لا يريد أحد في الجمهورية اللبنانية أن يتحمل مسؤولية الفراغ الحكومي، وبالتالي إنزلاق لبنان، يوماً بعد يوم، نحو المجهول السياسي والأمني والإقتصادي والمالي. ثمة خارج يتربص بكل تفاصيل الواقع اللبناني المُدوّل، وهذا الخارج له مطالبه وحساباته، ولا يريد أحد من السياسيين أن يظهر بمظهر المعرقل للمبادرات الخارجية وتحديداً المبادرة الفرنسية. في الوقت نفسه، لا يريد السياسيون أنفسهم أن يحمّلهم الرأي العام اللبناني مسؤولية الواقع الراهن المتردي، ولا ما سينتج عن رفع الدعم وضيق الخيارات من إرتدادات ستزيد الواقع الإجتماعي قتامة وبؤساً. لذلك، صار تأليف الحكومة العتيدة عبارة عن لعبة رفع عتب ومسؤولية عن هذا وذاك، ولو بعناوين مختلفة، ما يؤدي إلى النتيجة نفسها، أي التفاهم غير المباشر على تأجيل ولادة الحكومة.
بطبيعة الحال، هناك من يصر على الجزم أن العقدة الحكومية خارجية بالكامل، وفي الوقت نفسه، ينبري من يتحدث عن “عقدة لبنانية بإمتياز”، إذا تبددت، يمكن للحكومة أن تولد سريعاً. الأدق هو الجمع بين العقدتين الداخلية والخارجية. كيف؟
نحن نتحدث عن حكومة من 18 وزيراً. إذا تم إعتماد المعايير الموحدة، فنحن قاب قوسين وأدنى من ولادة الحكومة، أي أن توزع وزراء الطوائف الإسلامية التسعة وحقائبهم (بإستثناء وليد جنبلاط) صار محسوماً. في المقابل، لم يُحسم أمر توزع الوزراء الذين سيمثلون الطوائف المسيحية. كيف؟
أدى تمسك ثنائي حركة أمل ـ حزب الله بإعتماد معيار موحد إلى تمهيد الطريق التفاوضي بين بيت الوسط وبعبدا. يقضي المعيار الموحد بأن يسمي “الثنائي” الوزراء الشيعة الأربعة، وللحريري أن يضع الفيتو على أي إسم مقترح. أقصى التساهل أن يسمي رئيس الحكومة المكلف بعض هذه الأسماء، ويترك لـ”الثنائي” حق الفيتو إلى أن يتم التفاهم على الأسماء الأربعة، وفي ذلك إقتراب كبير إلى الصيغة التي نادى بها الرئيس نبيه بري خلال مفاوضاته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زمن تكليف السفير مصطفى أديب.
يريد باسيل الثلث المعطل له وحده (وزراء التيار والطاشناق السبعة)، أي لن يقبل بأن يقال له خمسة (أو ستة) وزراء لك زائد 2 لحزب الله يشكلون معاً الثلث المعطل!
النقطة العالقة مع جنبلاط تتصل بالحقائب وليس بالإسم. يصر الزعيم الدرزي على إسناد حقيبة خدماتية أساسية لوزيره من أصل الوزارات الخدماتية الست (الأشغال، الصحة، التربية، الإتصالات، الطاقة، والعدل)، اي أنه يرفض إسناد أية وزارة سيادية (تحديداً الخارجية) له، ولو أنها مصنفة في خانة “فئة الخمس نجوم”، وقد وعده الحريري بإيجاد “مخرج ما”، ولذلك، حاذر رئيس الحزب الإشتراكي التحدث عن تفاصيل ما جرى بينه وبين الرئيس المكلف خلال مقابلته الأخيرة مع “الجديد”.
دخل أكثر من وسيط على خط تبادل الرسائل بين الحريري وجبران باسيل، وأبرزهم رجل الأعمال علاء الخواجة. صولات وجولات أحرزت تقدماً لكنها لم تصل إلى حد التفاهم. أدى إعتماد المعيار الموحد إلى جعل جبران باسيل يسمي معظم الوزراء المسيحيين، لكن ذلك لم يكن كافياً لأن يبدد الخلاف بينهما حول أكثر من نقطة.
أولاً، يصر رئيس التيار الوطني الحر على أن يسمي هو ورئيس الجمهورية سبعة وزراء مسيحيين “على الأقل” من أصل تسعة، أي يريد أن يضمن “الثلث المعطل” قبل أن يقول مرحبا لسعد الحريري.
ثانياً، يرفض باسيل “الفيتو الدولي” على تولي “التيار” وزارة الطاقة، وذلك على قاعدة أن ما يحق للشيعة (تمسكهم بحقيبة المالية) يحق له. وقد نجح علاء الخواجة في فتح كوة بين الرئيس المكلف وباسيل عبر صيغة غير نهائية تضمن عدم خروج هذه الحقيبة من حصة “التيار” ولكن بشرط أن لا يعيد تكرار تجربة “الوزير ـ المستشار”، وأن يجري التفاهم مسبقاً مع الفرنسيين على الإسم خاصة وأن الورقة الفرنسية تضمنت إشارة إلى عدم إسناد الطاقة إلى التيار الحر (ما زال الأمر قيد التفاوض ولكن مع إستعداد حريري أكبر للتنازل).
هاتان النقطتان طرحتا إشكاليات عديدة وفق التوزيع الأخير الذي إعتمده الحريري وسلمه إلى رئيس الجمهورية، على أن يخضع للنقاش مجدداً يوم الأربعاء المقبل. بموجب صيغة الرئيس المكلف، تتوزع المقاعد المسيحية التسعة على الشكل الآتي: وزير لتيار المردة مع حقيبة خدماتية أساسية، وزير للحزب السوري القومي الإجتماعي بحقيبة غير أساسية، وزير ثالث يكون من حصة رئيس الحكومة مع حقيبة خدماتية أساسية (الإتصالات التي قرر الحريري التمسك بها طالما كُسرت المداورة على أن يُسمي لها وزيراً مسيحياً)، فيكون إجمالي حصة الرئيس المكلف خمسة وزراء (يضاف إليهم الوزير الدرزي، أي بلا ثلث معطل، علما أن رئيس الحكومة يشكل وحده الثلث المعطل طالما أنه في حال إستقالته تعتبر حكومته مستقيلة حكماً وحتماً).
هل يمكن أن يؤدي هذا المسار إلى تنازل أحد الطرفين، اي الحريري وباسيل؟
هذا المناخ الفضائحي المتبادل، إن دلّ على شيء، إنما على إستعداد بعض السياسيين إلى أخذ البلد إلى مناخ من التوتر الطائفي والمذهبي والسياسي بعنوان فضفاض إسمه “محاربة الفساد”، وهو مناخ يمكن أن ينزلق في أية لحظة من اللحظات إلى حدود الإشتباك وإستعادة مناخ الحرب الأهلية
وفق المعطيات الراهنة، لا يبدو أن الرجلين مستعجلان للحسم قبل العشرين من كانون الثاني/يناير 2021، تاريخ إنتهاء ولاية دونالد ترامب. لماذا؟
فعلياً، صار سعد الحريري أسير معادلة صعبة مزدوجة الأبعاد:
داخلياً، لا حكومة برئاسته من دون حزب الله.
خارجياً، لا حكومة إلا من دون حزب الله!
إذا تجرأ الحريري وقرر القفز فوق وقائع الداخل، لن يستطيع أن يشكل حكومة أو يحكم. بالمقابل، إذا تحدى “الفيتو” الأميركي المفروض على توزير حزب الله (حتى بعنوان وزيرين إختصاصيين غير حزبيين)، لن يتردد الأميركيون في إستخدام سلاح العقوبات ضده. ثمة إشارة إلى أن فريق ترامب بدأ يستشعر أن الحريري يراهن على الوقت للتملص من إلتزاماته، كما كان يحصل بينهم وبين باسيل، لذلك، يضغط هذا الفريق الأميركي من أجل تأليف الحكومة بأسرع وقت ممكن لكن بشروطه. يلتقي هذا الفريق بشكل غير مباشر مع الدفع الأوروبي وتحديداً الفرنسي للتسريع بولادة الحكومة قبل أن يتوجه ماكرون إلى بيروت في زيارة هي الثالثة له منذ إنفجار مرفأ بيروت في آب/اغسطس الماضي.
ومثلما يبدو الحريري محرجاً جداً، تشي كل المعطيات أن باسيل يرفض أن يقدم أي تنازل حتى لأقرب حلفائه. لعل الإشارة الأكثر نفوراً هي قوله لهؤلاء الحلفاء بالفم الملآن: لست أثق بأحدٍ منكم، وتحديداً حزب الله. لذلك، يريد الثلث المعطل له وحده (وزراء التيار والطاشناق السبعة)، أي لن يقبل بأن يقال له خمسة (أو ستة) وزراء لك زائد 2 لحزب الله يشكلون معاً الثلث المعطل!
بالمقابل، إذا رفض الحريري التجاوب مع باسيل، فهذه هي النتيجة التي يتمناها رئيس التيار الوطني الحر. لماذا؟
الجواب تقدمه “غرفة الأوضاع” في اللقلوق (مقر إقامة رئيس التيار الحر). هذه الغرفة وظيفتها التسلل من خرم إبرة حكومة تصريف الأعمال إلى قلب القضاء من أجل إشغاله بعشرات الملفات التي تخص تيار المستقبل، حركة أمل، الحزب التقدمي الإشتراكي، تيار المردة، نجيب ميقاتي، قيادة الجيش، قيادة قوى الأمن الداخلي، رياض سلامة، وكل حزب أو شخصية تضع “الفيتو” على باسيل مرشحاً لرئاسة الجمهورية أو “تشوش” على هذا الخيار.
هذه “الغرفة” تشي بأن رئيس التيار الحر قرر قلب الطاولة: ما بعد العقوبات الأميركية ضدي لن أترك ملفاً إلا وسأفتحه وليستدعي القضاء كل المرتكبين والفاسدين والمتورطين. “عليَّ وعلى أعدائي يا رب”. هذه الظاهرة إستدعت إستنفاراً من آخرين بدأوا بنبش ملفات باسيل وكل وزراء التيار أو المحسوبين عليهم في الإدارات والمؤسسات العامة (بدأت بعض المواقع بنشر ملفات وزارة الطاقة).
هذا المناخ الفضائحي المتبادل، إن دلّ على شيء، إنما على إستعداد بعض السياسيين إلى أخذ البلد إلى مناخ من التوتر الطائفي والمذهبي والسياسي بعنوان فضفاض إسمه “محاربة الفساد”، وهو مناخ يمكن أن ينزلق في أية لحظة من اللحظات إلى حدود الإشتباك وإستعادة مناخ الحرب الأهلية طالما يضمن ذلك مصالح هذا الطرف أو ذاك.
بالنسبة إلى جبران باسيل، هذه لحظة ذهبية. أي إستمرار مناخ تصريف الأعمال. صار الرجل ممسكاً برئاسة الجمهورية. بمعظم جهاز المخابرات في الجيش. بأمن الدولة. بوزارة العدل وبمواقع قضائية أساسية. بالمقابل، أية حكومة جديدة، ستفرض مناخاً مختلفاً وبالتالي سيكون من غير السهل المضي بـ”كسر القواعد” الذي عبّرت عنه الجلسة الأخيرة للمجلس الأعلى للدفاع.
هذه الوقائع تجعل باسيل وخصومه حالياً في حالة إشتباك سياسي ستتسبب بإحراجات كثيرة خصوصا لحزب الله الذي يعتبر أن أية محاولة للمس بـ”وحدة البيت الشيعي” هي بمثابة مس بـ”الأمن القومي لبيئته الحاضنة”. في الوقت نفسه، كان كلام جنبلاط الأخير عن “حرب إلغاء” جديدة تخاض هذه المرة ضده، بمثابة تحذير من أي مساس بقواعد السلم الأهلي في الجبل، خصوصاً أن “غرفة الأوضاع” دشّنت موسم الملفات بفتح ملف وزارة وصندوق المهجرين!
بين حسابات الحريري وباسيل المتضاربة في مكان والمتقاطعة في مكان آخر، هل يمكن الحديث عن ولادة حكومة لبنانية في القريب العاجل؟ للبحث صلة.