“بالنسبة لضباط المخابرات، يراودهم شعور بالخوف الإستثنائي في التخلي عن زملاء لهم ساعدوا في محاربة الأعداء المشتركين. يشعرون أيضاً بالخيانة الأخلاقية وبالثقة المحكمة وبانتهاك القواعد غيرالمكتوبة لـ”تجارة الإستخبارات”.
يشعر بعض كبار قادة الإستخبارات الأميريكيين والبريطانيين السابقين بصدمة الضمير حالياً، وهم يشاهدون محنة زميلهم سعد الجبري، ضابط المخابرات السعودي السابق الذي ساعد في بناء القدرات الإستخباراتية للمملكة العربية السعودية في مجال مكافحة الإرهاب، وهو قدم ما وصفها قادة الاستخبارات، معلومات إستخباراتية للغرب، في مجال مكافحة الإرهاب، لا تقدر بأي ثمن.
وقال خالد، نجل سعد الجبري، وهو طبيب أخصائي في أمراض القلب يعيش مع والده في تورنتو في كندا، خلال مقابلة مع “واشنطن بوست” إن اثنين من أشقائه الأصغر سناً، وهما عمر (21 سنة)، وسارة (20 سنة)، اعتقلا وسُجنا في منتصف آذار/مارس من قبل نظام ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يشار إليه غالبًا باسم (mbs) كوسيلة ضغط لإجبار والدهم على العودة إلى المملكة من المنفى في كندا.
عمّم حلفاء ولي العهد الاتهامات: الجبري يعرف عن سرقة أموال تشغيلية من قبله ومن قبل راعيه ولي العهد السابق محمد بن نايف الذي خلع، كما إتهم بأنه متعاطف مع الإخوان المسلمين.
إختراقات بالجملة لتنظيم “القاعدة”
يرفض خالد الجبري هذه الاتهامات، ويقول “هذه مزاعم باطلة ولا أساس لها، ولدينا الدليل على أن دوافعها سياسية. ومهما كانت الادعاءات التي يقدمونها، لا شيء يبرر احتجاز الأولاد كرهائن. ورفض سعد الجبري التعليق، وكذلك عدد من المسؤولين السعوديين تم الإتصال بهم مساء يوم الخميس الماضي.
يعتقد أصدقاء الجبري أنه على الحكومات الغربية التي ساعدها الجبري على مر السنين الماضية أن تسارع لمساعدته الآن. يقول مسؤول أمني بريطاني سابق، متحدثًا للعديد من زملائه: “من منطلق معنوي وأخلاقي، من واجبنا مساعدته في وقت الشدة”.
وقال مايكل موريل، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في عهد الرئيس باراك أوباما، عن الجبري في رسالة نصية هذا الأسبوع: “ما يحدث له ولعائلته خطأ”. لقد أنقذ عمله حياة السعوديين والأميركيين، في المملكة وخارجها. كنت أئتمنه على حياتي وحياة عائلتي. لا أستطيع أن أصدق أنه سوف يفكر يوماً بالتآمر ضد حكومته”.
وعبر جورج تينيت، الذي شغل سابقاً منصب مدير وكالة المخابرات المركزية خلال إدارتي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، عن ثقته بالجبري. وقال تينيت في مقابلة: “لقد كان شخصاً صلباً للغاية”. وقد عمل تينيت مع الجبري، بدءًا من عام 2003، لبناء نظام أمني سعودي حديث يكون قادراً على محاربة تنظيم “القاعدة” واختراق صفوف فرعه الإرهابي في اليمن. أيضاً، ساعد الجبري في الإشراف على جهود إختراق شبكة لتنظيم “القاعدة” في شبه الجزيرة العربية في العام 2010 كانت تخطط لإرسال قنابل مخفية في محابر طابعات الكومبيوترعلى متن طائرات أميركية.
ويقول المسؤولون الأميركيون والبريطانيون السابقون في مكافحة الإرهاب إن الجبري، بإشرافه على هذه العملية والعديد من العمليات الأخرى، ساعد في إنقاذ المئات – وربما الآلاف – من الأرواح. ويضيف هؤلاء أن الجبري في القتال ضد “القاعدة”، كان أحد الأبطال العرب. الآن، هو وعائلته هدف حملة وحشية غير مفهومة، والحكومات الغربية لا تفعل ما يكفي للمساعدة.
حقيقة الجبري الأمنية
سعد الجبري، 61 عامًا، ينتمي إلى عائلة سعودية ثرية ومترابطة. كان شرطيًا يتمتع بكفاءة غير عادية في علوم الكومبيوتر. توفي والده عندما كان صبياً في حائل، وهي بلدة صحراوية شمال غرب الرياض. ولأجل المساعدة في إعالة أسرته، التحق بأكاديمية للشرطة السعودية، ثم ذهب للعمل كضابط شرطة في الطائف بالحجاز. درس اللغة الإنجليزية ومواضيع أخرى في أوقات فراغه، وفي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حصل على درجة الماجستير في علوم الكومبيوتر في كلية سعودية بالظهران. ثم ساعد في تأسيس برنامج علوم الكومبيوتر في كلية الملك فهد الأمنية بالرياض، حيث قامت وزارة الداخلية في المملكة بتدريب ضباطها المستقبليين.
ولأنه ظل مغرماً بعلوم الكومبيوتر، فقد واصل دراسة الدكتوراه في العام 1993 في جامعة أدنبرة التي تخرج منها عام 1997 متخصصاً في مجال الذكاء الصناعي. وكان يرغب بعد تخرجه بالعمل في شركة “أرامكو” لكن الأمير نايف، وزير الداخلية آنذاك، أراد أن يعمل هذا الطالب الموهوب معه ويدرس في الكلية الأمنية.
ومنذ ذلك الحين، ارتبط مصير الجبري بالأمير نايف وابنه محمد، الذي كان مساعدًا للوزير، ثم رئيسًا لجهاز مكافحة الإرهاب، ثم وزيراً وأخيرًا ولياً للعهد. محمد بن نايف، أو كما يُطلق عليه غالبًا (mbn) كان أيضًا، الى حين خلعه، المنافس الرئيسي لمحمد بن سلمان. تم اعتقال (mbn) في 6 آذار/مارس 2020، قبل 10 أيام من اختفاء نجلي سعد الجبري.
وعندما انضم الجبري إلى وزارة الداخلية السعودية، كانت تدار بطريقة محافظة ومتخلفة. وحاول الأمير نايف بناء توازن غير مريح بالمؤسسة الدينية وقام أسلوب إدارته على شراء الأوغاد بالمال. وخلق الدعم السعودي للحرب الأفغانية تياراً من الجهاديين الذين حاولوا استفزاز العائلة المالكة، وذلك حتى أيار/مايو 2003 عندما استهدفت “القاعدة” مجمعاً للعاملين الغربيين قتل فيه 35 شخصاً منهم 10 أميركيين.
سافر جورج تينيت، مدير وكالة المخابرات المركزية، إلى الرياض وحذر ولي العهد آنذاك الأمير عبدالله من أن العائلة المالكة والبلاد نفسها بخطر. أصبح السعوديون أخيراً جديين. بدأ (mbn) في إنشاء خدمة أمنية حديثة، تعرف باللغة العربية باسم “المباحث”. كان الجبري، بصفته رئيس اركان محمد بن نايف، الرابط الرئيسي للتواصل مع الغرب.
ساعد الجبري في بناء خدمة التحليل الجنائي الحديث، واستخراج البيانات، والمراقبة، وتبادل المعلومات والاتصال مع المخابرات الغربية ووكالات الأمن. تم إرسال 30 ضابط أمن سعودي شاب إلى بريطانيا للتدريب بمساعدة أحد أساتذة الجبري السابقين هناك.
ألقت المباحث القبض على شباب سعوديين متعاطفين مع تنظيم “القاعدة”، ولكن بدلاً من مجرد قمعهم في السجن، أطلقت لأجلهم برنامج إعادة تأهيل. وبدأت المباحث بالتحقيق في تمويل “القاعدة” باليمن. وقام رجال الجبري بتجنيد متعاونين من المجتمع اليمني الكبير بالمملكة. وكتب جورج تينيت في مذكراته (سنواتي في وكالة المخابرات المركزية) في العام 2007 إن العالم “ليس آمناً بعد ولكنه أكثر أمناً اليوم اليوم لأن السعوديين بدأوا بإتخاذ إجراءات قاسية”.
وذكر مسؤول بريطاني كبير عمل عن كثب مع الجبري خلال مقابلة بعد إصلاحات 2003 “فجأة صرنا نتعامل مع مجموعة مهنية حصلت على دعم سياسي. سعد هو الشخص الذي وفر الروابط التي جعلت الأمور تحدث”.
أنشأ الجبري وراعيه محمد بن نايف “منازل جزئية” لإعادة تأهيل الشباب الجهاديين. عمل مارك سيجمان، الذي كان آنذاك ضابطًا صغيرًا في وكالة المخابرات المركزية، كطبيب نفسي، في تطوير برامج مكافحة الإرهاب هذه، وذلك عن كثب مع الجبري. يتذكر سيجمان “كان (الجبري) يتعامل مع الحقائق، لا مع التحيزات”.
بالنسبة لتنظيم “القاعدة” وفروعه، أصبح محمد بن نايف وكبار مساعديه أهدافًا. وبحسب خالد نجل الجبري، فقد نجا سعد الجبري من محاولة اغتيال عام 2005 من قبل تنظيم “القاعدة” في شبه الجزيرة العربية عندما تم القبض على القتلة المحتملين في مرآب للسيارات أثناء قيامهم بتغيير لوحات سياراتهم والاستعداد للهجوم. وجاءت محاولة اغتيال أخرى ضد الجبري في العام التالي. وأصيب محمد بن نايف نفسه بجروح بالغة في هجوم في أغسطس/آب 2009 شنه انتحاري من تنظيم “القاعدة” في شبه الجزيرة العربية، وتردد أنه خبأ المتفجرات في ناحية حساسة من جسمه.
أدرك الجبري في وقت مبكر أنه حتى عندما حاربت المملكة “القاعدة”، فإنها كانت تواجه تهديدًا أكثر خطورة من إيران على نفطها. تصف برقية “ويكيليكس” في نيسان/ أبريل 2007 لقاء (للضابط السعودي السابق) مع مسؤولي السفارة الأميركية، حيث واصل الجبري “إبلاغ قلقه العميق بشأن التهديد الذي تشكله إيران على البنية التحتية للبترول في المملكة العربية السعودية”.
لعبة العرش
في لعبة العرش السعودي، فإن الناس العاديين مثل الجبري يصعدون ويهبطون مع رعاتهم الأمراء الملكيين، وهذه هي حقيقة النظام الملكي وأساس النهاية المأساوية للجبري. بعد تولي الملك سلمان العرش، عين الأمير محمد بن نايف ولياً للعهد، إلا أن الأخبار السيئة هي تعيين نجل الملك محمد بن سلمان نائباً لولي العهد. بدأت لعبة السلطة، ويتذكر خالد شعور والده الذي كان يتنبأ بالمشاكل القادمة. وقال الجبري لإبنه “لا أريد التورط في لعبة العرش” (غايم أوف ثرون).
واجه الجبري مشاكل جدية في التعامل مع محمد بن سلمان. أولاً، كان الجبري يعارض بشكل صريح قرار ولي العهد بشن حرب اليمن في آذار/مارس 2015. يتذكر خالد أن والده قال:”إذا ذهبت إلى الحرب فستكون مصيدة موت ومأزقا”. بعد خمس سنوات، يبدو أن السعوديين توصلوا إلى نفس النتيجة.
المشكلة الثانية هي أن محمد بن زايد، ولي أبو ظبي، كان يشك في الجبري، وفقا لعدة مصادر سعودية وبريطانية. فعندما زار محمد بن سلمان أبو ظبي في نيسان/أبريل 2015، حذره بن زايد من أن الجبري إسلامي وقد تكون له روابط سرية مع الإخوان المسلمين.
يرفض خالد الجبري هذا الإتهام ويقول “والدي مسلم متدين”. “إتهام شخص مستهدف من قبل القاعدة في شبه الجزيرة العربية بأنه عضو في تنظيم الإخوان المسلمين هو ادعاء مناف للعقل ومثير للسخرية”.
بدأ الشرخ عندما كان الملك سلمان يصطاف في المغرب خلال صيف العام 2015، وكان محمد بن نايف يحل محله كولي للعهد ويتصرف كملك. صادق بن نايف على رحلة للجبري إلى مقر المخابرات الأميركية في لانغلي في 2 تموز/يوليو. اجتمع الجبري بمدير الـ”سي آي إيه” جون برينان، وتوقف في طريق عودته في لندن حيث اجتمع بوزير الخارجية فيليب هاموند. ما دار في هذين الاجتماعين غير معروف إلا أن محمد بن سلمان شك في كونهما يؤشران إلى محاولة من محمد بن نايف للتآمر من وراء ظهره. وزادت مشاكل الجبري بعد شهر، عندما زار البيت الأبيض برفقة خالد بن سلمان، الذي كان الملحق العسكري في السفارة السعودية في واشنطن ـ ثم السفير لاحقاً ـ لمناقشة حرب اليمن (حالياً نائب وزير الدفاع). وسافر الجبري في آب/ أغسطس أيضاً إلى تامبا لمقابلة الجنرال لويد ج. أوستن، قائد القيادة المركزية الأميركية في ذلك الوقت. وقدم الجبري تقريرا عن الزيارة لمحمد بن نايف والديوان الملكي لكن ذلك لم ينل رضا محمد بن سلمان.
أعفي الجبري من منصبه في 10 أيلول/سبتمبر 2015 بعد عودة الملك سلمان ونجله محمد من زيارة لواشنطن واجتماعهما مع باراك أوباما. وترك الجبري العمل في الحكومة ولكنه بقي لمدة عامين مستشارا لمحمد بن نايف و”كان يعرف أن الأمور ستسوء”، كما يقول ابنه.
وفي 17 أيار/مايو 2017 وقبل زيارة دونالد ترامب إلى السعودية، ذهب الجبري في إجازة إلى بيته في تركيا ومن هناك هرب إلى تورنتو(كندا). وحاول السعوديون إستعادته بتهمة إساءة إستخدام الأموال في جهاز الاستخبارات لكن الكنديين رفضوا طلبهم، ولأنه عرف بالآتي، حاول الجبري إخراج معظم أبنائه الثمانية من المملكة ولكن ظل عدد منهم هناك.
الفدية عودة والدي”
هنا تصبح قصة مكائد القصر مأساة إنسانية.
في 18 حزيران/ يونيو 2017، وفقًا لنجل الجبري، خالد، تواصل محمد بن سلمان مع سعد الجبري في تورنتو. قال خالد إن جوهر الرسالة هو أن ولي العهد أراد عودة سعد الجبري إلى الحكومة وعرض عليه وظيفة أفضل من تلك التي كان يشغلها من قبل.
قرر الجبري التريث لبعض الوقت. وأخبر ولي العهد أنه سيعود بعد أسبوعين. غادر ابنه صالح المملكة العربية السعودية في ذلك اليوم، لكن المراهقين، عمر وسارة، كانا ينتظران تأشيرات الدخول للولايات المتحدة.
حدث الانقلاب في 20 حزيران/ يونيو. اختفى محمد بن نايف لمدة ثماني ساعات، وعندما خرج، أقسم الولاء لولي العهد الجديد محمد بن سلمان. كان عمر وسارة قد حجزا على متن رحلة جوية من الرياض في صباح اليوم التالي، أي في 21 حزيران/ يونيو، لكن تم إيقافهما في المطار ومنعا من مغادرة البلاد.
اتصل محمد بن سلمان بسعد الجبري مرة أخرى في أيلول/سبتمبر 2017، بعد أن نشر مقالاً يثني فيه على محمد بن سلمان لمواجهته إيران “بحزم”، بحسب خالد الجبري. طلب الجبري الإذن لأطفاله بالذهاب إلى المدرسة في بوسطن. لكن محمد بن سلمان قال إنه لا يمكنهما المغادرة إلا إذا عاد سعد الجبري إلى المملكة. لقد كانت مقايضة بالفعل.
بقيت العائلة صامتة لمدة سنتين ونصف. التحق عمر وسارة بالمدرسة في الرياض وحصلا على علامات جيدة. حاول مسؤولون أميركيون التدخل بهدوء في القضية، دونما نتيجة. محمد بن سلمان ما يزال يريد الجبري، وكان يستعد لزيادة الضغط.
هذا العام، في 6 اذار/ مارس، تم اعتقال محمد بن نايف. فكر الجبري: “سيأتي دور أولادي”، قال ابنه. لم يكن (والدي) مخطئا. بعد ثلاثة أيام، تم نقل الولدين إلى مكتب أمن الدولة وتم استجوابهما لمدة 90 دقيقة. وقال خالد الجبري، إن هدف الضباط، كان واضحاً: “على عمر وسارة إقناع والدي بالعودة إلى وطنه”.
في 16 آذار/مارس، في الساعة السادسة صباحاً، داهم العشرات من ضباط الأمن مجمع الأسرة في شمال شرق الرياض واعتقلوا عمر وسارة. تم نقلهم إلى مكان مجهول. لم يتم تقديم أية اتهامات. وقال خالد الجبري “إنهم رهائن”… و”الفدية هي عودة والدي”.
عائلة الجبري خائفة. تخشى لو تكلمت عن محنتها أن يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية. ولكن ماذا يمكنك أن تفعل عندما يحتجز أطفالك رهائن وتبدو الولايات المتحدة، صديقتك السابقة، غير قادرة على فعل شيء؟ يسأل خالد الجبري ويقول: “أبي وطني سعودي، وكان يشكل رصيداً عالمياً في الحرب على الإرهاب”. “لن يهدد أي شخص. لقد وضعنا في موقف لا خيار أمامنا سوى حماية أسرتنا بكل الوسائل الممكنة”.