نهر تيغراي شاهد على الإبادة الجماعية في أثيوبيا!

نجت ألمانيا من تهمة انتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي رفعتها نيكاراغوا ضدها أمام محكمة العدل الدولية، متهمةً إياها بتزويد دولة الاحتلال الإسرائيلي بأسلحة تستخدمها ضد الشعب الفلسطيني في غزة. وبما أن الدعوى رُفضت شكلاً، يُصبح السؤال: هل وصل المجتمع الدولي إلى هذه الدرجة من استسهال الإبادة حتى ترد المحكمة هكذا دعوى، وبالتالي يستمر المجرمون في غيّهم وجرائمهم؟

لا بد من العودة إلى التاريخ؛ فقد أدى رفع جنوب أفريقيا قضية ضد الكيان الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية باقتراف جيشه جريمة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة، إلى استدعاء ذكرى جريمة الإبادة الجماعية التي اقترفتها ألمانيا القيصرية بين سنتي 1904 و1908 في ناميبيا، كذلك تستدعي إماطة اللثام عن جرائم مماثلة في العالم، وتركيز الضوء عليها، ودفع الهيئات الدولية للنظر فيها. من دون ذلك، حتماً ستستسهل الجماعات المسلحة المنظمة والجيوش النظامية، اقتراف الإبادة الجماعية (على الهواء مباشرة)، وهي مُطمئنة إلى أنها ستنجو بفعلتها بسبب التجاهل الدولي العام. من تلك الجرائم ما وقع في أثيوبيا، والذي يتطلب أن تنبري جهة ما، دولة أو منظمة ما تعنى بحقوق الإنسان، فتضعها أمام المحكمة الدولية للنظر فيها..

وبرغم مضي أكثر من أربع سنوات على الحملة التي قادها رئيس وزراء أثيوبيا، أبي أحمد، للقتال في إقليم تيغراي، بدءاً من تاريخ 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، واقتراف جيشه والميليشيات المسلحة التابعة لمجموعة الأمهرة العرقية المؤازرة له، المجازرَ الجماعية والقتل في الشوارع والاغتصاب والقصف العشوائي للمنازل وعمليات النهب واسعة النطاق وتهجير السكان وتخريب الأراضي الزراعية وقتل الماشية، إلا أن صرخات الألم ما زالت تنبعث من أثيوبيا، لكن في إقليم آخر هو إقليم أمهرة هذه المرة. يأتي هذا في وقتٍ ظنّ العالم فيه أن هذه الممارسات قد انتهت مع انتهاء الأعمال القتالية الكبيرة في تيغراي، في ضوء اتفاق السلام الذي وُقِّعَ بين الحكومة والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وتغيير أبي أحمد بزته العسكرية التي بدا فيها غاضباً، في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، لتحل محلها البزة الرسمية التي خرج بها مبتسماً وجاهزاً لاستقبال الوفود الرسمية التي تتوافد على أديس أبابا، وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن يديه قد زالت عنهما آثار دماء الضحايا المدنيين.

عندما زار أبي أحمد جبهة القتال في تيغراي قال: “لن نتزحزح حتى ندفن العدو”. غير أن جثث الضحايا التي حملها النهر من تيغراي إلى السودان، أو تلك التي نهشتها الوحوش، تشي بأن الجيش الأثيوبي والميليشيات لم يعطوا حتى فرصة دفن لذوي الضحايا

ومن بين الجرائم الموثقة وجرائم القتل الجماعي، تلك التي اقترفتها القوات الأثيوبية بالتعاون مع القوات الأريتيرية وقوات من إقليم أمهرة، في مدينة أكسوم التاريخية المقدسة في تيغراي، بين أواسط وأواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2020، عندما قتلوا أعداداً من المدنيين وجرحوا آخرين، خلال محاولات السيطرة على المدينة. وفي تحقيق لها، صنّفت منظمة العفو الدولية (أمنستي)، الانتهاكات في المدينة “جريمة ضد الإنسانية”. حدث ذلك لأن قادة الإقليم رفضوا فكرة المركزية التي يُريد أبي أحمد فرضها بالقوة. وكذلك بسبب معارضة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي حل نفسها والانضواء في “حزب الازدهار” الذي أسّسه الرجل، في خطوة تعدها الجبهة نزوعاً نحو الديكتاتورية والاستبداد، خصوصاً بعدما اتهمته بالتهرب من إجراء الانتخابات لضمان استمراره على رأس السلطة.

لم يشفع تحالف ميليشيات الأمهرة مع أبي أحمد، وقتالها إلى جانب الجيش في تيغراي، أو يمنعه من استهدافها عندما رفض قادة الإقليم حل ميليشياتهم، بعد إصدار الحكومة في أديس أبابا، في أبريل/نيسان 2023، قراراً يقضي بحل الميليشيات الإقليمية ودمجها بالجيش أو الشرطة المركزية، وهذه الوقائع جعلت الأمهرة يستشعرون وجود نزعة للحكم الفردي وتوجُّهاً لفرض مركزية الدولة على إقليمهم بدلاً من الفيدرالية التي يُفضّلونها. لذلك، وبعد أشهر قليلة من المناوشات، شنّ الجيش الأثيوبي، بأوامر من أبي أحمد، عملية عسكرية في أمهرة ضد ميليشيا “فانو” القومية، في الصيف الماضي، أتبَعها بفرض حالة الطوارئ في الإقليم والتي كانت مبرراً لشن حملة أمنية اعتقل خلالها الجيش عدداً كبيراً ممن قالت الحكومة إنهم يتحملون مسؤولية مفاقمة الأزمة. خلال هذه الفترة ارتكبت القوات الحكومية مجزرة في العاصمة الإقليمية، بحر دار، تحدثت عنها “أمنستي” في أحد تقاريرها. كما دعا موقع “ذا هيل” الأميركي إلى إجراء تحقيق مستقل بشأن مجزرة اقترفها جنود حكومة أبي أحمد، في 29 يناير/كانون الثاني الماضي، حين ذبحوا أكثر من 80 مدنياً بينهم نساء وأطفال ورموا جثثهم في الشوارع في قرية ميراوي في منطقة أمهرة الشمالية، وذلك على هامش قمع جنود الحكومة انتفاضة محلية ضدهم.

أما حالة الطوارئ التي فُرِضت في الإقليم، فقد أدت إلى نشر الخوف الذي أصبح جاثماً فوق صدور الأهالي في بلدات الإقليم ومدنه، فضلاً عن تفاقم الانتهاكات بحق أهله من عمليات القتل اليومي والذبح في الطرقات إلى الاعتقال واختطاف النساء وصولاً إلى التجسس على الاتصالات، كما تشير تقارير بعض المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان. ومن اللافت للإنتباه أنه وعلى الرغم من هذا الواقع وانكشافه، إلا أن الصرخات المطالبة بوقف هذه الممارسات، سواء داخل أثيوبيا أو خارجها، ما تزال صرخات لا تجد من يسمعها، وكأنها تُطلق في وديانٍ مقفرة.

إقرأ على موقع 180  شيرين أبو عاقلة.. "راك كاه" هكذا وحسب

ليست هذ الممارسات مستغربة في أثيوبيا، إذ تتحدث منظمات حقوقية أنه وعلى مدى ثلاثين سنة، يُدير المجتمع الدولي ومؤسساته والحكومات الغربية ووسائلها الإعلامية ظهرهم للمشكلات في هذه البلاد الممزقة، وهو الأمر الذي يطرح علامات استفهام عن سبب هذا التجاهل، وهل هو بسبب كون الضحايا فقراء وأفارقة وذوي بشرة داكنة؟ أم لأن العالم قد اعتاد على أعمال الإبادة الجماعية ولا سيما في القارة الإفريقية؟

عندما زار أبي أحمد جبهة القتال في تيغراي قال: “لن نتزحزح حتى ندفن العدو”. غير أن جثث الضحايا التي حملها النهر من تيغراي إلى السودان، أو تلك التي نهشتها الوحوش، تشي بأن الجيش الأثيوبي والميليشيات لم يعطوا حتى فرصة دفن لذوي الضحايا. ولا تحتاج هذه الأعمال إلى كثير من التدقيق حتى يجري تصنيفها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ إذ ثبتَ أنها أفعالٌ هدفها تدمير جماعة عن عمد وبِنيَّة وتصميم مسبقين، ما يجعلها جرائم إبادة جماعية.. في انتظار أن تنجح دولة ما أو جماعة ما في كسر المحظور وإيصال صوت الضحايا إلى المنابر الحقوقية الدولية ولا سيما محكمة العدل في لاهاي.

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ما بعد فخري زاده: هل يدفع الغرب إيران لإنتاج قنبلة نووية؟