خطة الحكومة اللبنانية للتعافي المالي: إنقاذ أم إغراق؟

Avatar18011/05/2020
يناقش عشرة باحثين/ باحثات، في الإقتصاد والتنمية والتمويل والسياسات، خطة الحكومة اللبنانية للتعافي المالي. هؤلاء هم على التوالي: ناصر ياسين، جمال صغير، محمد فاعور، ليا بو خاطر، فيفيان عقيقي، ألبير كوستانيان، خليل جبارة، علي أحمد، أديب نعمة، وزياد عبد الصمد.

تدقيق دفتري للخسائر المالية

ناصر ياسين، (أستاذ السياسات ومدير معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة بالوكالة، الجامعة الأميركيّة في بيروت)

أقرّت الحكومة اللبنانية في اجتماعها في 30 نيسان/أبريل الماضي خطة “التعافي المالي”، وتبع ذلك اجتماع في المقرّ الرئاسي في بعبدا مع رؤساء كتل نيابية لعرضها ومناقشتها. والخطة تحمل مُسمَّيات مختلفة فهي تارة برنامجًا للتعافي المالي وطورًا خطة إصلاحية وإنقاذية وأحيانًا اقتصادية. لكن بعيدًا عن التسميات وعن بعض الاختلافات في الأرقام بين النسخة الأصلية باللغة الانكليزية وتلك المترجمة للعربية، تحتوي الخطة على تدقيق دفتري للخسائر المالية الحاصلة في لبنان منذ عقود، وهذا التشخيص هو الأول من نوعه منذ تدهور الوضع النقدي والمالي.

تطرح خطة الحكومة اللبنانية الكثير من التساؤلات حول فرضياتها العديدة وكيفية احتساب أرقامها وتستولد هواجس محقّة من حيث توجهاتها ومآلاتها. لذلك، نقدم في هذا التعليق الجماعي من قبل باحثين وزملاء وشركاء لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت ملاحظات واقتراحات تتناول جوانبها الأساسية بغرض المساهمة في النقاش العلمي والهادئ حول طرق مقاربة أزمة لبنان الاقتصادية والمالية.

ما تلتمسه الخطة لا يستدعي الاحتفالية ولا تستوجب نعتها بالتاريخية، والبلد يسير نحو إفلاس عسير ومسار ممكن أن يحرمه من سيادته الاقتصادية

بداية في الشكل والتأطير العام، تنطلق الخطة من تسليم شبه كامل لوصفات التكيّف الهيكلي التي تفتي بها مؤسسات التمويل الدولية حتى قبيل البدء بالمفاوضات مع ممثليها، وبعض هذه الإصلاحات مطلوب حكمًا، لكن ما تلتمسه الخطة لا يستدعي الاحتفالية ولا تستوجب نعتها بالتاريخية، والبلد يسير نحو إفلاس عسير ومسار ممكن أن يحرمه من سيادته الاقتصادية. ويطرح احتساب بعض الارقام تساؤلات عن جديتها كتقديرها أن كلفة “النزوح” السوري إلى لبنان توازي 25 مليار دولار، وهو رقم غير مؤكد يدمج بين كلفة تأثير الأزمة السورية على السياحة والتجارة وبين كلفة استضافة اللاجئين. كما غاب عن واضعي الخطة اتِّبَاع تشاركية مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى، فلم يحصل أي تشاور جدّي مع ممثلي الفئات المهنية والاقتصادية أو مع المجتمعين المدني والسياسي باستثناء بعض اللقاءات الشكلية التي تظهر وكأنها لإرضاء المانحين لا للانطلاق بنقاش حقيقي مع قوى المجتمع في لحظة مصيرية من تاريخ لبنان وبعد ثورة شعبية واسعة.

الإصلاحات والإطار الزمني

جمال صغير، (أستاذ لممارسات التنمية في جامعة ماغيل وزميل باحث متميز في مجال الاقتصاد والتنمية في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة، الجامعة الأميركيّة في بيروت)

تقترح الخطة برنامجًا ماليًا ونقديًا شاملاً وطموحًا، لكنّها تتضمّن بعض التدابير الصعبة، ولا تركّز بشكل كافٍ على الإصلاحات القطاعية. فيقدّم البرنامج تشخيصًا جيّدًا، لا بل أكثر من ذلك، خلفية تقييمية لبدء النقاشات مع صندوق النقد الدولي وشركاء التنمية. ويعرض لائحة طويلة من النوايا والإجراءات، ولكنّه يفتقر إلى قائمة واضحة بالأولويات، وخريطة طريق واقعية وإطار زمني لتنفيذ تلك الإصلاحات، بالإضافة إلى الإجراءات المُسبقة التي تطلبها، عادة، المؤسّسات المالية الدولية. فضلاً عن ذلك، تضع خطّة الحكومة توقّعات ضخمة حول الدعم المالي الدولي المتوقع الحصول عليه عبر صندوق النقد الدولي وبرنامج “سيدر”، وتقدّره بنحو 10 مليارات دولار أميركي تعتقد أنها ستكون مُتاحة بسهولة خلال الأشهر القليلة المقبلة. في حين نعلم جميعًا أن قدرة البلد على تحمّل الديون هي واحدة من المسائل الرئيسية التي توجّه عمل صندوق النقد الدولي وشركاء التنمية.

لا تظهر الأولويات والتسلسل وفقًا لخارطة طريق واضحة بمقاييس مناسبة وجدول زمني يرصد التقدّم ويواكبه تصوّر للمساءلة

إلى ذلك، تبدو اقتراحات ترشيد النفقات غير كافية. من جهة أخرى، تعدُّ الإيرادات المتوقّع توليدها نتيجة تنفيذ برنامج الإصلاح، طموحة للغاية وغير مؤكّدة. كنّا نتوقّع المزيد من التفاصيل والإجراءات المُتعلّقة ببرنامج الإصلاحات القطاعية، ولا سيّما الطاقة والمرفأ والاتصالات. نذكر على سبيل المثال الأهداف غير الواقعية لقطاع الكهرباء على المدى القصير، خصوصًا أن الدعم المُنتظم الذي حصل عليه القطاع، على مدى السنوات العشرين الماضية، شكّل نحو 40% من الديون المتراكمة، أو ما يوازي نحو ملياري دولار أميركي سنويًا. في حين يفترض أن تحدّد إصلاحات هذا القطاع، ولا سيّما إعادة هيكلة مؤسّسة كهرباء لبنان، بشكل مفصّل.

باختصار، يتضمن البرنامج قائمة طويلة من المشاريع المرجوة، وإنمّا غير المُنظّمة بطريقة مناسبة حيث لا تظهر الأولويات والتسلسل وفقًا لخارطة طريق واضحة بمقاييس مناسبة وجدول زمني يرصد التقدّم ويواكبه تصوّر للمساءلة.

السياسة النقدية وسعر الصرف

محمد فاعور، (باحث في التمويل والمصارف لدى كلية دبلن الجامعية)

وفقًا للخطّة، ستنتقل سياسة سعر الصرف من ربط العملة وتثبيتها إلى سعر صرف أكثر مرونة (التعويم الموجّه أو نظام الربط المُتحرّك لأسعار الصرف)، على أن يتمّ تخفيض قيمة العملة المحلّية إلى 3500 ليرة لبنانية مقابل الدولار في العام 2020، يليه تخفيض تدريجي بنسبة 5% سنويًا خلال السنوات الأربع التالية، باعتبار أن ذلك سيساعد في السيطرة على ميزان المدفوعات في لبنان وتحسين القدرة التنافسية وتعزيز النمو الاقتصادي.

من الضروري النظر في تحويل القروض المقوّمة بالدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية قبل تخفيض قيمة العملة

لا شكّ أن كلّ هذه الحجج صحيحة، لكن الخطّة تفوتها نقطة في بالغ الأهمية، وهي أن غالبية قروض العملاء مقوّمة بالدولار الأميركي (66% من مجمل القروض وفقًا لأرقام آذار/مارس 2020). من هنا، من المُحتمل أن يؤدّي تخفيض قيمة العملة إلى ارتفاع نسبة القروض المتعثّرة بشكل كبير، نظرًا إلى كون مداخيل 70% من السكّان مقوّمة بالليرة اللبنانية، وبالتالي سيعاني المدينون أصحاب الرواتب بالليرة لتسديد قروضهم بالدولار الأميركي. بالنسبة إلى المدينين من القطاع الخاص، يمكن أن يؤدّي تحفيض قيمة العملة إلى موجة كبيرة من الإفلاسات لأن الشركات التي تحصّل إيراداتها بالليرة اللبنانية ستعاني لتأمين قروضها بالدولار الأميركي. وينسحب الأمر على المدينين الأفراد الذين يشهدون تراجعًا في قوّتهم الشرائية، وبالتالي ستكون العواقب الاجتماعية الاقتصادية عليهم واضحة. أمّا بالنسبة إلى المصارف، سيؤدّي ارتفاع القروض المتعثرة إلى تفاقم خسائرها ورفع كلفة إعادة الهيكلة. لذلك من الضروري النظر في تحويل القروض المقوّمة بالدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية قبل تخفيض قيمة العملة، وذلك لتحقيق مصلحة كلّ من المدينين والدائنين.

أيضًا تتناول الخطّة الحاجة المتأخّرة لتشريع ضوابط رأس المال على أن يتمّ رفعها في العام 2021، وهو أمر مفرط في التفاؤل نظرًا إلى حجم الأزمة. إلى ذلك، تتوقّع الخطّة خروج ودائع بقيمة 9 مليارات دولار بعد رفع ضوابط رأس المال، وهو ما يعادل الحدّ الأقصى لقيمة القرض المتوقّع أن يحصل عليه لبنان من صندوق النقد الدولي. لا شكّ أن قيمة هذه التدفّقات الخارجة ستكون كبيرة جدًّا بالمقارنة مع حجم أزمة ميزان المدفوعات. وبالتالي، يجب أن تبقى ضوابط رأس المال لبضع سنوات حتى يتمّ تنقية القطاع المصرفي بالكامل، ونعود إلى مسار الانتعاش المستدام.

خفض الإنفاق

ليا بو خاطر، (أستاذة جامعية في التنمية الاقتصادية وباحثة في مؤسسة البحوث والاستشارات)

تتغاضى الخطّة عن الأثر الاجتماعي للأزمة الاقتصادية، وتهدف إلى تحقيق تعافٍ مالي سريع. من هنا، يصبح تقليص كلفة أجور القطاع العام، من 19% إلى 9% من مجمل الناتج المحلّي بحلول العام 2024، أمراً أساسياً في الخطة. في هذا السياق أطرح ثلاث قضايا من المهم الاضاءة عليها:

أولاً: لا شكّ أن في الإدارة العامة موظفين مؤهلين وأكفاء، لكن القطاع العام منتفخ بسبب العلاقة الزبائنية السائدة بين الزعماء السياسيين وأتباعهم، والتي تعدّ أداة ضرورية للحفاظ على متانة النظام الطائفي القاهر. وبناءً عليه، يصعُب توقّع قدرة الطبقة السياسية الحالية على تقليص قطاع يحافظ على وجودها، وهو ما يجعل تطبيق هذه الإصلاحات أمرًا مشكوكًا فيه.

ثانيًا: بينما تستهدف إعادة هيكلة القطاع العام فاتورة رواتب وأجور القوى الأمنية والعسكرية المُضخّمة، والمشكوك بالحاجة إليها أساسًا، إلّا أن الخطّة لا تتعامل مع خصوصية موظّفي القطاع العام ولا سيّما المعلمين، الذين تشكّل أجورهم المخصصات الحالية التي يحصلون عليها، الحوافز الرئيسية لجذب الموارد البشرية المؤهّلة إلى القطاع العام. من هنا، ستؤدّي الحوافز الضئيلة إلى استنزاف جميع الموارد بشكل جذري، وبدلاً من ذلك، ستستبدل بباحثين عن عمل غير مؤهّلين، غالبًا ما تكون فرصهم محدودة في القطاع الخاص.

ثالثًا: يشكل القطاع العام أحد أهم المسارات التي تقود إلى الارتقاء الاجتماعي في لبنان، وعليه سيؤدي ترشيق القطاع العام إلى الحد بشكل كبير من هذا الارتقاء في المجتمع اللبناني. ولا يبدو أن الخطّة تقدّم سياسات أو إجراءات واضحة لكيفية تعويض فقدان وظائف آلاف اللبنانيين، إذ لم تتمّ الإشارة إلى تأمين أي حماية اجتماعية ولو هامشية لهؤلاء الموظفين المزمع صرفهم من الخدمة.

زيادة الإيرادات

فيفيان عقيقي، (باحثة وصحافية اقتصادية)

تقترح الخطة سياسات تقشّفية قاسية، تهدف من خلالها إلى عصر النفقات وتحسين الإيرادات لتخفيض عجز الموازنة وصولاً إلى تحقيق فائض أوّلي (الفارق بين الإيرادات والنفقات قبل دفع خدمة الدَّيْن) بنسبة 1.6% من الناتج المحلّي بحلول العام 2024، وبالتالي استخدام هذا الفائض لاستئناف تسديد الديون والفوائد عليها.

بمعزل عن مدى دقّة هذه الأرقام التي تغيّرت بين النسخة المُسرّبة بداية والنسخة الأخيرة التي أقرّت، وعدم وضوح المنهجية التي بُنيت عليها التقديرات، ومدى واقعية تحقّقها نتيجة الإنهيار الشامل الذي سيطال مداخيل الدولة أيضًا، تأتي هذه المقاربة محاسبية بامتياز ولا تتعامل مع التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لإفلاس النظام السياسي ــ الاقتصادي.

تسعى الحكومة إلى زيادة الإيرادات عبر توسيع القاعدة الضريبية خلال المرحلة الأولى، من خلال تحسين الجباية الجمركية والضريبية، ومكافحة التهرّب الضريبي والتهريب، وإلغاء الإعفاءات والحوافز الضريبية، وهي إجراءات قد تخضع للتجاذبات السياسية، وربّما يكون مصيرها شبيهًا بقانون “الكابيتل كونترول” الذي لم يقرّ. على أن تتبعها في المرحلة الثانية زيادة المعدّلات الضريبية التي تستهدف بشكل رئيس ضرائب الدخل، عبر زيادة معدّل الضريبة على أرباح الشركات والفوائد والأسهم والأجور المرتفعة، وفرض رسوم على الأنشطة الملوّثة للبيئة ولا سيّما المقالع والكسّارات، صحيح أن هذه الإجراءات لا تزيد العبء الضريبي على المداخيل الدنيا والاستهلاك الأساسي، ولكنها لا تمسّ أيضًا بهيكلية النظام الضريبي بل تعمد إلى ترقيعه.

تدعونا الخطة إلى تحمّل المزيد من الآلام خلال السنوات الخمس المقبلة لنخرج من الأزمة، من دون أن يكون واضحاً إلى أي دولة سنخرج وأي مجتمع وأي اقتصاد

الضريبة ليست هدفًا بذاتها إنّما أداة تستخدمها الحكومات للحصول على موارد وتحقيق أهداف تخدم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية. في لبنان، يعدُّ النظام اللبناني غير عادل بطبيعته، وأداة ساهمت طول سنوات في تحويل الثروة من المجتمع إلى القلّة، إذ يرتكز بشكل رئيس على الضرائب غير المباشرة ويعفي الثروة والأرباح من تحمّل الأكلاف المناسبة. في هذا السياق، تخلّت الخطّة عن الضريبة الموحّدة لكلّ مصادر الدخل والتصاعدية، التي وردت في المسوّدة الأولى وتعدّ إصلاحًا أساسيًا لأي نظام ضريبي، واستبدلتها بزيادة المعدّلات على أنواع الدخل المختلفة، فيما لم تبحث بأي إجراءات أخرى تحدّ من التفاوتات الاجتماعية وانعدام المساواة. أيضاً يتميّز هذا النظام بكونه غير هادف ولا يتدخّل لتأمين الحقوق الاجتماعية من طبابة مجّانية وسكن ونقل عام، أو تصحيح التشوّهات الاقتصادية وتوجيهها نحو أهداف تسمح بزيادة النموّ والإنتاجية والتنافسية، وهو ما لم تتطرّق له الخطّة أيضًا على الرغم من كونه يشكل مدخلاً أساسيًا لحماية المجتمع في ظلّ الأزمة القائمة وتحفيز الاقتصاد الراكد والنهوض به.

بإيجاز تقول لنا “الورقة الحكومية” بأن هناك خسائر مُترتبة وعجوزات متراكمة ناجمة عن إفلاس النظام السياسي الاقتصادي القائم منذ أكثر من ربع قرن، وهي تعمد إلى توزيع أكلافها، وتدعونا إلى تحمّل المزيد من الآلام خلال السنوات الخمس المقبلة لنخرج من الأزمة، من دون أن يكون واضحاً إلى أي دولة سنخرج وأي مجتمع وأي اقتصاد.

 

إنشاء شركة عامّة لإدارة الأصول

ألبير كوستانيان، (خبير اقتصادي وزميل باحث في السياسات العامة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت)

تبرز الخطّة أبعد من عنوانها المالي، فتظهر كبيان سياسي يسعى إلى إقناع أكبر عدد مُمكن من أصحاب المصلحة في الداخل والخارج، إذ تتضمّن عددًا لا يحصى من “الإعلانات” الجيّدة وكذلك السيئة منها لتحصيل كلّ ما يمكن الحصول عليه، بما يقوِّض تماسكها على الرغم من التشخيص الصلب المُقدّم واقتراحات الإصلاح المطروحة.

وشركة إدارة الأصول العامّة المقترحة ضمن الخطّة هي إحدى هذه التدابير، ويبدو أنها أدرِجت غبّ الطلب وتحتاج إلى الكثير من التوضيح. يُطمح من خلال هذه الشركة إلى تعويض الدين المتبقي على المصرف المركزي لصالح المصارف التجارية بعد إعادة الهيكلة، عبر استخدام الإيرادات التي ستنتج عن إعادة هيكلة الأصول المملوكة من الحكومة. هذا الطموح مشكوك فيه، في أحسن الأحوال، لأنه قد يؤدّي إلى نقل الثروة من الأكثرية إلى القلّة. حيث انه سيتمّ تمويل الأصول المملوكة من الدولة، إمّا من دافعي الضرائب والمشتركين، في حالة الكهرباء وشركتي الخلوي على سبيل المثال، أو من المستخدمين مثل شركة الميدل إيست أو كازينو لبنان أو الريجي. وبما أن خسائر المصارف التجارية سيتحمّلها المساهمون والمودعون أصحاب الثروات العالية، وفقًا لخطّة الإصلاح، فإن أي استخدام لعائدات الأصول المملوكة من الدولة للتخفيف من خسائر القطاع المصرفي، يمكن اعتبارها بمثابة دعم غير مباشر للفئات “الأغنى” من قبل قاعدة واسعة من دافعي الضرائب والمكلفين.

وتبدو مهمّة الشركة المقترحة ملتبسة إذ تنصّ الورقة الإصلاحية: “ستُكلف الشركة العامّة لإدارة الأصول بإعادة هيكلة الشركات العامّة الموجودة في محفظتها”. هذا الأمر ليس كافيًا لتحديد استراتيجية الشركة العامّة لإدارة الأصول التي سيتم ائتمانها على أصول الأفراد إذ  يمكن أن يكون لخطّة إعادة الهيكلة أهدافًا متضاربة تخدم أغراضًا مختلفة. قد تسعى إلى تحقيق الحدّ الأقصى من الدخل والتدفّق النقدي للشركات المُدارة لتلبية التحويلات الهامّة إلى مصرف لبنان على حساب المستخدمين والمواطنين على سبيل المثال، في حين تسعى الكيانات العامّة إلى توفير سلع عامّة فعّالة للناس بأسعار معقولة.

يجب أيضًا مراعاة ديناميات واحتياجات المؤسسات المختلفة وخصوصًا لناحية إعادة الهيكلة. إذ لا يمكن تطبيق طرق الإدارة نفسها على كل المؤسسات، وعليه يمكن خصخصة بعضها على المديين القريب والمتوسّط، مثل شركتي الخلوي، فيما يقدّر الإبقاء على الملكية العامّة لمؤسّسات أخرى كمرافق النقل.

ان حصر الصلاحيات في ظل النظام الطائفي الزبائني اللبناني ينشئ مكمنًا واحدًا للفشل بدل توزيع المخاطر عبر اللامركزية

إلى ذلك، تشكّل الخيارات بين إعادة هيكلة الأصول العامّة وخصخصتها مصدر قلق جدّي. عمليًا، لا يشمل التفويض الممنوح للشركة المقترحة القيام بالخصخصة، كما أنه يحدّد فترة 10 سنوات لإعادة الهيكلة والانتفاع من الأصول. لكن هل سيحول ذلك دون القيام بأي خصخصة خلال هذه الفترة؟ إذا كانت الإجابة نعم، فإن ذلك سيحدّ من خيارات الحكومات المقبلة. وإن لم يكن الأمر كذلك، فقد يعني أن شركة إدارة الأصول العامّة قد تخاطر بضمّ أصول أقل جاذبية مع مرور الوقت، بافتراض أنه سيتم خصخصة الأصول الأخرى، في تناقض مع هدفها الأولي المتمثّل بتخفيف  أعباء المصرف المركزي الناجمة عن خسائره. علاوة على ذلك، ومن منظور مالي خالص، تستغرق مشاريع إعادة الهيكلة بعض الوقت لتحقيق نتائج، وتتطلب استثمارات كبيرة في مرحلتها الأولية. نتيجة لذلك، يمكن أن يكون الوضع النقدي للشركة سلبيًا في السنوات الأولى بعد إنشائها، وهو ما يطرح المزيد من الشكوك حول الجدوى منها.

إقرأ على موقع 180  تحديات أوروبا الخارجية.. إخفاقات بالجملة (1)

على صعيد الحوكمة، تقدّم الخطّة الإصلاحية كلمات طنّانة مثل “الأفضل ضمن فئتها” و”الخبرة الدولية” و”الدروس المستفادة”. لكن ذلك لا يكفي للتخلّص من الشكوك المشروعة حول كيفية إدارة هذا الكيان الذي سيكون رئيسيًا في المشهدين السياسي والاقتصادي اللبنانيين. ان حصر الصلاحيات في ظل النظام الطائفي الزبائني اللبناني ينشئ مكمنًا واحدًا للفشل بدل توزيع المخاطر عبر اللامركزية.

“من المفهوم أن الشركات المملوكة من الدولة ستحافظ على استقلاليتها طوال العملية”، هذا ما يرد في الجملة الأخيرة من الفقرة المخصّصة لشركة إدارة الأصول العامّة ضمن الورقة الإصلاحية. وهو ما يتعارض مع جميع “الدروس المستفادة” من “الخبرات الدولية” “الأفضل ضمن فئتها”، التي تتطلّب سيطرة كاملة ومباشرة لفريق إعادة هيكلة على الكيان الذي تتم إعادة هيكلته، وهذا يثير المزيد من الشكوك حول جدّية الاقتراح بأكمله.

 

زيادة تنافسية الاقتصاد اللبناني

خليل جبارة، (أستاذ وخبير في الشؤون الإداريّة والاقتصاد السياسي والتنمية المحليّة والسياسات العامّة، وزميل باحث في السياسات العامة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركيّة في بيروت)

تضمنت الخطة قسمًا أساسيًا لعرض أفكار تتعلق بإطلاق ورشة إصلاحية هيكلية تهدف الى تطوير بيئة الأعمال وتعزيز تنافسية الاقتصاد اللبناني ورفع إنتاجيته. وأعادت الحكومة في خطتها التذكير بما وعدت به في بيانها الوزاري من التأكيد على أهمية مكافحة الفساد والإجراءات التي ستتخذ في هذا الإطار خصوصًا بعد أن صوّت المجلس النيابي على قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد.

الهدف من هذا القسم في الخطة هو تحديد معالم خريطة طريق واضحة لبرنامج شامل من الإصلاحات الهيكلية التي تساهم في تأمين نموًا مستدامًا يكسر المسار الذي كان معتمدًا في السنوات الماضية، حسب ما ورد في الخطة بالإضافة إلى تحسين ترتيب لبنان في تقرير التنافسية العالمي.

تعتمد معظم هذه الأفكار والإجراءات المقترحة على وضع تشريعات جديدة أو الدفع باتجاه التصويت على مشاريع قوانين تمّ العمل عليها في السابق. هذا بالإضافة إلى تنفيذ العديد من الخطط والمشاريع التي تمّ وضعها في السابق، وهي ذُكِرت في الورقة الحكومية التي قُدّمت في مؤتمر سيدر عام ٢٠١٨، وتضمنت العديد من الإصلاحات الأفقية وفي التقرير المقدم من شركة ماكنزي الذي تضمن ١٦٠ توصية تهدف إلى النهوض بالاقتصاد اللبناني.

تعتبر العديد من هذه المشاريع والاستراتيجيات مهمة جدًا مثل استراتيجية التحول الرقمي واستراتيجية مكافحة الفساد التي تقدم بهما مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية في العام ٢٠١٨ وتمّ تحديثهما في العام ٢٠١٩. إلا أن البعض من هذه المشاريع والخطط بحاجة إلى إعادة تحديث كمشروع تحديث نظام إدارة الأراضي التي أشارت الخطة إلى أنه تمّ إعداده من قبل وزارة المالية والبنك الدولي بينما هو معلوم أن البنك الدولي جمّد تمويل هذا المشروع بسبب عدم استطاعة مجلس النواب التصويت على القرض المخصّص لتمويل هذا المشروع في الوقت المناسب.

إن الشكوك بقدرة الحكومة في تأمين مصادر تمويل لهذه المشاريع التي من المفترض أن تنعش الاقتصاد عامة والقطاع الخاص خاصةً يشكّل التحدي الأساسي

الملفت للإنتباه في هذه الخطة هو كثرة الوعود التي تصبّ تحت خانة ضخ سيولة في الاقتصاد اللبناني، إن كان من خلال دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة أو دفع المستحقات للمتعهدين ومقدمي الخدمات أو من خلال دعم قطاعات حيوية، دون توضيح مصادر تمويل هذه الوعود. كما ذكرت الخطة أنها ستعتمد على مصادر تمويل من مؤسسات دولية أو من خلال صندوق “الأوكسيجين” الحيوي للاقتصاد اللبناني الذي يساهم به مصرف لبنان والذي لم يطلق علمًا أنه كان من المفترض أن يبصر النور في شهر نيسان/أبريل الماضي. ومن غير الواضح أيضًا دور المصارف الخمس الجديدة التي تنوي الحكومة الترخيص لها لتأمين مصادر تمويل لهذه المشاريع المختلفة. إن الشكوك بقدرة الحكومة في تأمين مصادر تمويل لهذه المشاريع التي من المفترض أن تنعش الاقتصاد عامة والقطاع الخاص خاصةً يشكّل التحدي الأساسي لهذه الخطة ويطرح تساؤلات جديّة حول فرص نجاحها.

من الملفت للإنتباه أيضًا في هذه الخطة أن تحفيز القطاع الخاص ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة سيكون على حساب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وديمومته وعافيته. فقد ذكرت الحكومة في خطتها بأنها ستعمل على تخفيض رسوم الضمان الاجتماعي للموظفين حديثًا دون ٣٠ سنة، وستعمل على تأجيل مدفوعات الصندوق لمدة ستة أشهر. إن هذه الخطوات غير المدروسة والتي لا تأتي ضمن استراتيجية متكاملة لحماية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تشكل خطرًا على استمرارية الصندوق بتأدية مهامه خصوصًا في ظل تخلّف الدولة عن سداد مساهمتها في الصندوق لسنوات عديدة والعجز المالي المستمر في فرع ضمان المرض والأمومة وانكشاف فرع نهاية الخدمة الخطير على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية.

 

إصلاح قطاع الكهرباء

علي أحمد، (باحث زميل في شؤون الطاقة والتنمية في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت)

يصعُب التعليق على “الجوانب التقنية” في الجزء المتعلّق بقطاع الكهرباء من الخطة الحكومية، لسبب جوهري وهو انعدام ثقتنا العميق بالسلطة السياسية وقدرتها على إحداث أي تغيير حقيقي في هذا القطاع. بتسطيح شديد، تخبرنا الخطّة أن المشكلة ستحلّ بمجرّد زيادة التعرفة وخصخصة مؤسّسة كهرباء لبنان، التي ألمحت لها مواربة من دون أن تذكرها صراحة. وهذا ما يستدعي ان نتوجس من هذا السرد التبسيطي المُتعمّد.

طالما لم يحصل أي تغيير سياسي هيكلي، يؤدّي إلى تغيير في ثقافة إدارة وتشغيل الخدمات العامّة، مثل الكهرباء، لن تكون الخطط والعلاجات والمساعدات الخارجية فعّالة

ألا يستحق الاستنزاف المُنتظم للموارد العامّة في قطاع الكهرباء مزيدًا من الاهتمام، وقد ساهم بمفرده بنحو نصف العجز المالي خلال العقد الماضي؟ كان يمكن للحكومة الاجتهاد قليلاً وتقديم حلول أكثر ابتكارًا بدلًا من تكرار وعود الإصلاح الفارغة نفسها. وماذا عن المساءلة؟ إلّا إذا كان مبلغ الـ40 مليار دولار الذي أنفق على قطاع الكهرباء منذ العام 1992 ضئيلاً وغير مؤثّر على اقتصادنا المتعثر.

كان بإمكاني استخدام هذه المساحة للدعوة إلى إجراء الإصلاحات في قطاع الطاقة واتباع الحوكمة الصحيحة واللجوء إلى الطاقة المُتجدّدة، كما فعلت على مدى السنوات القليلة الماضية، لكن في الواقع أصبح الموضوع مضيعة للوقت إذ يسقط على آذان غير صاغية منذ سنوات. في الحقيقة، هذا الوضع القائم في مؤسّساتنا والأشخاص الذين يرأسونها هو خيار مجتمعي قائم على المحسوبية التي لا يزال معظم اللبنانيين يقبلون بها. لذلك، طالما لم يحصل أي تغيير سياسي هيكلي، يؤدّي إلى تغيير في ثقافة إدارة وتشغيل الخدمات العامّة، مثل الكهرباء، لن تكون الخطط والعلاجات والمساعدات الخارجية فعّالة.

 

في المكون الاجتماعي

أديب نعمة، (خبير اقتصادي ومستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر)

قد نسارع إلى القول أن المكوّن الاجتماعي في الخطة ضعيف جدًا، وهذا صحيح كونها لا تتضمن خططًا وإجراءات من شأنها تحسين الوضع الاجتماعي. لكن من منظور كلّي، الصورة مختلفة حيث أن التأثير الاجتماعي لخطة الحكومة المالية شديد القوة، ولكنه في غير محله، حيث ينحاز في غير صالح الفئات الشعبية ومحدودي الدخل. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى ثلاث نقاط تدعم هذا الاستنتاج، وردت أو غابت عن الخطة.

أولًا، الخطة الحكومية في تركيزها على البعد المالي تعوّل على تعويض الخسائر الكبيرة المتراكمة من خلال المساعدة الخارجية ومن خلال سياسات داخلية. هذه الأخيرة تتضمن بوضوح عناصر تقشفية شديدة جدًا، تشمل خفض دخل المواطنين من خلال تدهور سعر صرف العملة الوطنية، الأمر الذي يخفّض القدرة الشرائية (وترى فيه الخطة عاملاً إيجابيًا لأنه يخفّف الاستيراد وبالتالي العجز في الميزان التجاري)؛ كما تشمل الاقتطاع من تعويضات التقاعد والمدخرات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وصناديق التعاضد وفي القطاع العام المدني والعسكري؛ وكذلك مراجعة نظام التعويضات هذه لاعتباره شديد الكرم. كما تتضمن الخطة إصلاحًا للقطاع العام أساسه تقليص عدد الموظفين وصرف تدريجي أو عدم استبدال لمن يبلغ سن التقاعد، مما يعني المزيد من البطالة (مصدرها القطاع العام) إضافة إلى البطالة الناجمة عن الانكماش الاقتصادي وعن تعثّر المصارف واحتجازها ودائع المواطنين. إذن هذه خطة سوف تزيد الفقر وتدهور مستوى المعيشة وتزيد البطالة، وهذا ينضوي على مضمون اجتماعي سلبي شديد القوة.

خطة الحكومة لديها مضمون اجتماعي تقشّفي يزيد الإفقار والبطالة، وتتجاهل المقاربة التكاملية مع الأزمة الاجتماعية التي يجب التعامل معها بذاتها

ثانيًا، لا تشير الخطة إلى أيّة إجراءات خاصة ببعض الفئات محدودة الدخل والتي خسرت أو ستخسر قسمًا كبيرًا من مدخراتها. التركيز كبير على الحفاظ على الودائع وحقوق المودعين الصغار. لكن نسبة اللبنانيين الذين لديهم حسابات مصرفية (حسب تقرير البنك الدولي العالمي عن التضمين المالي) تقارب 45% والباقي ليس لديه حسابات مصرفية. كما أن الخطة لا تتضمن أية إشارة إلى المحافظة على المدخرات في الصناديق الضامنة التي هي بالليرة اللبنانية والتي فقدت اليوم حوالي 60% من قيمتها. كما لا تتناول الخطة التعليم والصحة والسكن وبدلات الإيجار وحماية العمل، وغيرها من القضايا الأساسية في الشأن الاجتماعي وإنما خطوطًا عامة يجري تطويرها لاحقًا. تركز الخطة فقط وحصرًا على التوازن المالي، والمصارف والنقد، من منظور المصالح أكثر منه من منظور الحق.

ثالثًا، ما يرد من إجراءات ضريبية يبقى جزئيًا ودون المطلوب لا سيما مع اختلاط رفع الضرائب المباشرة جزئيًا مع رفع الضريبة على القيمة المضافة أيضًا. أما المشروع الوحيد الذي له طابع اجتماعي بالمعنى التقليدي، فهو ما يندرج في إطار ما يسمى شبكات الأمان الاجتماعي، ويقتصر على برنامج للمساعدة النقدية للأسر الفقيرة (200 ألف أسرة كحد أقصى) سوف يشرف عليه البنك الدولي، ويموّل من خلال قرض بحوالي 580 مليون دولار. وهذا التدخل معزول وجزئي، وهو ينطلق من موقف مسبق يعتبر أن المدخل الوحيد هو من خلال برنامج دعم الأسر الأشد فقرًا حيث يراد مضاعفة المستفيدين من الدعم المالي المباشر (أو بطاقة المواد الغذائية) عشرة أضعاف. وثمة إصرار غريب على هذا المشروع، وكأن الهدف هو إثبات صحّة الموقف المسبق والنظام السابق، أكثر من الاستجابة للحاجات المستجدة، والتي تتميز بكونها تتجاوز مفهوم برامج مكافحة الفقر المدقع، حيث أن الوضع الحالي هو صدمة قوية أدت الى فقدان العمل وفقدان الدخل، وتوسّع الفقر حاليًا إلى ما يزيد عن 50% من الأسر على الأقل، ولا يصحّ معها برامج الاستهداف من هذا النوع. يرتّب هذا ضرورة الانتقال إلى منظور جديد يقوم على بناء نظام متكامل للحماية الاجتماعية على أساس منظور الحق، ومن خلال حزمة خدمات متكاملة، ومعايير تتجاوز قياس الفقر المدقع أو الفقر الغذائي. وكل ذلك ليس على جدول الأعمال.

بهذا المعنى، فإن خطة الحكومة لديها مضمون اجتماعي تقشّفي يزيد الإفقار والبطالة، وتتجاهل المقاربة التكاملية مع الأزمة الاجتماعية التي يجب التعامل معها بذاتها، لا باعتبارها مرة أخرى مجرد ملحق ثانوي الأهمية لخطة مالية لن تؤدي سوى إلى تفاقمها مع إجراءات جزئية لا تنفع حتى كمسكنات مؤقتة.

هل لبنان محكوم بالذهاب إلى صندوق النقد أم هناك خيارات أخرى؟

زياد عبد الصمد، (المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية)

كثيرون يدعون إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدة التقنية والقروض وتوفير السيولة الضرورية لتشغيل الدولة كحل أخير بعد أن تأخّرت الحكومات المتعاقبة عن معالجة الأوضاع قبل تفاقمها. لكن شروط الصندوق قاسية ولها تبعات مؤلمة اجتماعيًا وسياسيًا، وهي بكل الأحوال معروفة، فالصندوق سبق وتقدم بتقرير إلى الحكومة في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2017 اقترح فيه اعتماد التدابير التقشفية لخفض عجز الميزانية العامة والحدّ من الهدر ومحاربة الفساد، بالإضافة إلى تحرير سعر الصرف وتقليص النفقات العامة والدعم الاجتماعي، وزيادة الواردات عبر رفع الضريبة على الدخل والقيمة المضافة وفرض رسوم جديدة.

وفي الخطة الحكومية المقترحة ما يحاكي هذه الشروط مع توجّه واضح يدعو إلى تقليص القدرة الاستهلاكية لدى المواطنين لتخفيض فاتورة الاستيراد وإعادة التوازن إلى الميزان التجاري، لكن ذلك يؤدي إلى انكماش اقتصادي ويضاعف الحاجة إلى الاستدانة مجددًا مع تضاؤل احتمالات وصول تحويلات واستثمارات من الخارج.

لا حلول جذرية قبل تشكيل حكومة من شخصيات سياسية مستقلّة تتمتع بالكفاءة وبالحسّ الوطني والأخلاقي وبالجرأة اللازمة، تستعيد ثقة المواطنين والمستثمرين والمجتمع الدولي بلبنان وبنظام الحكم فيه

لقد أدى تفشي الفساد السياسي إلى إهدار مئات مليارات الدولارات التي تدفقت إلى لبنان خلال العقود الماضية لاسيما بين عامي 2008 و2010، ولم تتخذ الحكومات المتعاقبة أي تدبير للاستفادة منها ولتدارك الانهيار برغم كل التحذيرات التي تلقتها. وقد بدأت المؤشرات تدلّ على تردّي الأوضاع منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011، وتفاقمت عام 2016 عندما قام مصرف لبنان بأول هندسة مالية لدعم مصارف متعثّرة والحصول على العملة الأجنبية من السوق المحلي لتمويل عجز الدولة ودفع الديون المستحقة. لا بل على العكس، فقد ساهم نظام المحاصصة في احتدام الأزمة من خلال تمركز الثروات بيد القلّة النافذة نتيجة الاحتكارات والمضاربات غير الشرعية واستخدام النفوذ، فما هي الضمانة بأن لا تسيء الطبقة السياسية نفسها في ظل نظام المحاصصة ذاته سوء استخدام الأموال وإهدارها مجددًا في حال توصلت المفاوضات مع الصندوق إلى اتفاقية؟ علمًا أن الحكومة في خطتها وضعت في الحسبان احتمال عدم التوصّل إلى اتفاق مع الصندوق، فاقترحت بالمرفق الثاني بيع الأصول واللجوء الى خصخصة المؤسسات العامة، ما يطرح مجددًا موضوع الثقة بالسلطة السياسية القائمة بأن تقوم هي بهذه العملية بالشفافية المطلوبة.

لا يبدو أن حلولاً جذرية ستحصل قبل القيام بتشكيل حكومة من شخصيات سياسية مستقلّة تتمتع بالكفاءة وبالحسّ الوطني والأخلاقي وبالجرأة اللازمة، تستعيد ثقة المواطنين والمستثمرين والمجتمع الدولي بلبنان وبنظام الحكم فيه، على أن تُعطى صلاحيات تشريعية استثنائية تبحث عن حلول أقل كلفة ولا تفقد لبنان سيادته على خياراته المالية والاقتصادية أو تتولى هي التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وفق أولويات وطنية تخدم مصالح الشعب العليا دون سواها في حال غياب الخيارات الأخرى.

(*) ينشر موقع 180 هذه الدراسة بالتزامن مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  فرنسا اللبنانية.. بصافرة سعودية ولغة أميركية!