خسائر السياحة والسفر
قرّرت جزيرة صقلية في ايطاليا دفع نصف ثمن تذكرة السفر إليها، ونسبة من فاتورة الفندق، وتقديم تذاكر مجانية للمتاحف والمواقع الأثرية، لتشجيع السياح على زيارتها بعد انتهاء إجراءات العزل التي تفرضها الحرب على فيروس كوفيد-19. قد يبدو هذا الخبر ساراً لمحبي السياحة وللتواقين إلى عودة الحياة إلى سابق عهدها، لكنه يشي بأن تعافي المناطق السياحية من الشلل الذي أصابها لن يكون سهلاً، وقد يكون مكلفاً في المرحلة الأولى، علماً بأنّ السلطات في جزيرة صقلية خصصت نحو 50 مليون يورو لتمويل خطة النهوض بالسياحة بعدما خسرت نحو مليار يورو خلال شهرين فقط، هما آذار/مارس ونيسان/أبريل.
أكثر التوقعات تفاؤلاً، تشير إلى أن الطلب على السفر لن يعود إلى طبيعته قبل مرور 18 شهراً على الأقل ما يعني أن الشركات العاملة في مجال السياحة والسفر أو الطيران، ستعاني من ضعف الإيرادات أو انعدامها في موازاة الاستمرار في تسديد التكاليف الثابتة من عمالة، وإيجار أبنية، وفوائد قروض، وصيانة خاصة بالطائرات.
في ظل هذ الواقع، إنهارت شركة الطيران الوطنية في جنوب إفريقيا، وكشفت وكالة بلومبيرغ أن الشركة تقترب من إعلان إفلاسها بعد 86 عاما من التحليق في الأجواء، بعدما سرّع انتشار الفيروس من انهيارها وعاق كل جهود الإنقاذ التي تقوم بها.
وطلبت شركة أفيانكا، ثاني شركات الطيران في كولومبيا، وضعها تحت قانون الحماية من الإفلاس في الولايات المتحدة من أجل إعادة هيكلة ديونها “بسبب التأثير غير المتوقع” لجائحة كوفيد-19.
وتكبدت شركة الطيران الإثيوبية خسائر صافية بنحو 550 مليون دولار وفق ما كشف رئيسها التنفيذي تيولدي جبرماريام، وأضاف في مقابلة مع مجلة “بيزنس لايف” الإلكترونية أن الشركة تعمل بنسبة 10٪ فقط من طاقتها الجوية بسبب ضعف الطلب في ظل انتشار الفيروس.
أما المجموعة الفرنسية-الهولندية “إير فرانس – كا ال ام” Air France – KLM فأعلنت عن خسارة صافية قدرها 1,8 مليار يورو خلال الرّبع الأول من عام 2020، ووضعت توقعات قاتمة جدًّا للربع الثالث من العام.
شركات الطيران في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (تشغّل أكثر من 1300 طائرة) ستخسر أربعة وعشرين مليار دولار ما قد يعرّض 800 ألف وظيفة للخطر
وكان الاتحاد الدولي للنقل الجوي “إياتا”، الذي يمثّل 290 شركة طيران في العالم، قد حدّث توقعاته لخسائر شركات الطيران على مستوى العالم، وأعلن في نيسان/ابريل الماضي أن الخسائر الاجمالية المتوقعة ارتفعت من 252 مليار دولار إلى 314 مليار دولار، أما شركات الطيران في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (تشغّل أكثر من 1300 طائرة) فستخسر أربعة وعشرين مليار دولار ما قد يعرّض 800 ألف وظيفة للخطر.
وبدأ الحديث عن إجراءات إستثنائية، ستتخذها المطارات وشركات الطيران في المرحلة المقبلة، لطمأنة الركاب إلى إجراءات السلامة العامة والصحة وتشجيعهم على السفر من جديد، بإشراف منظمة الصحة العالمية (WHO) ومنظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) واتحاد النقل الجوي الدولي (IATA) وأبرز هذه الإجراءات:
- إلزامية التسجيل عبر الإنترنت (Online Check-In) للحد من الاتصال المادي بين الزبائن وموظفي شركات الطيران أو شركات السياحة والسفر.
- إلزامية تقديم ما يسمى جواز السفر المناعي (Immunity passport) الذي يحصل عليه الأفراد بعد إجراء الفحوصات اللازمة للتأكد من وجود الأجسام المضادة لفيروس كورونا المستجد وغيره من الفيروسات المعدية وسيكون مشابهًا إلى حد كبير لبطاقة الحمى الصفراء المستخدمة عند السفر إلى المناطق الاستوائية الرطبة خلال فصل الصيف.
- إلزامية الوصول إلى المطار قبل 4 ساعات على الأقل من موعد المغادرة للخضوع لتشخيص صحي أولي عند باب المطار والمرور بأنفاق للتعقيم وماسحات حرارية.
- إلزامية وضع الأمتعة في أكياس على أن تتم عملية تعقيمها بالأشعة فوق البنفسجية في ممر مخصص لذلك، وتسليم القفازات والأقنعة للركاب لارتدائها خلال الرحلة.
- تحديث كاميرات المراقبة الأمنية بحيث تستطيع الكشف عن الوجوه حتى مع وجود أقنعة.
- إلزام جميع أفراد طاقم الطائرة بارتداء معدات واقية والتحقق من أن جميع الركاب يرتدون القفازات والأقنعة الخاصة بهم عند الصعود إلى الطائرة.
- على كل راكب أن يمسح مقعده بمناديل يوزعها طاقم الطائرة.
- يجلس الركاب متباعدين (قد يُترك مقعد فارغ بين الراكب والآخر) باستثناء أفراد الأسرة الواحدة.
- يحصل جميع الركاب على وجبة معبّأة ومختومة مسبقًا لمنع أي فيروسات من دخول الطعام.
- وقف التعاملات النقدية على متن الطائرة، ووقف تشغيل الشاشات التي خلف كل مقعد، وترك جيوب المقعد فارغة من أي مجلات أو بطاقات أو أوراق.
- إمكانية اعتماد نظام الممرات الجوية لفترة موقتة بحيث تحدد كل دولة الوجهات المسموح السفر منها وإليها، إستناداً إلى توافقها مع المعايير الصحية.
قرية التجارة
قد تتفكك “قرية” التجارة الحرة العابرة للقارات التي نشأت منذ نحو ثلاثة عقود في ظل الأزمة الاقتصادية التي يجمع الخبراء والباحثون على أنها مشابهة لتلك التي حدثت عام 1929 وعُرفت بالكساد العظيم.
جائحة كوفيد-10 لم تأتِ إلى عالم يعيش أحسن أيامه ولا سيما في مجال التجارة إذ تواجه أوروبا تبعات قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست” فيما يواجه أكبر اقتصادين في العالم، أي الولايات المتحدة والصين، حرباً تجارية سلاحها الرسوم الجمركية المرتفعة.
ومع ضعف حركة الشحن الجوي والبحري والبري في ظل الجائحة تراجعت حركة التجارة عالمياً بنسبة 13% بحسب تقديرات منظمة التجارة العالمية التي قالت إن تحقيق تعاف سريع هو أمر بعيد المنال وإنها تتوقع انخفاضاً بنسبة 32٪ حتى نهاية عام 2020.
وقد تسعى الشركات بعد الخسائر التي تتكبدها حالياً إلى الانطواء داخلياً واتباع نهج يعتمد على الإنتاج والتوزيع والربح في نطاق جغرافي ضيق كوسيلة أكثر أماناً من الانفتاح العالمي الهش الذي تبين أنه قد يجلب معه أمراضاً تميت الإنسان في غضون أيام وساعات، فيما قد تسعى الحكومات إلى إعادة بناء سلاسل الإنتاج والإمداد الداخلية، لا سيما في المجالات الحيوية للأمن القومي، كالغذاء والدواء والمعدات الطبية والحد من تصدير المكونات الحيوية، من خلال فرض الرسوم على تصديرها أو زيادة القيود الأخرى.
قد تسعى الشركات بعد الخسائر التي تتكبدها حالياً إلى الانطواء داخلياً
لعل المستفيد الأبرز من الأزمة الراهنة هم عمالقة التجارة الإلكترونية الذين شهدوا زيادة هائلة في الطلبات ضمن حدود بلد المنشأ (ليست طلبات استيراد أو شحن) مع لجوء المستهلكين المعزولين إلى شبكة الانترنت لتأمين حاجاتهم اليومية.
وبينما كانت البورصات الدولية تهبط في منتصف آذار/مارس الماضي، شهدت أسهم عملاقي التجزئة الأميركيين “وولمارت” و”أمازون” تراجعاً طفيفاً ومؤقتاً. وتوقعت وكالة “بلومبرغ” أن تخرج شركة “أمازون” من أزمة كورونا أقوى من أي وقت مضى، ولا سيما أن عملها لم يعد مقتصراً على بيع الكتب بل تعداه إلى السلع المنزلية والمنتجات الأخرى عبر الاتصال بمتاجر البقالة Whole Foods .
وقالت أمازون في بيان رسمي: “نشهد زيادة في التسوق عبر الإنترنت، ونتيجة لهذا الأمر فقد نفدت بعض المنتجات مثل المواد الغذائية المنزلية واللوازم الطبية”.
وبلغ رواج الطلبات على “أمازون” الحد الذي جعل الشركة تعمل على إضافة 100 ألف وظيفة جديدة للتعامل الطلبات الجديدة.
أما مجموعة “علي بابا” الصينية العملاقة للتجارة الإلكترونية فأكدت أن الفيروس أضر بالإنتاج في الصين، نظرا لعدم قدرة العمال على العودة إلى أعمالهم وتغيير أنماط الشراء وتراجع الإنفاق، غير ان الشركة أكدت أنها تستطيع الصمود بعدما حققت ارتفاعا في إيراداتها خلال الربع الأخير من عام 2019 بنسبة 38% إلى 23.1 مليار دولار.
“علي بابا” ذهبت إلى ما هو أبعد من التجارة، وأعلنت أنها طورت تقنية للتعرف على الفيروس، خلال 20 ثانية وبدقة تصل إلى 96 % بالاعتماد على صور الأشعة المقطعيّة Computed tomography. وستُستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي أولاً في المتاجر التي تديرها شركة “علي بابا” على أن ينتقل استخدامها لاحقاً إلى محطات القطارات والمستشفيات.
العالم الجديد
الاقتصاد العالمي بعد كورونا ليس كما قبله. رغم ضبابية المشهد المستقبلي وصعوبة تحديد موعد انتهاء الأزمة، يؤكّد الباحثون والخبراء أنّ تحوّلات جذرية ستطرأ بعد انحسار الجائحة. أبرزها:
– تغيير في الوظائف: بحسب مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، العديد من الوظائف المفقودة لن تعود بتاتا لأن التغييرات في الطلب، بسبب الاضطراب الاقتصادي الذي أحدثته الجائحة، ستبدّل التكوين المستقبلي للناتج المحلي الإجمالي وقد تنخفض حصة الخدمات الشخصية المباشرة في تجارة التجزئة، والضيافة، والسفر، والتعليم، حيث ستؤدي الرقمنة إلى تغييرات في طريقة تنظيم هذه الخدمات وتقديمها. في المقابل سيزداد الطلب على وظائف الخدمات الأساسية، مثل الشرطة، والدفاع المدني، والعمل في مراكز الرعاية الصحية…
– تعميق الاختلالات القائمة: بحسب معهد بيترسون للاقتصاد الدولي قد تفاقم الجائحة مشكلة الركود مع عزوف الناس عن المخاطرة والاتجاه نحو المزيد من التوفير، بالإضافة إلى اتساع الفجوة بين الدول الغنية والدول النامية أو الفقيرة من ناحية قدرتها على مواجهة الأزمات، ولجوء الحكومات إلى “القومية الاقتصادية” والانغلاق اقتصادياً على بقية العالم.
– عولمة جديدة: بحسب كيشور محبوباني، الباحث في معهد آسيا للبحوث التابع لجامعة سنغافورة، فإن جائحة كوفيد-19 ستسرّع من التغيير الذي بدأ بالفعل، وهو الانتقال من العولمة التي تقودها الولايات المتحدة إلى عولمة تقودها الصين.
– عودة الحدود: بحسب جوزيف ستيغليتز، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة كولومبيا الحائز على جائزة “نوبل” في الاقتصاد، فإن الجائحة ستقود إلى الاعتماد على الذات بعدما اعتاد بعض الاقتصاديين على الاستهزاء بدعوات البلدان لمتابعة سياسات الأمن الغذائي أو الطاقة بحجة أنّ الحدود غير مهمّة في زمن العولمة وأنّه يمكنهم دائماً اللجوء إلى بلدان أخرى في حال حدوث أي شيء داخل بلادهم. بيد أنّ هذه الجائحة أثبتت فجأة أهميّة الحدود، وباتت الدول تتمسك بمواردها من الأقنعة والمعدات الطبية، وتكافح من أجل الحصول على الإمدادات.