مع كلّ ذلك، لا بدّ أنّ كثيراً من الأفراد والجماعات يتساءلون، اليوم تحديداً، في وعيهم و/أو في لا-وعيهم، وخصوصاً في منطقتنا؛ لا بدّ أنّهم يتساءلون، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، عن موعد ظهور هذا “المُخلّص” العالميّ “المَوعُود” أو “المُنتظَر” عند كثيرٍ من الشّعوب والجماعات والدّيانات والمذاهب الرّوحيّة.
حاولتْ بعض أيديولوجيّات القرنَين الفائتَين حقيقةً.. ابعادَ هذا المفهوم-المعنى عن أذهان الأفراد والشّعوب، لا سيّما في الغرب. ولكنّ هذه الأيديولوجيّات هي التي سقطت أو تلاشت في الأعمّ الأغلب.. وتُرك الانسانُ عمليّاً – فرداً وجماعاتٍ – أمام الأسئلة القديمة، شبه الأزليّة، ذاتِها.
ومن بين الأسئلة المركزيّة هذه، وفي نفس الإطار إذن، سؤال: حقّاً، متى يظهر، على هذه الأرض قبل السّماء.. “العَدْلُ الإلهيّ” أو “المُخلِّصُ الإلهيّ” أو “المُخلِّصُ” أو “المَسيْحُ” أو “الحُجَّةُ”.. “المَوْعودُ” أو “المُنتَظَرُ”، إذن، منذ غابر العصرِ والزّمان.. فيسقط الظّلم والجور، ويكون للعدل وللقسط – على الأرض هذه – الفوزُ والسّلطان؟
***
راقبْ معي المشهدَ الحاليَّ في هذه الأرض عن قُرب أكثر، وتأمّلْ معي ضمن هذا المعنى المنشود وقيد النّقاش، وإضافةً إلى ما سبق ذكره:
ازديادٌ للاستغلال شبه الاجراميّ، بل الاجراميّ في أحيانٍ كثيرة، للثّروات حول العالم.
تزايدٌ للفروقات الطّبقيّة والاجتماعيّة والتّعليميّة والثّقافيّة بشكل عامّ.
استمرارٌ لسقوط الأيديولوجيّات الكبرى التي قرّرت “المواجهة”. سقوطُها الواحدة تِلوَ الأخرى في ما يبدو حتّى الآن.
سقوط الماركسيّة في ما يظهر، على المستوى العمليّ أقلّه. وسقوط أغلب الأنظمة الاشتراكيّة.. وسقوط الكثير من مشاريع التّحرّر الوطنيّ، خصوصاً ضمن البلاد الفقيرة أو النّامية كما يُقال.
تكرارٌ لهزائم المشاريع القوميّة التّحرّريّة و/أو التّقدّميّة، لا سيّما في بلادنا، وخصوصاً.. مشاريع القوميّة العربيّة كما تعلم (بشكل عامّ أيضاً).
ضرباتٌ عديدة يتلقّاها حاليّاً، في بلادنا أيضاً، المشروع الثّوريّ الاسلاميّ المُقاوم.
من زاوية بلادنا أيضاً، ودون المساس بإمكانية التّعميم على المستوى العالميّ بطبيعة الحال: تقدّمٌ للجيوش الصّليبيّة الجديدة من جهة الغرب.. متحالفةً هذه المرّة مع جند الصّهيونيّة العنصريّة.
عودةُ الامبراطوريّات الغازِية في الإقليم، كما يظهر أيضاً. إنّها، تحديداً، الامبراطوريّات التي لم تأتِ بمشاريع حضاريّة جذريّة وجدّيّة في الماضي، ونأمل خلاف ذلك في المستقبل (الله أعلم..).
تصاعدُ التّهديد الوجوديّ، مُجدّداً، للأقلّيّات الدّينيّة والاثنيّة.
تقدّمٌ، مُجدّداً لجحافل، ومختلف مظاهر، الإسلام الظّاهريّ من جهة الشّرق.. وتصاعدٌ لخطر عودة المَغُول الجُدُد..
ارتفاعٌ، من جديد، لرايات الفتنة والتّكفير والاقصاء والرّجعيّة في الكثير من البلاد والأمصار.. لا سيّما عندنا.
استمرارٌ لتفشّي الفساد وتحكّم المُفسدين، في كلّ المعسكرات.. إن كان في معسكرات “المستَكبِرِين”، أو في معسكرات “المستضعَفِين” للأسف..
اللّائحة قد تطول، وتطول جدّاً، كما تعلم عزيزي القارئ. كثيرٌ من الوقائع والأحداث في راهننا قد تدلّ بشكل تصاعديّ، يوماً بعد يوم، على ازدياد تغلّب الظّلم والظّلمات.. واشتداد احتجاب العدل والنّور – أقلّه في ظاهر الأمور والأحداث. إذن، كما رأينا، وفي ظلّ فشل أغلب الأيديولوجيّات “المواجِهة” حتّى الآن، فمن الطّبيعيّ أن يسأل الانسان نفسَه، لا سيّما في منطقتنا وفي هذا التّوقيت بالذّات: حقًّا، متى يأتي هذا الخلاص المُرتقَب؟ متى يأتي هذا “العدلُ الالهيّ” المَوعود؟
حقّاً متى يظهرُ النّورُ الموعودُ وسطَ الظّلُمات؟
أو، كما ترمز الكثير من الشّعوب والجماعات إلى هذا المفهوم-المعنى نفسه: حقّاً؛ متى يظهر “المُخلّص” المُنتَظَر؟ ألم يَحِن بعدُ هذا “الوقت”.. مع كلّ الذي رأيناه ونراه؟
على كلّ حال، من الجميل برأيي الحديثُ حول هذه القضيّة في الظّرف الاقليميّ والجيوسياسيّ الرّاهن في منطقتنا، لكن أيضاً ضمن أجواء عيد ميلاد “المُخلّص-المَسيح” عند الكثير من الطّوائف المسيحيّة في الشّرق وفي الغرب.
***
من المرجَّح جدّاً أن يكون مفهوم-معنى “ظهور المُخلِّص”، ضمن إطار مفهوم تحقيق “العدل الالهيّ” على هذه الأرض تحديداً كما رأينا: من المرجَّح أن يكون هذا المفهوم-المعنى عالميّاً (Universel)، ولو تمكّنّا من اثبات ذلك من خلال زوايا وطُرق متنوّعة ومختلفة.
هل يرقى مفهوم-معنى ظهور المُخلِّص الإلهيّ أو الوجوديّ أو الكونيّ إلى مستوى “النّموذج الأصليّ” (Archetype)، بالمعنى الذي تُعطيه لهذا الأخير المدرسة السّيكولوجيّة اليونغيّة (الفرديّة والجماعيّة).. أي نسبةً إلى شَيخها العَجيب ومُرشدها النَّجيب، عالم النّفس السّويسريّ كارل غوستاف يونغ (ت. ١٩٦١ م)؟
أُرجّح ذلك طبعاً، بسبب ما ذكرت حول عالميّة هذا المفهوم-المعنى ولو من زوايا مُختلفة، وبسبب قوّة تواجده وتأثيره على وعي ولا-وعي جماعات كثيرة (ناهيك عن الأفراد بطبيعة الحال). ولكن، بالطّبع، أترك تفصيل ذلك إلى المتخصّصين.
ما يهمّني هنا هو فرضيّة فريدة وعميقة جدّاً في هذا الإطار، وهي فرضيّة يُمكن اعتبارها من النّوع الصّوفيّ-العرفانيّ من جهة، ومن ضمن بيئة الأفكار ذات الجذور الهنديّة-الآسيويّة-الشّرقيّة ربّما من جهة ثانية.
اسألْ نفسَكَ واقعاً: هل المُخلِّصُ الالهيُّ أو الوجوديُّ أو الكونيُّ هذا.. هو “مُنتَظَرٌ” كما يُمكن أن نستقريَ من ظاهر بعض خطاب الشّيعة الإماميّة مثلاً؟ هل على النّاس، لا سيّما المؤمنين منهم و/أو الصّالحين، إذن انتظارُهُ.. بينما هو ينتظر بدوره “الإذن” الإلهيّ أو الوجوديّ أو الكونيّ إلى ما هنالك..؟ وهل “توقيت” هذا الأخير.. منفصلٌ حقّاً عن عمل، ودرجة وعي، القومِ المنتظِرِين؟
اسألْ نفسَكَ: هل للمنتظِرِ أيُّ تأثيرٍ على موعِدِ الظّهور في الحقيقة؟ أم أنّ الموعِدَ هذا منفصلٌ تماماً عن ذاكَ المنتظِرِ وعملِهِ على الارتقاء بنفسِه وبوعيِه؟
يقولُ الشَّاعرُ المُنشدُ الاماميُّ المعاصرُ مثلاً، في المَهديِّ المُنتَظَر، وهو عندهم الامام الثّاني عشر كما تعلم.. أي الامام الحُجّة، صاحب العَصرِ والزَّمان، والإمام المُرتَقَبُ للأَرضِ وللمَكَان.. سيّد الأنام أبو القاسم، أو أبو صالح، محمّد بن الحسن العسكريّ الحُسينيّ العلويّ الهاشميّ (“عج” كما يعبّرون):
تَمَجَّدَ ذِكرُكَ في (العَالَمِ)
وحَلّقَ فوقَ جَبينِ (القَدَرْ)
فحَيّاكَ ربُّكَ من (قائِمِ)
(يُنيرُ الوجودَ) إذا ما (ظَهَرْ)
سلامٌ عليكَ (أبا القاسِمِ)..
سلامٌ على (الحُجّةِ المُنتظَرْ)
للاستماع إلى هذه الأنشودة الجميلة:
إذن، يظهر من خطابٍ سائدٍ كهذا (من “ظاهره” إذن أقلّه)، وكأنّ “المَهديَّ” هذا، أو المُخلّصَ هذا (أو المَسيحَ هذا، أو المُنقذَ هذا، أو العَدلَ هذا إلخ.): هو، ببساطة، منتظَر بفتح الظّاء، وكأنّ ميقات أو توقيت ظهوره منفصلٌ تماماً عن أيّ عملٍ أو عن أيّ مستوى قد يكون بلغه وعي المنتظِر بكسر الظّاء.
مع التّبسيط: يبدو من ظاهر الخطاب السّائد عند أغلب الشّعوب والمِلل.. وكأنّ المُخلّصَ مُنتظَرٌ بالمعنى المباشر والبسيط، ولا تأثير للمؤمنين ولوعيِهم ولإدراكِهم ولأعمالِهم على “توقيت” ظهوره.
أمّا الفرضيّة التي ذكرتُها فهي تقوم على الفكرة التّالية. وهي فكرة ترمز إليها إلى حدّ بعيد عبارة بعض عرفاء الاماميّة وغيرهم من الشّيعة عندما تسألهم مثلاً “متى يظهر الامام (عج)؟”.. فيردّون بكلمات من قَبيل “ومتى غابَ – عليهِ السّلامُ – حتّى يظهَر؟” أو “هو ظاهرٌ ولكّنك لا تراه لغشاوةٍ على قلبك!”.. إلى ما هنالك من عبارات صوفيّة-عرفانيّة عجيبة تذهب في الاتّجاه نفسه.
الفكرة هي التّالية، في جوهرها إذن: في حقيقة الأمور وباطنها الباطن، “المُخلِّصُ” ظَاهرٌ للأفراد الذين ارتقَوا بوعيِهم إلى درجةٍ تُخوّلهم أن ينزعوا مختلف أنواع الحُجُب عن قلوبهم وبصيرتهم. هو إذن “ظاهرٌ” حقّاً، ولكنّك “أنتَ” الذي لا “تراهُ” بشكل عامّ: بسبب الدّرجة الحاليّة التي وصلتَ إليها من درجات الارتقاء بوعيِك.
وبالتّالي، إنّه من الواضح البَيِّن حسب هذه النّظرة: أنّ هذا “المُخلِّصَ” لن يظهرَ على عموم النّاس.. قبل أن يبلغَ وعيُهم الجماعيُّ أيضاً درجةً مُناسبةً من الارتقاء.
لاحظْ الجوانب الأساسيّة التّالية في هذه الفرضيّة، وهي مذكورة في كتابات لنا سابقة طبعاً:
- جانب العلاقة الواضحة بين: وعي الإنسان من جهة، والوعي الالهيّ (أو الوجوديّ) من جهة ثانية؛
- جانب محوريّة مفهوم الارتقاء (Transcendence) بالوعي؛
- جانب مركزيّة بل جوهريّة: العمل على اصلاح النّفس أوّلاً، أي قبل العمل على اصلاح “العالم الخارجيّ” ان صحّ التّعبير.
في المُحصّلة، يبدو، حسب هذه الفرضيّة المهمّة جدّاً، والتي أدعو إلى التّفكّر والتّأمّل فيها جيّداً: أنّنا – في حقيقة الأمور – أمام مُخلِّصٍ مُنتَظِرٍ بكسر الظّاء قبل أن يكون منتظَراً بفتح الظّاء!
وطالما أنّك، أيّها الفرد، لا تراه على المستوى الشّخصيّ (بمعزل عن اسم أو مَظهَر هذا “المُخلّص”): فلأنّك لم تُصلح نفسَك بعدُ بما يكفي.. لأنّك لم تَعمَل بما يكفي على الارتقاء بوعيِكَ الفكريّ والرّوحيّ بشكل خاصّ.
وكذلك بالنسبة إليكِ، أيّتها الجماعات البشريّة، ويا أيّتها الانسانيّة جمعاء: هل بلغتِ من الارتقاء الفكريّ، وخصوصاً الرّوحيّ، بحيثُ تُطالبِين بظهور المُخلّص وبظهور “العدل الالهيّ” على هذه الأرض.. وبحيث تتعجّبين من عدم “الظّهور”؟ يبدو، من ظاهر حالِكِ، أيّتها الانسانيّة، ويا شعوب منطقتنا، حسب هذه الفرضيّة: أنّك لست من ينتظِرُ المُخلّصَ في حقيقة الأمور.. بل هو الذي لا يزالُ ينتظرُ اصلاحَك لنفسكِ وارتقاءَك بوعيِك!
***
لاحظْ مجدّداً، عزيزي القارئ، كيف نعود دائماً إلى الفكرة ذاتها في ما يخصّ القضايا الانسانيّة والاجتماعيّة وحتّى السّياسيّة: اصلاح النّفس.. أوّلاً.
فلنتفكّرْ جيّداً في هذه الفرضيّة[1].
ومع أخذ وجود هذه الأخيرة بعين الاعتبار هذه المرّة، نَختمُ مع المُنشد الاماميّ المُعاصر، دون الخروج عن الأبعاد العالميّة الأكيدة للقضيّة كما سبق وأشرنا:
أما (آنَ) بعدُ اقتطافُ (الجَنَى)؟
أما (طالَ) حينُ (انتظارِ الخَبَرْ)؟
فعجّلْ وبادرْ، مليكَ الدُّناْ
وفرِّحْ قلوباً كواهاْ (السَّفَرْ)!
سلامٌ عليكَ أبا القاسِمِ..
سلامٌ على (الحُجّةِ المُنتَظَرْ)!
(.. أو المُنتَظِرْ؟)
[1] هي، كما أشرنا، فرضيّة من النّوع الصّوفيّ عموماً وبلا شكّ من جهة، وذات انتشار وتطبّع شرقيّ-آسيويّ (هنديّ على الأرجح) من جهة ثانية. والحقيقة أنّ من المروّجين لها، ضمن الفكر الشّيعيّ المعاصر مثلاً، بعض المفكّرين والعلماء من ذوي التّفكير الثّاقب والمجدّد النّادر، ومنهم على سبيل المثال: السّيّد المفكّر كمال الحيدريّ. شاهد له مثلاً: