نظرت الشعوب الأوروبيّة إلى الفرنسيّين في ثورتهم، نظرة المخلِّص والناصر لها. لأنّها ألغت المَلكيَّة المطلقة، والامتيازات الإقطاعيّة للطبقة الأرستقراطيّة، والنفوذ الديني الكاثوليكي. وأرست دعائم الديمقراطيّة وحقوق الشعب والمواطَنة. والفكرة التي كان يرغب ديغول بإيصالها لذاك السفير العربي، هو أنَّ الثورة الفرنسيّة مَدِينةٌ لديكارت في نجاحها. بل أكثر من ذلك. هناك مَن يذهب إلى حدِّ القول، إنَّ المواطن الفرنسي يتماهى كلِّيّاً مع فكر ديكارت، حتى في حياته اليوميّة. لدرجةِ أنّ تنظيم الشوارع والساحات العامّة في فرنسا “يحمل سمات المنهجيّة الديكارتيّة من حيث الوضوح والدقّة”، كما يستنتج المفكِّر السوري هاشم صالح.
ما الذي يستدعي التذكير، اليوم، بالثورة الفرنسيّة ومُنظِّريها؟
إنّها المشهديّة التي أقفل عليها الأسبوع الفائت في لبنان. وخلَّفتها مفاعيل “ترهيب” محاولة التظاهر، في الشوارع والساحات العامّة (والمرجَّح تجدُّدها في أيّ لحظة). فلقد ظهَّرت شوارعنا وساحاتنا، سمات بربريّة مُمنهَجة للسلطة السياسيّة الحاكمة. سواءٌ من حيث الوضوح في انتقاء “أسلوب التظهير”، أو في دقّة التصويب على هدفٍ برسائل كثيرة. إذْ رَمَت هذه السلطة، حصْراً، إلى إخراج المنتفضين من الحيِّز العامّ. وتالياً، دفْن المُنجَز الثوري للانتفاضة الشعبيّة التشرينيّة، مرّةً لكلِّ المرّات. لذا، كان ذاك اليوم نوعاً من الأيام التي تتأسّس فيها الأوطان أو تخرب. وصف سياسيّون وصحافيّون ومحلّلون ما جرى، بالمؤامرة المحبوكة بعناية. ووصفها آخرون، بالمسرحيّة المُحْكَمة الإخراج، على الرغم من بشاعة النصّ والحوارات والأبطال. لكنّ هذه المسرحيّة، التي تصحّ عنونتها بـ”شي فاشل” (بالإذن من زياد الرحباني)، توقّف عرضها بعد أربعة أيامٍ فقط، بضغطٍ من جمهور الانتفاضة الحقيقي. فانكفأ أركان السلطة على بعضهم، لرسْم خطّة جديدة. يعدّلون فيها ويبدِّلون في السيناريو واللغة، وربّما الأبطال. بضع ملاحظاتٍ يمكن تسجيلها، على ضوء ما حصل ما بين السبتيْن:
أوّلاً، كلُّ ملائكة أركان السلطة كانوا حاضرين يوم السبت الماضي، واقعيّاً أو افتراضيّاً. كلُّهم شاركوا في المُلِمَّة، بشكلٍ أو بآخر. صغيرهم وكبيرهم. ضعيفهم وقويّهم. عتيقهم وجديدهم. مَن هو في الحكم عمليّاً. ومَن هو خارجه حاليّاً. مَن له أجندة داخليّة أو خارجيّة أو الاثنتان معاً. ومَن يحاول، من دون نجاحٍ ملموس، أن يجترح لنفسه أجندةً ما. مَن يستقوي بـ”قانون قيصر”. ومَن يُستَقْوى عليه بهذا القانون. مَن يتحرّك بالـ”ريموت كونترول”. ومَن يُعتَبَر اللاعب الأقوى والمهاب محليّاً وإقليميّاً وشعاره المزدوج “ما حدا قدّي، والكلمةُ لي”. إذاً، كلُّهم كانوا هناك يأكلون المدينة. ليجعلوا من السادس من حزيران/يونيو عِبرةً لمَن اعتَبَر. لكن، لم تنجح عراضة القوّة هذه. ومن غير المعروف مَن سيبقى على الأرض ومَن سينسحب من فلول الملائكة، في قابل الأيام.
ثانياً، لم يكن أيّ مشهدٍ من المشاهد التي شاهدناها على الأرض أو عبر الشاشات عفويّاً. فكلّ لقطةٍ كان مخطَّطاً لها ومحسوبة. والتهديدات التي نادت بالصوت العالي، سمعها الجميع. هي توعَّدت بصريح العبارة، بأنّ تظاهرات السبت (الماضي) لن تمرّ. وأكدّت أنّ هناك مَن سيتصدّى لها. حتى الشعارات التي قيل إنّها ستُرفع لردع “الخَوَنة”، شمَمْنا رائحة كلماتها. فالكلمات يا أصدقاء لها رائحة، تماماً كالإنسان والحيوان والنبات. وهي تفضح قائلها. فاحت رائحة كلام “الفتنة الموعودة” في كلّ مكان. لكنّ أحداً من الفلول لم يتنشّقها، على الرغم من حدَّة نتانتها. والغريب الملفت أنّ أحداً، كذلك، لم يتنصّل من صلةٍ له بأصحاب الوجوه الكالحة. إذا كانوا براءً ممّا حصل، فلماذا لم يصرخ أحدٌ منهم بـ”توقّفوا” أو بـ”كفى”؟ لماذا لم يرمِ أحدٌ منهم الحُرْم (السياسي أو الديني) على رُعاعه؟ فهكذا تحريمات كانت تُرمى، يمنة ويسرة، وفي أوقاتٍ تُعتَبَر “نزهة” أمام نكبة حزيران! لكن، يبدو أنّ صلاحيّة هذه التهديدات انتهت سريعاً. ولا يمكن استخدامها أكثر. لأنّها ستصبح سامّة. ولا أحد يتحمّل مسؤوليّة التسميم العلني للّبنانيّين.
لم يكن ينقص، إلاّ أن يسجد اللبنانيّون ويقبِّلوا الأرض تحت أقدام حكّامهم الحكماء. وأن يشكروا الله، أيضاً، على نعمة وجودهم في هذا البلد المنكوب بهم
ثالثاً، تابع قادة الأمّة مجريات الغزوات المتنقِّلة في المناطق، مثلما تابعناها، نحن، على الشاشات. ولأنّ وقت العرض طال، داهمهم النعاس فانصرفوا إلى النوم. وعندما استفاقوا، في اليوم التالي، بدؤوا فوراً بتفقُّد بعضهم، وبجولاتٍ على الجبهات الهادئة. جاءت، بعد ذلك، لحظة إمطار الشعب ببيانات الاستنكار ومرادفاته. بطبيعة الحال، تصدّر كلام القادة (ذو الرائحة الكريهة إيّاها) مقدّمات النشرات الإخباريّة والتقارير الصحفيّة. كلّها أثنت على “وعي بعض العقلاء”. الذين لولاهم ولولا حسّهم الوطني، لكنّا اليوم في “جحيم دانتي”. ولم يكن ينقص، إلاّ أن يسجد اللبنانيّون ويقبِّلوا الأرض تحت أقدام حكّامهم الحكماء. وأن يشكروا الله، أيضاً، على نعمة وجودهم في هذا البلد المنكوب بهم. بلا ريب، يغالب غالبيّة اللبنانيّين أنفسهم، حتى لا يقولوا في هؤلاء كلّ الهجاء الذي يُكنُّونه لهم. لكن، إلى متى ستصمد مغالبةُ النفس هذه؟
رابعاً، في كلّ لحظة يشعر أركان النظام اللبناني بأنّهم أمام أزمةٍ وجوديّة، يبتزّون الناس ليختاروا: إمّا بقاؤهم أو الحرب. ولأنّهم أرباب هذه الحرب (أو ملتحقون بها) فلديهم العُدَّة والعديد الكافيان، لإشعالها. السبت الماضي أرادت السلطة إفهام “الثوريّين المتحمّسين”، أنّ التظاهر في لبنان ممنوع وتعطيل الشارع مطلوب، ونقطة على السطر. وتوخّت التشديد على أنّ حكّام لبنان، وأيّاً كان منصبهم، لا تُسقِطهم الشوارعُ الغاضبة. فالتظاهر مسموح به في المستقبل، شرط أن تتناغم تظاهرات كلِّ قبيلة مع أجندة شارعها الطائفي والمذهبي. فمِن الآن وصاعداً (والكلام لأركان السلطة)، لن نوقظ الفتنة عبر تفجير المفخّخات عن بُعد. كلا. بتنا نفجِّر بالمباشر. ورُعاعنا جاهزون، ويدهم على الزناد. سيطلقون النار، بوجوهٍ مكشوفة، على كلِّ جسم يتحرَّك بغير إرادتنا. يجب الإبقاء على هذا الستاتيكو. كما هو. لكن، هل ستستطيع السلطة المحافظة على هذا الستاتيكو؟ لا، على الأرجح.
خامساً، في 6/6 كان دور القوى الأمنيّة مريباً. إذْ اكتفت العناصر بالاصطفاف كأكياس رملٍ، وجلاميد صخرٍ حطّها السيْلُ من علِ. شهدنا صنميَّةً وانضباطاً أمنيّاً، غير مسبوقيْن وغير معهوديْن، في مثل تلك الأيام المتوتِّرة (المتفجِّرة؟). لدرجةٍ، كدنا نعتقد أنّ سبب جمودهم هو لالتقاط صور الـ selfy مع غزاة السبت. أمّا الذروة فتمثَّلت (كما تردّد)، بقيام عناصر من المجموعات الغازية “بتحرير” زميليْن لهم من قبضة قوى الأمن. انتزعوهما بالقوّة، وبوجوهٍ مرصودة من الكاميرات! عجباً! كيف يمكن أن نفهم ما حصل؟ لماذا كان مطلوباً عجزُ الأجهزة الأمنيّة عن قمْع الاستفزازات المشبوهة (الشتائم والتعرّض المتبَادَل لرموزٍ دينيّة ومذهبيّة)؟ أيُّ قرارٍ سياسي، ذاك الذي يشجّع العبث بالأمن الوطني والسِلم الأهلي؟ مَن يريد توريط العسكر بمواجهة الشارع (تتساءل مقالة الزميل داود رمّال)؟ وربّما السؤال الأخطر: بأيّ هيبةٍ ستقوم هذه القوى، مستقبلاً، باعتقال أو سجْن أو ضرْب أو ركلْ متظاهرٍ وثائر؟ وأيُّ تهمةٍ ستتمكّن من تلفيقها لهم، تكون أفدح من تهمة تقويض السِلم الأهلي؟ مَن يعِشْ يرَ.
سادساً، كرّست غزوات السادس من حزيران/يونيو معادلةً فيها من الفظاظة ما يملأ السماء قهْراً: كلُّ ركنٍ موجود في قمّة السلطة اللبنانيّة أو في قعرها، ممنوع أن يُرمى بوردة. فهو، مع حاشيته وجماعته ورُعاعه، محميُّون، بالمطلق، من مرجعيّاتهم. الطائفيّة أوّلاً، والسياسيّة ثانياً، والشعبيّة ثالثاً. تعفيهم هذه المرجعيّات من المحاسبة. أكانت رسميّة أو حزبيّة أو مؤسّساتيّة أو أهليّة. ومهما فعلوا أو افتعلوا. سرقةً ونهْباً وتزويراً وتهريباً وسمسرةً وتبييضاً وترويجاً وتحريضاً وخيانةً وتعاملاً و…إشعالاً للفتن والحروب. ولاؤهم الطائفي والسياسي لـ”أسيادهم”، يحجب عنهم أيَّ وكلَّ محاسبةٍ ومساءلةٍ وقصاص. وبطبيعة الحال، يختلف مستوى ونسبة “الحماية بالإعفاء”، يميناً ويساراً وصعوداً وهبوطاً، تبعاً لحجم وقوّة وتأثير الجهة المعفاة. لا نظير، في شتّى أنحاء المعمورة، لهذا النموذج من الحماية الزبائنيّة. وهنا، تساؤلٌ استنكاري مزدوج يطرح نفسه: كيف لا يتمسّك أبناء الطوائف اللبنانيّة بزعمائهم؟ وكيف يفرِّطون بهذه الحصانة التي تضعهم فوق القانون (الوضعي والربّاني)؟ فحصانتهم أقوى من كلّ الحصانات الممنوحة لنواب الأمّة. وبالمختصر، فإنّ أصغرَ أزعر طائفي محصَّنٌ، أكثر بكثير من أهمِّ نائبٍ عن الشعب. ربّما هذا، ما أخاف أحد ألمع النواب الذين مرّوا في تاريخ البرلمانات في لبنان. هي نائبةٌ (بكلّ معنى الكلمة) تنتمي إلى كتلة “تيّار المستقبل”. تساءلت في تغريدةٍ لها قبل يوميْن، عمّن يتحمّل مسؤوليّة الأيام السوداء الآتية؟ سؤالها في محلّه، برغم السذاجة الكامنة فيه.
اللبنانيّون، بمَن فيهم حُماة الطوائف وزعمائها، ينتظرون الثورة. فهي الحاضر الأكبر في كلامهم. ينظرون في كلّ الاتجاهات، وإلى ساعاتهم ورزناماتهم. كأنّهم يهمسون في سرّهم: “لقد تأخّرت”. لكنّ ثورتهم التي ينتظرون، ليست الثورة التي ينتظرها أركان السلطة
سابعاً، سرّع استشراف الأيام السوداء (المشار إليها) المنتظَرَة للبلد، في استئناف السلطة السياسيّة “ثورتها المضادّة” بوجه اللبنانيّين لإخلاء الشارع. وهذه الثورة اندلعت، مع تشكيل “حكومة الماريونيت” برئاسة البروفسور حسان دياب. واستُكملت بجولاتٍ، شبه يوميّة، لقمْع المتظاهرين والمحتجّين: بدءًا بالرصاص المطّاطي العشوائي والمركَّز والقنابل المسيّلة للدموع (منتهية الصلاحيّة). مروراً بسحْلهم بوحشيّة في الشوارع وجرّهم من ألسنتهم (الشتّامة) إلى السجون. وصولاً إلى بلوى الكورونا التي توكّلت بها العناية الربّانيّة، فحُجِر على الناس وسُحِبوا تكتيكيّاً من الساحات. وفي الساعات الماضية، افتُتح فصل جديد في “الثورة المضادّة”. يقضي أولاً، بإيجاد تسويةٍ تُعفي الجميع من المحاسبة (عملاً بالمعادلة المشار إليها أعلاه). لأنّ السلطة “بحاجة لكلّ الناس”، كما ارتأى رئيس برلماننا. وثانياً، تعويم حكومة دياب الساقطة نظريّاً. فأداؤها عاجزٌ وفاشلٌ صحيح، لكنّه ليس تخريبيّاً كأداء سابقاتها، كما يرى المتمسِّكون برئيس الحكومة (على قلَّتهم). يا ربّ، أَلَمْ ترعوِ هذه السلطة؟ كلاّ. “ومن البَليِّة عَذْلُ مَن لا يرعوي… عن غيِّه وخطاب مَن لا يفهمُ” (من قصيدة المتنبّي في هجاء إسحاق بن إبراهيم الأعور). فبعدما شتّتها الهجوم المعنوي الكاسح (نهاية الـ2019). وأذلّها مئاتُ الألوف وشتموها ومسّحوا بشرعيّتها شوارعَ بيروت والمحافظات السبع. لا تستطيع مكوّنات هذه السلطة إلاّ حماية بعضها البعض. فعلى الرغم من مناصبتهم الكره العميق في ما بينهم (ومن دون أيّ استثناء)، غير أنّ تفرُّقهم سيعني منطقيّاً انكشافهم. أي انكشاف أفراد المافيا، فرادى، للناس. عندها “ستأكل حنيفة ربّها”، في أغلب الظنّ. ماذا بعد؟
اللبنانيّون، بمَن فيهم حُماة الطوائف وزعمائها، ينتظرون الثورة. فهي الحاضر الأكبر في كلامهم. ينظرون في كلّ الاتجاهات، وإلى ساعاتهم ورزناماتهم. كأنّهم يهمسون في سرّهم: “لقد تأخّرت”. لكنّ ثورتهم التي ينتظرون، ليست الثورة التي ينتظرها أركان السلطة. إذْ من الأوهام التي حطّمها يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر، هو أنّ الناس ستنتفض حينما تقترب من الجوع. هذا غير دقيق. إذْ لا يُبنى تغييرٌ سياسي على ثورة جياع. فطموح هذا النوع من الثورات، هو أن تعود الأمور كما كانت عليه قبل الإنهيار. والنظام السياسيّ والاقتصاديّ الذي يُحكِم قبضته على أعناق اللبنانيّين، يفهم هذا الأمر جيّداً. لذلك، فهو يحاول جاهداً أن يُبقي الناس في البرزخ. أي في منطقةٍ وسطى، بين جحيم الجوع والعوز، وبين جنّة الرفاه الاجتماعي. نزولُ الجائعين إلى الشارع لا يخيف السلطة. بل، هذا ما تطلبه، على الأرجح. ما يخيفها، فعلاً، هو انطلاق ثورةٍ يقول تعريفها: “إنّها الإطاحة بالنظام الحاكم. والإمساك بزمام مَواطِن القوّة الباطشة فيه. ومن ثمّ السيطرة على مكامن القوّة الناعمة التي تحميه”. أي باختصار، هي استبدالُ نظامٍ بنظامٍ آخر. ولن يحدث هذا الاستبدال، إلاّ عندما يمتلئ فضاؤنا بالطيور الجارحة بدل السنونو. إقتضى استبدال السنونو إلى حين، وإلاّ أكلتنا طيورُ السلطة الجارحة.