلى أن انتشار فيروس كورونا يعتبر “مقدمة لظهور إمام آخر الزمان”، كما نقلت عنه وكالة “تسنيم” الإيرانية.
بدوره، إعتبر الحاخام المتشدد الناطق بالفرنسية، رون تشابا أن الوباء علامة على ظهور المسيح، وقال إن “جميع العلامات التي تحذر من مجيء المسيح أصبحت ظاهرة للعيان الآن ومتوفرة، ومن المأساة أن نظل غير مبالين”. على أن رجل الدين المسيحي اللبناني الأب يوحنا خوند اعتبر أنه لولا الكورونا لوقعت حرب عالمية محت البشرية كلها “لأن اميركا وايران والصين كانوا مثل الديوك على بعضهم”!
ولد داهي: “كورونا تعالج بالرقية الشرعية عند أحباب الرسول ولا داعي للقلق، ومستعدون للذهاب للصين”
طرق دينية للعلاج من كورونا:
وكما انتشرت الآراء الدينية التفسيرية لوباء كورونا، كان للعلاج الديني نصيبه في الانتشار أيضا. فقد ظهر أحد رجال الدين المسلمين في فيديو مسجل معترضاً على اتخاذ تدابير متشددة في الأماكن المقدسة، قائلاً إن الشفاء من هذا الوباء يقتصر على زيارة هذه الأماكن تحديداً. وقد يتلاقى هذا مع فتوى المرجع الديني العراقي قاسم الطائي التي دعا فيها إلى الاستمرار بزيارة الأماكن الدينية وإقامة صلوات الجماعة والجمعة، على اعتبار أن “الفيروس لا يصيب المؤمنين”.
وفي حين استأجر الكاهن المسيحي اللبناني مجدي علاوي طائرة خاصة وحلق بها فوق لبنان لمباركته وحمايته من تفشي فيروس كورونا، نشرت إحدى الصحف اللبنانية منذ عشرة أيام خبراً حول ظهور القديس شربل لامراة، طالباً منها أن “تأخذ تراباً من دير مار مارون في عنايا وتغليه وتصفيه، ثم تنقله إلى مستشفى رفيق الحريري في بيروت لمعالجة المصابين بفيروس كورونا”.
مذيع قناة الرحمة المصرية مثلاً، أسامة حجازى، أطل على شاشة التلفاز ليؤكد أن النقاب والوضوء يشكلان علاجاً فعالاً لفيروس كورونا، معتبراً أنه لولا الحرج لأمرت منظمة الصحة العالمية دول العالم بأن تجبر مواطنيها على ارتداء النقاب لمواجهة فيروس كورونا.
أما إمام الجامع الأموي في سوريا توفيق البوطي، فقد رأى أن “حبة البركة” التي تحدث عنها النبي محمد هي دواء للكورونا وأن “كل ما في الأمر أن عليك أن تحسن تصنيعها واستثمار هذه المادة الدوائية بأسلوب علمي تقني متطور”.
في موريتانيا، نشر الشيخ يحظيه ولد داهي الذي يسيّر مركزاً لعلاج السحر في نواكشوط، تدوينة على صفحته قال فيها: “كورونا تعالج بالرقية الشرعية عند أحباب الرسول ولا داعي للقلق، ومستعدون للذهاب للصين”. وأوضح لاحقاً أن العلاج يتم بالقرآن الكريم وعشبة تعالج عدة أمراض مستعصية كان الرسول قد أخبر عنها.
وفي فلسطين المحتلة، وزع أحد الحاخامات مشروب بيرة “كورونا” على المؤمنين طالبا منهم احتساءه والدعاء إلى الله أن يحد من انتشار الوباء.
وعلى الهامش، كان لافتا أيضاً أن رجل الدين الإيراني مكارم الشيرازي أفتى لصحيفة “همدلي” الإيرانية بخصوص لقاح محتمل للفيروس من إسرائيل، قائلا إنه “ما لم يكن العلاج فريدًا من نوعه ولا بديل عنه، فإن ذلك لا يُشكّل عقبة”.
أما في نيودلهي، فقد أقامت جموع من الناشطين الهندوس حفلا لشرب بول البقر، لوقاية أنفسهم من وباء كورونا الذي ضرب العالم.
الخلاصة:
كل حدث مستجد أو طارئ يحمل معه فعل تعرية. يكاد يكون ذاك أشبه بسنّة في حياتنا. التعرية التي أتى بها فيروس كورونا المستجد مرتبطة بالفكر الديني عند مختلف أتباع الديانات السماوية. الفكر الديني الذي لا يتوانى عن تديين ما هو دنيويّ. ولقد أدت تعريته إلى إلحاق جرحٍ دينيّ لدى بعض المتدينين الذين وجدوا أنفسهم في خضمّ حالة صراع، إذ كيف لهم أن يبتعدوا عن الأماكن التي هم في العادة يلجأون إليها حين يعجز الطب عن الشفاء.. وكيف لهم أن يطبقوا بعض العلاجات التي لطالما تحدثوا عنها في كتبهم الدينية من دون أن تؤدي إلى نتيجة!
الفضل شلق: لقد انتصر العلم. هو الذي يشفي. على الناس بما فيهم رجال الدين، أن يصغوا الى العلم. لا التعاويذ الدينية تنفع، ولا الابتهالات الدينية الى المتسامي تنفع
ولم تقتصر ردود الفعل هذه عند الناس بشكل عام، بل لازمت بعض رجال الدين كما تبين أعلاه، فكان أن شهدنا جدالات دينية مستجدة، تكشف عن عمق الهوة بين أصحاب الدين أو المذهب الواحد في المنطق الذي يحكم فكرهم الديني، عدا عن الجدل الديني اللاديني الذي توسّع مع انتشار هذا الفيروس.
ولعلّ إحدى إيجابيات التعرية، أن الفكر متى اصطدم بالواقع، ثم أظهر الواقع بطلانه، فإن ذلك لا بد أن يشكل دافعاً اضطراريا نحو عقلنة هذا الفكر. وإذا ما كان الواقع اليوم يشي بأن الفكر الذي يعمل على تديين الدنيوي ثبت بطلانه، فهل سيكون المسعى لاحقاً جدياً في السعي إلى الخلاص عبر الخلاص من تديين الدنيوي، كما يقول المفكر عبد الجبار الرفاعي؟
لقد علق الدكتور عبد الجبار الرفاعي مؤخراً عبر صفحته الفايسبوك على ما يجري: “أقرأ تفسيراتٍ واقتراحَ علاجات غريبة لرجالِ دينٍ عند الإصابة بفايروس #كورونا… المفارقةُ ان رجالَ الدين هؤلاء يسمحون لأنفسهم أن يتدخلوا بالطب وغيره من العلوم الحديثة، ويعطوا آراء على الضدّ من الخبراء فيها، لكنهم لا يسمحون للطبيب أو غيره من أهل العلم أن يفهم الدينَ أو أن يعطي رأيًا في فهم نصوصه، بذريعة أنه ليس متخصصًا في الدين كما يقولون”.
أما الكاتب والمثقف اللبناني الفضل شلق، فقد ذهب أبعد من الآخرين، بقوله “لقد انتصر العلم. هو الذي يشفي. على الناس بما فيهم رجال الدين، أن يصغوا الى العلم. لا التعاويذ الدينية تنفع، ولا الابتهالات الدينية الى المتسامي تنفع. يأخذ رجال الدين تعليماتهم حول السلوك اليومي من علماء العلم الحديث والتقني لا من رجال دين آخرين. ليس في كتاب مقدس أو مجموعة من الأحاديث النبوية أو الرأي الديني أو القياس أو الإجماع أي فائدة بالنسبة لعموم البشر. عليهم أن ينصتوا لعلماء لم يسمعوهم إلا لماما في الأحوال العادية. الآن يقود الدفة العلماء والممرضون. يملون الاجراءات التي يجب أن تتخذ”.
هذا غيض من فيض النصوص، عسى أن تتبلور في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة نقاشات جديدة وجدية حول المعرفة الدينية وعلاقتها بالعلوم الأخرى.