بات اللبنانيون قيد الحصار. حصار كورونا. حصار بطالة لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه. حصار جامعات ومدارس مقفلة. المطار اليتيم المفتوح فقط أمام أسراب اللبنانيين الهاربين من ملاذات غير آمنة في مواجهة الفيروس الزاحف في كل إتجاه. المصارف التي تحتجز ودائع اللبنانيين بالعملة الصعبة. رواتب بالعملة الوطنية تنهار قيمتها. أسواق ومتاجر ومؤسسات مقفلة بالجملة. حالات إفلاس. شيكات بلا رصيد. سرقات قياسية في معظم المناطق اللبنانية. جوع. فقر. يأس. إحباط. إستعدادات واسعة للهجرة.
هل يمكن أن يشك عاقل في الجمهورية بأن كل عناصر نزول اللبنانيين إلى الشارع موجودة؟
الأسباب الموجبة للإحتجاج أكثر من موجودة. وكل أداء السلطة السياسية في مواجهة الكارثة الإقتصادية والمالية والإجتماعية، لا يبشر بتوفر إرادة للمعالجة، سواء بأدوات الخارج، لا سيما صندوق النقد، أو بأدوات الداخل، وهي تحتاج إلى إرادة سياسية أولاً، قبل الحديث عن بدائل متصلة بالعمق العربي الضروري للبنان.
كل ذلك يشي أن الحراك الشعبي تأخر عن موعده، لكن ما هي قصة هذا التبني المفاجىء للقرارات الدولية، وتحديداً القرار الرقم 1559؟
وللذاكرة فقط، ينص القرار المذكور على حل جميع الميليشيات ونزع سلاحها وإجراء إنتخابات رئاسية وإنسحاب جميع القوات الأجنبية. جرت الإنتخابات الرئاسية مرتين منذ صدور القرار 1559 في العام 2004؛ إنسحب الجيش السوري من لبنان قبيل 15 سنة، وبقي المطلب الأساس: نزع سلاح حزب الله.
هل رَفعُ هذا الشعار، يَفيد الحراك الشعبي في لبنان أم يُضرُّ بهِ؟
لا بد من تسجيل سلسلة من الملاحظات:
أولاً، لم يتوفر الإجماع اللبناني حول سلاح المقاومة، لا عندما شهرته أحزاب اليسار اللبناني في صيف العام 1982 ضد الإحتلال، ولا في سياق حقبة تم تتويجها بالتحرير في العام 2000، وإحتل حزب الله خلالها الموقع الأول في هذه المعركة. عملياً، الإجماع لم ولن يتوفر، طالما أن اللبنانيين منقسمون في خياراتهم الإستراتيجية، برغم مرجعية إتفاق الطائف، لكن من الواضح أن ظروف وثيقة الوفاق الوطني في العام 1989، وما كان ينبغي على لبنان أن يكون في تلك اللحظة، لم تعد تنطبق على لحظة الإشتباك الكبير بين الأميركيين والإيرانيين.
ثانياً، هذه هي المرة الأولى منذ 16 سنة، تتبنى مجموعات لبنانية، بمعزل عن أحجامها، القرار 1559، ولو أن البعض عمل له أو تبناه لكن في السر وليس في العلن. لو نجح الملتحفون بالقرار في التحشيد وملء الساحات كلها، تحت هذا العنوان، فإن هذا كان سيعني سحب مظلة من مظلات الأمان الوطني، وبالتالي دخول لبنان مرحلة جديدة، أخطر ما فيها محاولة إستدراج حزب الله للدفاع عن السلاح بالسلاح، كما حصل في أيار/مايو 2008، ولا تزال عبارة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الشهيرة محفورة في أذهان كثيرين عندما قالها في العام 2006 “سنعتبر أي يد تمتد إلى سلاحنا يداً إسرائيلية.. وسنقطعها”.
ثالثاً، ليس خافياً على أحد أن مواقف القوى السياسية الأساسية المعارضة لحزب الله، وتحديداً سعد الحريري زعيم تيار المستقبل ووليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي.. وإلى حد ما سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، وسامي الجميل رئيس حزب الكتائب، لا تضع موضوع السلاح على جدول أعمالها وتعتبر نفسها غير معنية بطرح هذه الشعارات في هذا التوقيت (طبعاً، غض حزبا القوات والكتائب النظر عن مشاركة مناصريهما)، لا بل إن سعد الحريري ذهب أبعد من رفاقه السابقين في 14 آذار/مارس، عندما حرّر نفسه وجمهوره من هذه القضية، وإعتبر أن سلاح حزب الله ليس مشكلة لبنانية بل مشكلة إقليمية، وبالتالي، فإن معالجته أيضاً هي مسألة إقليمية ودولية. يقود ذلك للإستنتاج أن المجموعات التي تطرح قضية السلاح محصورة، سواء أكانت جزءاً من مجموعات الحراك (حزب 7 نموذجاً ولو بصورة غير رسمية) أم بعض المجموعات السياسية، ويقف في طليعتها اللواء أشرف ريفي وبهاء رفيق الحريري وبعض المجموعات السلفية في الشمال. الأهم من نزول هذه المجموعات، هو من أعطاها الإشارة، وهل يحمل الأمر في طياته مؤشرات تتجاوز الساحة المحلية؟
رابعاً، ربطاً بالسؤال الأخير حول ما إذا كان تبني مطلب نزع السلاح هو مطلب هذه المجموعات أم أنه مطلب خارجي، يمكن الإفتراض أن الجهات الخارجية صاحبة المصلحة في تبني هكذا شعار تكاد تكون محصورة بثلاث دول: الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات العربية المتحدة.. هنا تتبدى فرضية تحاول تبرئة الدولتين الخليجيتين، ليس على قاعدة نواياهما الإيجابية، بل عدم إكتراثهما بالوضع اللبناني نهائياً في هذه المرحلة. لذلك، يصبح السؤال، ما هي مصلحة الأميركيين في هذا التوقيت بطرح موضوع السلاح وتصدره التظاهرات؟
يعلم الجميع أنه ندر أن يمر يوم لا تتطرق فيه الصحافة ومراكز الدراسات والأبحاث والمواقع الإخبارية الإسرائيلية إلى قضية سلاح حزب الله، وخصوصا ترسانة الصواريخ الدقيقة. من وجهة نظر تل أبيب، صار مفهوماً القلق الإسرائيلي ربطاً بأية مواجهة مقبلة. لكن عندما يعطي الأميركي أولوية لهذا العنوان، هل يعتقد مثلاً أنه بمقدوره تثوير المجتمع اللبناني وتحويل السلاح إلى مطلب تحمله جماهير مليونية لبنانية أم أن الهدف وضعه على الطاولة وإقلاق راحة حزب الله؟ الجواب قد يكون بسيطاً للغاية: لن يصبح هذا المطلب مليونياً ولكنه سيعيد تسليط الضوء عليه داخلياً.
خامساً، ليس خافياً أن إنتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر أحدثت شروخاً في بنية المجتمع الشيعي. كانت الأكثرية مشدودة كي تكون جزءاً من هذا الحراك، وكانت أهواء جمهور حزب الله تجنح إلى حد كبير، في إتجاه أن تكون جزءاً من أي حراك ضد الفساد، حتى أن النقاش تسلل إلى شورى قيادة حزب الله ومعظم هيئاته القيادية حول المصلحة في معاداة الحراك، وإنبرى عدد من الناشطين الحزبيين للمشاركة في معظم فعاليات الحراك، برغم تشديد حزب الله على مجموعاته بوجوب الإنسحاب من أي نشاط، تحت أي مسمى كان. هذا الموقف لم يقنع كل المجموعات الحريصة على أن يلعب حزب الله دوراً مركزياً في تحديد بوصلة الحراك، بإتجاه مكافحة الفساد وإستعادة الأموال المنهوبة، ولم يتوقف النقاش حول هذه النقطة منذ ثمانية أشهر حتى يومنا هذا، ولم يتمكن حزب الله من مغادرة مربع الإرتباك والإرباك في هذه القضية تحديداً.
هذه الإستعادة يليها سؤال أساسي: هل أن إشهار سلاح نزع السلاح يفيد في إستدراج حزب الله مجدداً أم يؤدي إلى تنفيره؟ وهل إستشعر البعض شيئاً من إستعداد حزب الله لإجراء مراجعة تتيح له التعامل بإيجابية مع أي حراك جديد؟ الأفدح من ذلك، هل ثمة من يشك أن أي تفسخ كان محتملاً في البنية الشيعية، في ضوء تطور الحراك، على مدى ثمانية شهور، صارت فرصته اليوم تساوي صفراً؟ ومن هو صاحب المصلحة في إعادة تصليب البنية السياسية الشيعية ليس بعنوانها “الثنائي” (أمل وحزب الله)، بل بكل عناوينها السياسية والإجتماعية؟
سادساً، من حسن حظ الحراك التشريني الحقيقي، وكل الحريصين عليه سياسياً ووطنياً ومدنياً وبكل معيار من المعايير، أنه صار محكوماً بفرز إلزامي: تحديد الشعارات الوطنية والإجتماعية ووضع صيغة تنسيقية بالحدود الدنيا ومغادرة مربع الهروب من أية صياغات بحجة الحفاظ على وحدة المجموعات. هذا الأمر سيؤدي تلقائياً إلى نتيجتين مترابطتين: أولى، تتمثل في لفظ الحراك في جولته المقبلة، كل من يريدون تشويه مضمونه ولن يجد دعاة مطلب نزع السلاح وتنفيذ القرار 1559 (والقرار 1680 وهو بمثابة قرار تطبيقي للقرار 1559) إلا زوايا ضيقة يرفعون فيها شعاراتهم ولا يجدون من يصفق لهم. النتيجة الثانية، جعل حزب الله وغيره من القوى المترددة يعيدون النظر بمواقفهم السابقة من الحراك، بإتجاه أن يكونوا إيجابيين ولو كانوا غير مشاركين بالفعالية ذاتها التي يأملها أهل الحراك.
سابعاً، كان يمكن لحراك السادس من حزيران/يونيو أن يمر مرور الكرام، شكلاً ومضموناً، لكن الإشتباك الذي حصل على ضفافه بين مجموعات بهاء الحريري وأشرف ريفي من جهة ومجموعات زقاق البلاط وبشارة الخوري من جهة ثانية، هو الذي أكسبه هذا الحيز الإعلامي، برغم هزالة الحشد الذي لم يتجاوز في أحسن الأحوال، بضعة آلاف. إن حزب الله وحركة أمل يتحملان المسؤولية من هذه الناحية، وكان الأجدر بهما ضبط جمهورهما وما يتفرع عنه من مجموعات بعناوين ومسميات مختلفة (ومنها “عناصر غير منضبطة”)، حتى لا تتواجد أصلاً على الأرض وتحول دون أي إحتكاك، وبالتالي، لا موجب لإطلاق شعارات وهتافات “الحسين” و”علي” و”شيعة.. شيعة” في هكذا مناسبات، لأنها لا تفيد إلا من يريدون من وراء حضورهم بشعاراتهم وأساليبهم (بما فيها الإندفاع إلى رمي الحجارة بإتجاه مجموعات زقاق البلاط)، سوى شد عصب “شارعهم”، لعلهم بذلك يحرجون سعد الحريري تحديداً.
ثامناً، ما هو سر هذه المصادفات اللافتة للإنتباه:
-عشية الدعوة إلى حراك السادس من حزيران/يونيو، تنعقد جلسة جديدة بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، تخصص لمناقشة الإجراءات الجمركية وتفضي إلى سؤال مركزي يوجهه ممثلو الصندوق في واشنطن للوفد اللبناني حول تهريب السلاح إلى حزب الله عبر الحدود الشرقية مع لبنان، وهل يمكن أن يتحول هذا الموضوع إلى حجر زاوية في المفاوضات المقبلة، وعلى ضوئه، يقرر صندوق النقد (الولايات المتحدة عملياً) تقديم الدعم أو حجبه عن لبنان؟
-عشية الدعوة إلى حراك السادس من حزيران/يونيو، تضغط الولايات المتحدة وإسرائيل حتى لا يكون التجديد المقبل لقوات “اليونيفيل” روتينياً، بل على قاعدة توسيع مهام هذه القوات، سواء بمنحها “حرية حركة” (of movment freedom) في منطقة جنوب الليطاني أو بجعل مراقبة الحدود الشرقية والشمالية في صلب صلاحياتها؟
-عشية الدعوة إلى حراك السادس من حزيران/يونيو، تتسرب إلى العاصمة اللبنانية لوائح وهمية مصدرها عواصم غربية، بعنوان “قانون ماغنيتسكي” أو “سيزر” أو غيرهما.. وكلها تهول بوضع عشرات الأسماء اللبنانية، ومعظمها مسيحية، على لوائح “أوفاك” بحجة دفاعها عن سلاح حزب الله أو تغطيتها له، ولا أساس لها من الصحة حتى الآن.
ثمة مفارقة أخيرة أن حراك السادس من حزيران/يونيو، تزامن مع الذكرى الـ 38 للإجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982، وهو تاريخ تفتخر به بيروت التي قاومت وتصدت وتمكنت من إخراج المحتل الإسرائيلي في 26 أيلول/سبتمبر وهو يصرخ:”يا أهل بيروت لا تطلقوا النار علينا. نحن سننسحب من بيروت”.