مناورات القوة الناعمة في أوروبا.. “حاصِر حصارَكَ.. لا مفرُّ”

اغتيل طاقم صحفي فلسطيني بأكمله بضربة واحدة بعد 5 ساعات من مؤتمر بنيامين نتنياهو الصحفي. ستُندّد الأمم المتحدة وستنزل الجماهير الآن إلى الشوارع حاملة صور أنس الشريف ومحمد قريقع وسنمضي بمشاعر العار والخزي والاحتفاء بانهيار الواجهة الأخلاقية لإسرائيل على المسرح العالمي، في وقت تُذرف فيه دموع التماسيح في الفضاء الدولي على غزة، وتلمّح ألمانيا ودول أخرى في أوروبا الغربية إلى تغييرات طفيفة (ومشروطة) في تجارتها بالسلاح مع إسرائيل، إلى حدّ يجعل أي "مقاطعة" مجرّد حركة خطابية فارغة!

ننهمك، وربما بشغف مبالغ فيه، في متابعة جرأة الجماهير في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا؛ وفي خضم ذلك، نغفل مراراً وتكراراً عن المناورات الأكثر خبثًا التي يحيكها العدوّ، والتي تتشكل هذه المرة في دول البلطيق. ففي ظل الضوضاء العالمية حول الأخلاقيات وقشور فعل المقاطعة وفرض العقوبات، تواصل إسرائيل بصمت، راسمة معالم ما بعد الغد.

ففي خلال زيارته الرسمية إلى ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا بين 3 و6 أغسطس/آب 2025، دفع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بأجندة اقتصادية وصناعية شاملة لتعميق التعاون الثنائي والإقليمي. هذه المرة، يسعى هرتسوغ إلى فكّ ارتباطه بالسفينة الأم في أوروبا الغربية والتوسع في “سوق البلطيق” كبديل محتمل.
وكانت المحطة الأبرز منتدى ليتوانيا–إسرائيل للأعمال والعلوم في فيلنيوس، حيث وُقّعت ثلاث اتفاقيات تعاون رسمية: شراكة بين هيئة الابتكار الإسرائيلية والمجلس العلمي الليتواني لدعم البحوث المشتركة، اتفاق بين اتحاد الصناعيين الإسرائيليين واتحاد الصناعيين الليتوانيين لتسهيل المشاريع في مجالات الطاقة والدفاع والذكاء الاصطناعي، واتفاق تجاري بين معهد التصدير الإسرائيلي وغرفة تجارة وصناعة وحرف ليتوانيا.

هذه التحركات بُنيت على مبادرات سابقة، منها منتدى الابتكار الدفاعي بين إسرائيل وليتوانيا في أبريل/نيسان 2025، الذي جمع نحو 15 شركة دفاعية إسرائيلية و40 شركة تصنيع ليتوانية، إضافة إلى ممثلين عن “الناتو” والوكالات الحكومية، لاستكشاف التكامل بين التكنولوجيا العسكرية والمدنية.

في لاتفيا، تزامنت زيارة هرتسوغ مع مبادرات لتعزيز التجارة الثنائية، أبرزها افتتاح بعثة تجارية لاتفية في إسرائيل. وأكّد الرئيس اللاتفي إدغار رينكيفيتش على أهمية فرص التعاون في مجالات التكنولوجيا والعلوم والصناعة.

أما مع إستونيا، فقد بلغ حجم التجارة عام 2023 نحو 81 مليون دولار، مدعومًا باتفاقيات لحماية الاستثمارات وتجنّب الازدواج الضريبي. كما شملت المشتريات الدفاعية الإستونية من إسرائيل منظومات صواريخ “سبايك LR” المضادة للدروع وصواريخ “بلو سبير” المضادة للسفن، وهو ما يعكس العمق الاستراتيجي للتعاون الصناعي بين الطرفين.

بشكل عام، رسّخت هذه الجولة انخراط إسرائيل مع دول البلطيق كمنصّة للدبلوماسية الاقتصادية القائمة على قطاعات الابتكار الصناعي والتكنولوجي، بدمج التعاون التكنولوجي مع الشراكات الدفاعية ضمن استراتيجية إقليمية تبدو معالم تماسكها بيّنة.

***

تأتي هذه الجولة بعد تلويح بعض الدول الاوروبية بتغيير علاقاتها التجارية مع اسرائيل، فيما تتزايد مناورات القوة الناعمة لدول أوروبية أخرى؛ سواء عبر مسرحيات السخط البرلماني في إيطاليا وفرنسا، أو افتعال مشهديات احتجاجية في دول أخرى. ففي النمسا مثلاً تُستخدم منظمات مثل “أمنيستي النمسا” والحزب الشيوعي النمساوي (المدافعين عن حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها ووجوب تحرير الرهائن الصهاينة دون قيد أو شرط – راجع المقال السابق) إضافة إلى ائتلاف أحزاب يهودية؛ كقطع شطرنج بيد الحزب الاشتراكي النمساوي الممسك بالسلطة. يقوم الاشتراكيون بهذه المناورة لزيادة اللبس المستشري في فضاء الرأي العام وتوظيفه لبناء مشروعيّة شعبية تسوّغ التدخل في السياسات المتعلقة بفلسطين لاحقاً وتلك المتعلقة بالقوى المعادية للصهيونية ضمن الدولة عبر طمس وجودها أو ربما تباعاً خندقتها ككتل متطرفة وإرهابية (أنظر مقال “دير شتاندر“). ركوب موجة الخطاب المناهض للإبادة هو أسلوب مدروس لترويض الغضب الشعبي، في ما يمكن وصفه بالثورة المضادة (وإن كانت ظاهرة الاحتجاجات لا ترقى لثورة بعد إلا أن اللفظة تُعبّر عن المناورات الاستباقية للسلطات الحاكمة).

وسط كل هذه الجلبة، تعمل إسرائيل بهدوء على تأمين “قبة حديدية” أخرى (الأولى هي الدول العربية وأسواقها) في البلطيق، أو بالأحرى ضمان تشغيلها وصيانتها. وكالعادة، نظلّ نحن متأخرين مئة خطوة، منجرفين في دوامة مصطنعة أخرى: الدولة الفلسطينية؛ الشعار الذي يُرفع في مجلس الأمن منذ الشهر الماضي (بدفع فرنسي سعودي). عليه، حان الوقت أن ننظر مباشرة في عين فخّ “الدولة الفلسطينية”؛ وأن نفهم، معًا ما يعنيه ضمن تمرحليات الإبادة.

لنخطُ خطوة إلى الوراء في أدبيات تاريخ القرن العشرين: مكافحة التمرد (Counterinsurgency).

إن الحصار الممنهج لشعب وعزله عن العالم ومراقبته على مدار الساعة، ما هو إلا استنزاف مدروس للبنية البيولوجية والاجتماعية لهذا الشعب. يُمثّل الحصارالمرحلة الأولى من استراتيجية معقّدة ومتعددة المسارات لفعل الإبادة. هذه المرحلة لا تسعى إلى الانهاك البنيوي وحسب، بل تعمل على بناء الاقتصاد الداخلي للمجتمع المحاصر، بحيث يُعاد تشكيل السوق الداخلية للمجتمع ليُصبح بحد ذاته أداة للاستنزاف فالهيمنة، وتتحول الطبقة التجارية إلى وسيط متعاون، تعمل بدورها على هندسة شروط البقاء وتفاوتاتها بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية لتصبح أداة للتفتيت الاجتماعي الذاتي للمجتمع المحاصر. يعني، السوق بتُجّاره هو ثمرة سياسات الحصار وهو بمثابة حزام ناسف يُشغّل ذاتياً من قبل المجتمع من دون وعي بذلك عادة.

ومع تعمّق الحصار واشتداد التصفيات العسكرية المباشرة، تُسَعِّر القوى المهاجمة عمدًا ظروف المجاعة والحرمان، بهدف تقليص الفئة القادرة على العمل وإضعاف الناجين جسديًا وتجريدهم من مقومات الصمود ببعده البيولوجي الصرف. هذا ما يصفه باحثو الإبادة بالمرحلة ما قبل الأخيرة من الإبادة، حيث تُدمّر أبدان السكان ويستحيل استمرار صراع البقاء بشكله الحيوي الصرف. إذن هو الحصار فالهجوم العسكري فالإطباق الاقتصادي الطبقي من الداخل فالتجويع – حد سحق القوة البدنية.. وفي ثنايا هذه المراحل هناك مستهدف مميّز، الجسد الفلسطيني القادر والمؤدلَج في آن أو ما نسميهم بالطلائع وبعبارة أخرى “المتمردين”، وهي في لغتنا العربية اشارة للمقاومين أو من يُمكن أن يتحول إلى مقاوم. عذراً لكثرة الاصطلاحات الرديفة لكنها أساسية في ترجمة أدبيات المستعمِر لنفهمها بحذافيرها.

إقرأ على موقع 180  مراكز التفكير في لبنان.. ضرورة أم ترف فكري؟

يساعد هذا الاستنزاف الجسدي والبنيوي للشعب المحاصر ولمقاومته (القوى المتمردة وفقا لأدبيات الاعداء) في تمهيد الطريق إلى الفصل الثاني من الإبادة وهي “اختراق الحركة المتمرّدة” تمهيدًا لـ”تثبيت الآلية السياسية الادارية” التي ستحكم الشعب وتتحكم بقدرته التقريرية: أي فرض جهاز أو بنية حاكمة تستطيع احتواء التعب الشعبي والتداعي الجسدي، حيث يُراقب السكان في مسعاهم لاسترجاع حولهم، ويُكشف المتمرّدون، ويُشلّ ما تبقى من قدرة الشعب على الفعل السياسي سواء الخطابي أم الميداني.

هذه المراحل الأخيرة—الاختراق والتوريط الجماهيري نحو الشلل السياسي—هي جوهر عقيدة “مكافحة التمرّد” (Counterinsurgent tactics).

تُطبق هذه العقيدة عادة في مرحلة ما بعد وقف اطلاق النار من خلال منظمات إنسانية للغوث إلى أن يتحول السوق إلى بنى ريعيّة تعتمد على حقن عينية وماليّة من الخارج. وبسبب الضعف والهزال في الأوساط الشعبية، يرضخ معظم الجمهور أما من لا يرضخ فتسهل ملاحظته وبالتالي تصفيته بأشكال شتى. وأما على المستوى الدولي فيُنظر إلى هذه المنظمات الغازية للسوق على أنها “أفضل من استمرار القتل الجماعي”، وعليه هي الواجهة الأخلاقية التي لا مفر منها، فيرضخ الجمهور الدولي لا سيما ذاك الذي كان يتظاهر ضد الإبادة، وتتحوّل شرائح متعاظمة فيه إلى موظفين ضمن هذا الاقتصاد الزبائني المميت حيث يستطيعون أن ينتشوا بـ”خدمتهم” المزعومة للشعب “المنكوب”.

لهذا تنادي دول العالم بدولة فلسطينية، لأنها الإطار السياسي الإداري الوحيد الذي يُساعد في بلوغ هذا الطور الخطير والأساسي في الإبادة ودونه قد تتدهور قدرة الغزاة على التحكم بمشهد ما بعد وقف اطلاق النار. الهدنة بالنسبة إليهم هي الأسلوب الوحيد للتحكم وتثبيت منجزات القتل الجماعي والتجويع، وهذا هو سبب تزايد الضغوط الأوروبية على الوكيل الاستيطاني (إسرائيل) لقبول وقف إطلاق النار والانتقال من طور التصفية العسكرية الجماعية المباشرة إلى مكافحة التمرّد بشكله الزبائني.

فالدولة الفلسطينية بأي شكل أتت تبقى استراتيجية احتواء كما كانت في اتفاقية أوسلو. إنها عملية تحويل القضية الوطنية إلى كيان مُدار، مُراقَب، ومُحايد سياسيًا، بما يطفئ آخر أشكال المقاومة الممكنة. والآن هي ليست أداة احتواء وحسب بل هي مرحلة أخرى من مراحل القتل الجماعي واغتيال بنية الوعي العالميّة، وبالتالي مُوجّهة للعالم كمادة تخديرية للوعي أكثر مما هي موجهة للفلسطيني.

بالطبع تتردد إسرائيل حالياً؛ ولذلك، تبدو كأنها تتمرد على أوروبا في قراراتها لكن حقيقة الأمر تتمثل في وجود تباين في التحليل ضمن حكومة الحرب الواحدة. بعض الأصوات الإسرائيلية تقول إن مرحلة مكافحة التمرد ستكون مستحيلة مع هذه البقعة من الأرض الفلسطينية (غزة)، ويرى بعض القادة الآخرين، مثل رئيس الاستخبارات السابق عاموس يادلين أن وقف إطلاق النار ضرورة للانتقال إلى هذه المرحلة، لأن الاحتلال المباشر لغزة سيكون باهظ الثمن وخطيرًا.

لكن بعيداً عن العصيان الإسرائيلي لأوامر الأم الأوروبية وأسبابه، لا بد أن نتذكر نحن الرازحين خارج أرض المعركة أن “القضية”، كما يفهمها أعداؤنا، ما هي إلا تناقض غير محلول، ، يجب حله في شكل مؤسساتي ثابت وضمن سوق تبعية صلبة تحت رايات إنسانية فضفاضة. هكذا تجري إزالة “القضية” من الوعي الجمعي المتمرد والحيلولة دون تحوّلها إلى أداة من أدوات الوعي الطبقي والتمرد المحلي ضد حكومات الغرب.

وحين تُعلن وزيرة خارجية النمسا كارين كنايسل أن “الطابع الفلسطيني لغزة” يجب الحفاظ عليه، فإنما تطرح رؤية استراتيجية تُمكّن نخب الكومبرادور من إدارة أسواق ما بعد التمرّد وضمان الخضوع طويل الأمد للسكان، وإتمام تصفية كل القوى المتمرّدة أو المحتمل أن تقود التمرد.

بعض الفلسطينيين، في الداخل والخارج، رحّبوا بأصوات الهيئات الدولية والمنظمات الحقوقية التي تدعو إلى دولة فلسطينية ووقف إطلاق النار. يُمكن فهم هذا الترحيب على أنه نابعٌ من أمل بأن يُدمَج جزء من الشتات الفلسطيني كطبقة كومبرادورية جديدة في النظام الذي سيُفرض على غزة بعد الحرب.

ما أريدُ قوله هو أنه من الواجب علينا أن نناضل ضد منح هذه المسارات أية شرعية وإن كان ذلك يبدو خيارًا مثقلًا بالمجهول وبأسى الموت، علينا أن نُحارب سياسات مكافحة التمرد، علينا ألا نكون جزءاً منها، علينا أن نعصي قواعد الغد. علينا أن نكون يقظين لأشكال الفصل الجديد من الإبادة، إلى اشكال اقتصاد الغوث، لأن أعداءنا كثر وكثر ويتكاثرون ومنهم من يأتي إلينا بكوفيات على أكتافه أو خطابات تفيض بإنسانية جوفاء.

للإبادة مراحل وتمرحلات وللحصار بقاع أكبر من ميدان المعركة وأعداؤنا كُثُرٌ وكُثُر ويتكاثرون بوسع ميدان المعركة.. وما علينا إلا أن “نُحاصَر حصارنا.. لا مفرُّ”.

(*) راجع مقالات الكاتبة في 180 بوست.

Print Friendly, PDF & Email
مايا نشأت زبداوي

باحثة فلسطينية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أممية النيوليبرالية.. وفولكلوريات العزة الوطنية