ليس ثمّة مَن يضاهيني رغبة في إنجاح المفاوضات، لكن بشرط الحفاظ على وحدة البلد ومصالحه العليا، والتوصّل إلى انسحاب كل الجيوش الأجنبية من لبنان. إن لم تكن دمشق موافقة على الاتفاق، فهذا يعني أن كل عملية تحرير الأرض تصبح مهدّدة. كلما طالت المفاوضات، عزّز السوريون تحالفاتهم الخارجية ونفوذهم في بلدنا.
زيادة في تعقيد الوضع، تعرّضت السفارة الأميركية في بيروت يوم 18 نيسان/ابريل لإعتداء أوقع 63 قتيلاً، ونجا منه السفير روبرت ديلون بأعجوبة. كان يبدّل ثيابه في غرفة مجاورة لمكتبه، بعدما عاد من جولة الركض الصباحية حين إقتحمت مبنى السفارة شاحنة صغيرة محمّلة بالمتفجّرات ويقودها أحد الإنتحاريين. رأى ديلون نصف المبنى ينهار دفعة واحدة، في الجهة المقابلة لحجرة ثيابه. يومذاك، كان عدد من المسؤولين الكبار في وكالة الإستخبارات المركزية القادمين في مهمة إلى بيروت يعقدون اجتماعاً في الطبقة الأرضية من السفارة، فقُتلوا جميعهم. عند وقوع الإعتداء، كنت أتشاور مع فيليب حبيب في قصر بعبدا. هرعنا إلى مكان الإنفجار، فأخبرنا السفير فور إنقاذه من هذا الوضع الخطر أنه تمّ إجلاؤه بواسطة حبال وبكرات بسبب إنهيار الدرج، ما أبقاه لفترة معلّقاً في الفراغ على مستوى الطبقة الخامسة، لكنه لم يفقد رباطة جأشه. علم الأميركيون من أين جاءت الضربة: “تقارير كشفت لنا في 4 أيار أن سوريا متورّطة في الإعتداءات ضدّ سفارتنا”، حسبما روى وزير الخارجية في كتابه.
أملت الولايات المتحدة في تحقيق إنتصار ديبلوماسي سريع في لبنان، لكنها لم تكن تملك الإستراتيجيا التي تمكّنها من تذليل العقبات التي وضعها في طريقها حليفها الإسرائيلي وسوريا على السواء. كان وزير الخارجية الأميركي يعرف حدود إمكاناته، فاعترف بأن صبره قد نفد. كتب في يومياته في 7 أيار/مايو 1983: “أشعر بحراجة الموقف، بالإحباط الشديد للرئيس الجميّل ومأزقه. كان يعتمد على الولايات المتحدة وعليّ لنبقى ملتزمين قضية لبنان. كان هذا أقصى مُناي، إنما في نهاية المطاف، يتعيّن على اللبنانيين أن يحلّوا مشاكلهم الداخلية في ما بينهم. بعد جولة في الجبل، ركبتُ الطائرة متوجّهاً إلى باريس حيث كان ينتظرني اجتماع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية”.
كان يعرف تماماً أيضاً أن في وسع اللبنانيين ـ وقد أثبتوا ذلك – حلّ مشاكلهم بأنفسهم في ما بينهم، إلا أن الضغوط الأجنبية وحدها كانت تمنعهم من ذلك. يبقى أن شولتز كتب في الوقت ذاته يقول: “الرئيس الجميّل رجل شجاع حقّاً، والسوريون يشكّلون زمرة شرسة جداً. اللبنانيون جديرون بالإحترام”.
رسالة الأسد
في الواقع، فإن أولوية الأميركيين كانت التوصّل إلى اتفاق، ولا يهم أي اتفاق. أخذ الضغط يشتدّ علينا. في الأسبوع الأخير من نيسان/أبريل، تم التوافق على تسوية مقبولة تأخذ في الإعتبار مخاوفنا وتحفّظاتنا. في 28 نيسان/ابريل، نقل إليّ الأميركيون رسالة مقتضبة كانوا قد تلقّوها من الرئيس السوري الذي أعلمني بمضمونها لاحقاً، على نحو مثير للغرابة.
بأسلوب غير ودّي انطوى على نبرة تهديد، بخط اليد، بلا توقيع وبلا رسالة مرفقة على جاري العادة، تسلّم فرع مديرية المخابرات اللبنانية في البقاع “رسالة من السيّد الرئيس حافظ الأسد إلى فخامة الرئيس أمين الجميّل” صباح 28 نيسان/أبريل، بعدما كانت أُرسلت نسخة أخرى إلى واشنطن قبل ثلاثة أيام، 25 نيسان/أبريل:
ورد في الرسالة هذه الآتي:
“أبلغنا إلى الجانب الأميركي ما يلي:
“ـ لا نريد أن يكون هناك أي لبس بالنسبة إلى موقفنا، ونريد أن نتحدّث معكم دائماً بصراحة، رغم أننا أكدنا موقفنا سابقاً من الوضع في لبنان، وحرصاً منا على أن لا يُساء فهمه، كما يبدو أحياناً من بعض التصريحات، فإننا نوضحه مرّة أخرى:
ـ إننا نعتبر أية مكاسب يحققها الغزو الإسرائيلي للبنان تشكّل خطراً على أمننا الوطني والعربي، ما سيفرض بقاء جيشنا في لبنان ما دامت هذه المكاسب مستمرّة. ومن الطبيعي أن نتمسّك بمقتضيات الأمن خاصة وأن إسرائيل تبحث وتخطط لأعمال توسعيّة متتالية بين وقت وآخر”.
وقد تأكد من مضمون هذه الرسالة الرئيس الوزّان خلال زيارته المملكة العربية السعودية في الأسبوع الأخير من نيسان/أبريل 1983، مستبقاً جولة لجورج شولتز على المنطقة. في الرياض طلب رئيس الحكومة من المسؤولين السعوديين، الذين يتهيأون لاستقبال الوزير الأميركي بعد أسبوع، البحث معه في موقف “أكثر تفهّماً وتشدّداً لدعم القضية اللبنانية”.
رفضت إسرائيل وجود قوات الطوارىء الدولية (اليونفيل) في المنطقة الأمنية، فاتفق على أن تكون في ضواحي صيدا وتصل دورياتها إلى صور. أيّدنا الأميركيون
بوصوله إلى بيروت في 28 نيسان/أبريل، ناقشنا مع شولتز العقبات الأخيرة التي تجبه الاتفاق مع إسرائيل. رمت جولته على دول المنطقة إلى تحريك الجمود الذي أصاب التفاوض الأردني ـ الفلسطيني في ذلك الوقت، ثم أضاف مهمة أخرى مذ أعلن عن زيارة بيروت: دعم الموقف اللبناني ودفع المفاوضات إلى الأمام وتسريع خطاها.
محاوره الرئيسي كان رئيس الحكومة (شفيق الوزان) الذي أكد رفض أي تفاهم يراعي وضع الرائد سعد حدّاد في الجنوب. قال له: “هذا الموضوع لبناني. ليس لأي أحد أن يفرض علينا في شأنه أي موقف. لا يجوز لإسرائيل التدخّل في تسمية قائد لبناني على أرض لبنانية، لأن ذلك يسيء إلى معنويات الجيش ويمسّ السيادة القومية”. أبلغ إليه أن البحث في العلاقات المتبادلة مؤجّل إلى ما بعد الإنسحاب الإسرائيلي بستة أشهر. أما دور لجان المراقبة فيقتضي “أن لا يكون عملانياً، بل مجرّد تدقيق أو تفتيش أو مراقبة، ورفع التقارير إلى الجهات المعنية كي تتصرّف من خلال السلطات اللبنانية. ليس لهذه اللجان التدخّل مع المواطنين”.
كان علينا أيضاً انتظار أجوبة عن أسئلة حمّلناها إلى شولتز بعد أن يزور تلّ أبيب في نطاق جولته على المنطقة.
القواعد اللبنانية
كنا قد توصّلنا إلى جملة قواعد تمكّن لبنان من فرض موقفه:
1 ـ أصرّت إسرائيل على الحصول على موافقتها عند تسمية الضبّاط اللبنانيين في لواء جنوب الزهراني. رفض لبنان وأيّده الأميركيون.
2 ـ طلبت أن ينتشر ضبّاط إسرائيليون في المنطقة الأمنية، من النهر الأولي جنوباً إلى جبل الباروك شرقاً. رفض لبنان وأيّده الأميركيون.
3 ـ طلبت خمس محطات مراقبة بجنود إسرائيليين. رفض لبنان وأيّده الأميركيون.
4 ـ طلبت حقّ المطاردة على الأراضي اللبنانية وفي الأجواء والمياه اللبنانية. رفض لبنان وأيّده الأميركيون.
5 ـ طلبت الإعتراف المتبادل. رفض لبنان وأيّده الأميركيون.
6 ـ رفضت وجود قوات الطوارىء الدولية (اليونفيل) في المنطقة الأمنية، فاتفق على أن تكون في ضواحي صيدا وتصل دورياتها إلى صور. أيّدنا الأميركيون.
7 ـ طلبت أن يُوقّع الاتفاق الوزراء في لبنان وإسرائيل. رفضنا وأيّدنا الأميركيون.
8 ـ مثلما يحقّ لإسرائيل التحقّق من الترتيبات الأمنية في الأراضي اللبنانية، أصرّ لبنان على حقّ التثبّت من أن لا حشود في الأراضي الإسرائيلية.
إستغلّ معارضو التفاوض والاتفاق مع إسرائيل، جميعهم، الوقت الذي ضيّعه علينا التصلّب الإسرائيلي من أجل تنظيم إنتقامهم، ومنع أي تسوية مع الدولة العبرية. هكذا، تضافرت جهود دمشق وطهران وموسكو وطرابلس الغرب لمواجهة ثنائي واشنطن – تلّ أبيب على الأرض اللبنانية، حيث كان الجيش السوري لا يزال متحصّناً جنوب طريق دمشق. كما أثبت الإعتداء على السفارة الأميركية، ما كانوا ينتظرون توقيع الاتفاق للإنتقال إلى الفعل. فمنذ الأول من أيار/مايو 1983، ترحيباً بجولة شولتز على المنطقة، صبّت مدفعية المراكز السورية حمم قذائفها على ساحل كسروان شمال العاصمة. في اليوم التالي، تمركزت في البقاع قوافل من المقاتلين الفلسطينيين الجدد، الموالين لسوريا، آتية من دمشق.
في هذا الجو من التوتر الذي فاقمه الإستعجال الأميركي المفاجىء بعد الإعتداء على السفارة، تعيّن علينا إجتياز الخط المستقيم الأخير لمسار التفاوض. هوذا حجم العبء الذي كان علينا أن نتحمّله، خصوصاً وأن التهديدات كادت تكون مكشوفة. في 2 أيار/مايو، توجّه إيلي سالم إلى دمشق برفقة جان عبيد والعميد عبّاس حمدان لإبلاغ الرئيس الأسد آخر تطورات المفاوضات.
بعدما أشاد طويلاً، بلطف زائد، بمزايا “الرئيس أمين” ـ كما يحلو للرئيس الأسد أن يسمّيني ـ “كونه رجلاً وطنياً شجاعاً حريصاً على مصالح البلد”، ألقى حديثاً مسهباً، إستخلصتُ منه رفضاً قاطعاً لأي اتفاق بين لبنان والدولة العبرية “يكون أسوأ من اتفاقات كامب ديفيد”. يُضاف إلى ذلك إشارته ـ كما لو أن الأمر من قبيل “الصدفة” ـ إلى “إغتيال الرئيس السادات على يد شعبه لأنه خان قضية مصر”.
كانت الرسالة واضحة.
السعودية ووعود ريغن
في اليوم الثالث، 3 أيار/مايو، عائداً من إسرائيل، زارني الوزير شولتز في حضور الرئيس الوزّان. أكد لي أنه مارس ضغطاً عليها لحملها على تخفيف شروطها، لكنه اقترح عليَّ في المقابل الموافقة على عقد لقاء بين إيلي سالم واسحق شامير، أي نقل دعوة صريحة إلى نوع من العلاقات السياسية بين لبنان وإسرائيل، الأمر الذي كنت أرفضه منذ اليوم الأول للمفاوضات، وكان من شأنه أن يؤلّب العرب علينا ويثير في بلدنا مشاكل خطيرة. ليست المرّة الأولى التي تطلب فيها إسرائيل هذا اللقاء. لشهرين مضيا طرحته مرّتين: في وسائل إعلامها، ثم إبّان وجود وفد لبناني في واشنطن برئاسة صائب سلام، وفي المرّتين رفضناه كلياً.
أحلتُ إلى سالم، بما أنه المعنيّ مباشرة، مهمة الردّ على طلب اللقاء مع شامير. كنت أعلمُ مسبقاً ما سيقوله وزير خارجيتنا. مذذاك إمتنع الوزير الأميركي عن تكرار اقتراحه ثانية.
في محاولة طمأنتنا في شأن التزامه إلى جانبنا، عرض عليَّ مشروع تعاون اقتصادي وتقني بين بلدينا يعود على لبنان بفائدة كبيرة. كذلك، أفادنا أنه بادر إلى الشروع في إتصالات شخصية مع الرئيس السوري الذي يأمل في أن يلقى عنده مزيداً من المرونة. أعلمني بزيارة قريبة له إلى السعودية حيث يتوقّع الحصول على دعم الملك فهد ومساعيه الحميدة لدى دمشق.
الانسحاب الإسرائيلي مشروط بالإنسحاب السوري. الموقف السوري غير واضح، ولسنا متأكدين هل هو موقف تكتيكي أم مبدئي؟ إذا شئنا التفسير، قد يكون تفاوضياً للمساومة. في أحاديثي معه، تكلّم جورج شولتز من منطلق الشخص العارف أن في الإمكان تليين موقف سوريا. ما قاله لي: “سنبلغها في حينه القرار النهائي، ونعرف عندئذ ما سيكون ردّ فعلها. لم أجد موقف دمشق نهائياً أبداً. كلام الرئيس حافظ الأسد ودّي ما يدلّ على أن الأبواب لا تزال مفتوحة. ثمّة إنطباع، غير ضئيل، بأن سوريا ستقتنع”.
أوصى الملك فهد زائره بما كان قد طلبه هو من الرئيس الأميركي “العمل على إتمام الإنسحابات من لبنان بما لا يؤثر على أمن لبنان واستقلاله وسيادته وحرّية رأيه، وعلى إنتمائه العربي”
بالفعل كانت لشولتز، في نطاق جولته تلك، زيارة للسعودية بعدما كان قصد سوريا واجتمع بالأسد. وصل إلى جدّة ليل 7 أيار/مايو 1983، وعقد اجتماعاً طويلاً مع مسؤولي الخارجية السعودية حتى الرابعة فجراً، عارضاً جهود إدارته للتوصّل إلى اتفاق لانسحاب الجيش الإسرائيلي والقوات غير اللبنانية من لبنان.
وفق تقرير أرسله إليَّ سفيرنا في جدّة ظافر الحسن، اليوم التالي، بعد إطلاعه على نتائج المحادثات تلك من وزير الإعلام علي الشاعر، أكد شولتز “موقفه المبدئي بعدم القبول بما يمسّ سيادة لبنان واستقلاله وأمنه، أو يسيء إلى علاقاته العربية”، مذكّراً بأن الرئيس ريغن “وعد” بإزالة الإحتلالات. شرح في لقائه الملك فهد مضمون الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي، على الأثر قال له العاهل السعودي: “نحن نعترف للبنانيين بحق إتخاذهم قرارهم، ونعتبر أنهم أصحاب الحقّ المطلق في ذلك. لكن الرئيس ريغن وعدنا بانسحاب غير مشروط، فلماذا نبدو الآن كأننا نكرّس مبدأ لصالح إسرائيل أنها كلما إحتلت أرضاً عربية أو إعتدت على دولة، نعطيها إكرامية خاصة لفعلتها، أو بعبارة أخرى نجعلها تستطيع من طريق الإحتلال إخضاع الدول الأخرى إلى الشروط التي تراها؟ لماذا نتيح لها وهي الدولة المعتدية على لبنان، المعروف بمسالمته، إحراز مكاسب على حسابه”.
أوصى الملك زائره بما كان قد طلبه هو من الرئيس الأميركي “العمل على إتمام الإنسحابات من لبنان بما لا يؤثر على أمن لبنان واستقلاله وسيادته وحرّية رأيه، وعلى إنتمائه العربي”.
دافع شولتز عن الاتفاق بقوله إن التوصّل “إلى قاسم مشترك بين الطرفين كان نتيجة جهود كبيرة ومثابرة وصبر، وتدخّل قوي من الولايات المتحدة للحصول على تنازلات من إسرائيل، وعلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من أجل لبنان”. فحوى هذا النقاش كان حول بند التبادل بين البلدين، واستمرّ طوال ساعة.
أضاف الحسن في تقريره: “الملك يفضّل التريّث في الوقت الحاضر ليرى في أي صوب ستتجه رياح محادثاته مع الرئيس الأسد، وليتحسّس بنفسه أولاً بأول إستعداد الرئيس السوري. لا يرغب عندما يتخذ موقفاً مؤيّداً للبنان أو عندما يدعو الأسد إلى اتجاه معيّن، أن يقال فيما لو كنتم حاضرين إنه إتخذ موقفه بضغط لبناني، أو بتأثير حضور الرئيس اللبناني. بهذه الطريقة يحتفظ لنفسه بمرونة أكثر مع سوريا والرئيس الأسد”.
في 9 أيار/مايو، كتب إليَّ ظافر الحسن يطلعني على “مفهوم الاتفاق( مع إسرائيل) كما طرحه الرئيس السوري على الملك فهد” في اجتماعهما في جدّة في هذا اليوم، بحسب ما أعلمه به وكيل الشؤون السياسية عبدالرحمن المنصوري.
وفق الجانب السوري “لن تنسحب سوريا في ظلّ هذا الاتفاق، إلا إذا كان انسحاب إسرائيل غير مشروط”. أما الحلّ المقترح كما تقول دمشق، فهو: “فتح التفاوض مجدّداً بقصد إلغاء كل الشروط المفيدة لإسرائيل”.
أما مفهوم الأسد للاتفاق، أمام العاهل السعودي، فتناول ملاحظات منها: “لجان التحقق عبارة عن بقايا إحتلال، إقرار مبدأ انتقال البضائع والأشخاص تطبيع، حقق الاتفاق أهداف الإحتلال لصالح إسرائيل من دون أن يكون عليها تحمّل أعباءه، المعاهدة معاهدة سلام وتطبيع، كل اتفاق يجب أن لا يتم في ظلّ الإحتلال والانسحاب أولاً من دون شروط، إذا طلبت سوريا شريطاً أمنياً مماثلاً لما طلبته إسرائيل وأخذته ماذا يبقى من لبنان؟”.
في رسالة أخرى ملحقة في اليوم نفسه، تناول سفيرنا في جدّة إستدعاءه ليلاً إلى الخارجية السعودية واجتماعه بوكيل الشؤون السياسية، ومصادفة وجود سفير أميركا في المملكة في مكتب المسؤول السعودي يطلع منه على نتائج زيارة الأسد لفهد لإخطار شولتز بها: “عند دخولي قال سفير أميركا موجّهاً كلامه إلى المنصوري: نفهم أن يتشدّد الرئيس الأسد لأسباب داخلية وخارجية، لكن عليه أن لا يمعن في التشدّد. من الأفضل أن يعلم ذلك. لم نتوصّل إلى هذا الحدّ المقبول في الاتفاق بين لبنان وإسرائيل إلا بعد ضغوط كبيرة على إسرائيل، وبعد أن أظهر لبنان صلابة كبيرة وحزماَ شديداً طوال مدّة التفاوض. النصّ الموضوع إشترك فيه لبنان معنا. ليس كاملاً، لكنه أفضل ما يمكن في هذه الظروف. لذلك فإن موضوع إعادة التفاوض مستحيل، وغير قابل للبحث”.
ثم سأل السفير الأميركي نظيره اللبناني هل ستستعجل حكومته الحصول على موافقة البرلمان على الاتفاق، فأجابه: “الأمر يعود إلى قرار الحكومة”.
قال المنصوري للحسن: “لا يهمنا أن تقنعونا نحن بوجهة نظركم، وأن طرح الرئيس الأسد غير صحيح. سمعناكم وسمعنا شولتز قبلاً. لكنه فهم الاتفاق على هذا النحو، ونحن لا نستطيع مناقشته أو دحض أقواله ممّا نسمعه من مصدر آخر”.
ثم ختم: “نقلتُ إليك كل ما قاله، من دون أن يكون لدى المملكة أي تبنٍّ له”.
بعد ذلك، حمّل المنصوري الحسن رسالة شفوية من العاهل السعودي إليَّ، مفادها الآتي:
“أولاً ـ طلب جلالة الملك من الرئيس الأسد أن يتمهّل، ولا يستعجل اتخاذ أي موقف من الاتفاق.
ثانياً ـ طلب منه أن يبذل كل جهوده لمساعدة اللبنانيين.
ثالثاً ـ يرى جلالة الملك أن يوفد فخامة الرئيس الآن رئيس الوزراء أو وزير الخارجية إلى دمشق للإجتماع بفخامة الرئيس الأسد، ويشرح له الاتفاق من وجهة النظر اللبنانية والمصلحة اللبنانية”.
ذلك ما سأقدم عليه بالفعل بعد ثلاثة أيام.
خيبة مرّة
أخيراً، توصّلنا إلى اتفاق أهون الشرور. ليس ما كنا نأمل فيه، لكننا صمدنا. تمكّنا من الحفاظ على سيادتنا الوطنية، وعلى المصالح العليا لبلدنا.
نصّ الاتفاق على خروج كل القوات الإسرائيلية من لبنان في غضون سنتين. في تلّ أبيب، بلغ الإحباط أوجه. بدلاً من الحصول على اتفاق سلام، إضطرّ الإسرائيليون إلى الإكتفاء باتفاق أمني. أما في ما يخصّ تطبيع العلاقات مع لبنان، فتمّ إرجاؤه إلى أجل غير محدّد. عبّر رئيس حكومتنا خير تعبير عن شعور اللبنانيين بقوله للوزير الأميركي: “ما تقترحه ليس ما كنت أتمنّاه. هذا اليوم ليس أسعد لي منه للولايات المتحدة. سوف أؤيّد الاتفاق وأتحمّل عواقب هذا التأييد، لأنه في الظروف الحالية الوسيلة الوحيدة المتوافرة بين أيدينا لتحرير بلدنا. مع ذلك، كنت آمل في أن نحصل من الولايات المتحدة على دعم جوهري في سبيل اتفاق عادل. لهذا السبب، أشعر اليوم بخيبة مرّة”.
في هذه الغضون، إستمزجتُ رأي الزعماء السياسيين، لاسيّما رؤساء الحكومة السابقين. أكد لي رشيد كرامي أنه يرى في المبادرة الأميركية فرصة يقتضي إنتهازها. دافع صائب سلام عن الاتفاق أمام الملك فهد الذي شجّعنا على المضي قدماً. كذلك تقيّ الدين الصلح. أما الزعماء المسيحيون، فمحضوني ثقتهم منذ البداية، وراحوا يشجّعونني على إستكمال الاتفاق في أقرب وقت. لدى استشارة القادة الروحيين، أبدوا بدورهم موافقتهم على الخطوة. من جهة رئيس المجلس النيابي كامل الأسعد أيّد اتفاقاً مع إسرائيل، وحضّ النواب على موقف مماثل في جلسة للبرلمان في 26 نيسان/ابريل 1983، تحوّلت إلى سرّية. هذا الإجراء غير دستوري وغير مألوف، إنما بادرتُ إلى مراجعة مجلس النواب قبل إقدامنا على خطوة لا يمكننا التراجع عنها لاحقاً.
في 11 أيار/مايو، أنهت الوفود الثلاثة – اللبناني والأميركي والإسرائيلي – صوغ الاتفاق بعد إدخال التعديلات التي اعتبرناها مهمة.
الأسد للجميل: إسرائيل التي تبعد 100 كيلومتر عن الحدود اللبنانية تريد أن تصل إلى 50 أو 55 كيلومتراً داخل لبنان، ودمشق التي تبعد 25 كيلومتراً تبقى من دون أمن”
عشيّة إيفادي وزير الخارجية إيلي سالم إلى دمشق حاملاً معه مشروع الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي، وفي محاولة أخيرة لإقناعه، خابرتُ الرئيس السوري هاتفياً في 11 أيار/مايو. أبديتُ له حرصي على التواصل دائماً معه تحسّباً لاحتمال ـ أشبه بمعجزة ـ تبرز فيه تسوية شاملة مقبولة من الجميع. لم يُظهر الأسد شيئاً من إستيائه العلني، مكتفياً بعبارات غامضة بدماثة معهودة عصيّة على الفهم.
أوردُ هنا مقتطفات أساسية من فحوى المكالمة الهاتفية.
قال: “نحن بلدان ودولتان مستقلتان في السيادة، لكن في المحطات التاريخية نحن شعب واحد. أنت تعرف أن الأمن في بلد يؤثر على الأمن في البلد الثاني”.
قلت: “أنا حريص على أمن سوريا بقدر ما أنتم حريصون على أمن لبنان”.
قال: “في كل إتصالاتي، مع الأميركيين، كنت أؤكد لهم على وحدة لبنان. حتى خلال الحرب لم تطلبوا أي شيء. فقط وضع حدّ للفلسطينيين. إسرائيل التي تبعد 100 كيلومتر عن الحدود اللبنانية تريد أن تصل إلى 50 أو 55 كيلومتراً داخل لبنان، ودمشق التي تبعد 25 كيلومتراً تبقى من دون أمن”.
قلتُ مقاطعاً: “ربّما المعطيات التي وصلت إليكم غير صحيحة مئة في المئة. الخطوط الحمر الذي ذكرتُها لسيادتكم متمسّك بها إلى الحدّ الأقصى. أعتقد أن ثمّة سوء تفاهم حيال المعطيات التي وصلت إليكم. إذا كان ثمّة خطر على سلامة سوريا، لا أوقّع. لبنان في وضع تعرفونه تماماً. وحدته الوطنية في خطر، وكذلك سيادته وأرضه واقتصاده، وجنوبه ومياهه في خطر. نحن مضطرون إلى التوصّل إلى تدابير تؤمن انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان في أقرب وقت ممكن. من هذا المنطلق بدأنا التفاوض. أعتقد أن ما سنتوصّل إليه يضمن سيادة لبنان، وفي الوقت نفسه أمن سوريا. أنا حريص على أن ننطلق من هذه المرحلة إلى علاقات جديدة بيننا وبين سوريا بعدما أخذ التشنّج مداه. دوركم في لبنان لم ينتهِ، وهو الأساس في مساعدتنا لتوحيد البلد وتطويق قوى الشرّ كلها. أمامنا طريق طويلة وإيّاكم. الجيش الإسرائيلي في الشوف وعاليه يُولّد وقائع خطيرة لم يعرفها لبنان من قبل. بدأ التطبيع في النفوس والتأثير على الشعب. أعتبر للمرّة الأولى أن العجلة ليست من الشيطان، وهي لمصلحة لبنان وإنتمائه وحرّيته كي يضطلع بدوره إلى جانب سوريا في المحافل العربية والأجنبية. المشروع المطروح أمامنا لإنهاء الوضع الشاذ الذي من شأنه القضاء على كل مقوّمات الوطن، ويمكن أن يؤدي إلى تفجير المنطقة. أُعيد تأكيد إصراري على أن ننتهي من هذه المرحلة، كي يرجع لبنان وسوريا كما تعوّدنا وكما نريد، فنستمرّ في التعاون المخلص لما فيه خير البلدين. وجود إسرائيل في لبنان يؤثر على الكيان، ويأتي على الأخضر واليابس”.
قال: “شكراً شيخ أمين. كن على ثقة، لا يحدّد موقفنا سوى مصلحة لبنان، وفي الواقع مصلحة لبنان مصلحة سوريا”.
قلت: “أعتقد أن لكم ثقة بي. أنا مطلع على المعطيات كلها، وأحافظ على المصلحة اللبنانية في الميزان الذي تؤمنون أنتم به”.
قال أخيراً: “على كل حال، مباشرة أو على نحو غير مباشر، أكدنا ثقتنا بالشيخ أمين، ونحن حريصون على أن تستمرّ هذه الثقة”.
ما لم يقله لي الأسد في الإتصال الهاتفي، أتاني منه بالواسطة. بالتزامن مع المكالمة، ظهر اليوم نفسه، سارعت دمشق إلى إعطاء الجواب سلفاً، مستبقة مهمة موفديَّ إليها. بإيعاز من حكومته، عقد سفير سوريا في الكويت مؤتمراً صحافياً أعلن رفضها الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي كما عرضه عليها شولتز. وصفه بأنه “اتفاق إستسلام وعقد إذعان، يتعارض مع حرّية لبنان واستقلاله، ويتنافى مع أمن سوريا والوطن العربي ومصالحهما”، إذ جعل أمن سوريا “مهدّداً وفي خطر”.
أوجز خدّام موقفه كالآتي: “الاتفاق أنهى حال الحرب مع إسرائيل، وبذلك يكون لبنان قد خرج عن الموقف العربي العام، ألغى كل التزامات لبنان حيال الدول العربية، يطبّع العلاقات بين لبنان وإسرائيل، يعطي وجوداً أمنياً لإسرائيل في لبنان، يحدّ من استقلال لبنان وسيادته، يلحق ضرراً كبيراً بأمن سوريا”
“لا توقّعوه”
توجّه إيلي سالم والعقيد الركن سعيد القعقور إلى العاصمة السورية، اليوم التالي 12 أيار/مايو، لمقابلة الأسد ووزير الخارجية عبدالحليم خدّام الذي استقبلهما مساء ذلك اليوم في المطار بكياسة، مع أن دمشق كانت عبّرت عن عدم رضاها بعبارات غير ودّية، وبنبرة راعدة في الإعلام.
إستهلت المحادثات باجتماع مع خدّام طوال ساعتين. تسلّم من نظيره نسخة عن الاتفاق اللبناني ـ الاسرائيلي وملاحقه بالعربية. أمضى ثلاثة أرباع ساعة يقرأه بتمعّن. قال سالم على الأثر إنه يطلب مساعدة سوريا بعدما أكد له الإجماع اللبناني عليه. قال له: “الاتفاق هو أقلّ ثمن يمكن أن يدفعه لبنان، ولا بديل منه. لا يختلف الاتفاق كمّاً ونوعاً عن اتفاقات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية. يطوّر اتفاق الهدنة عام 1949، ولا خوف منه على أمن سوريا”.
أوجز خدّام موقفه كالآتي: “الاتفاق أنهى حال الحرب مع إسرائيل، وبذلك يكون لبنان قد خرج عن الموقف العربي العام، ألغى كل التزامات لبنان حيال الدول العربية، يطبّع العلاقات بين لبنان وإسرائيل، يعطي وجوداً أمنياً لإسرائيل في لبنان، يحدّ من استقلال لبنان وسيادته، يلحق ضرراً كبيراً بأمن سوريا”.
قال بعد ذلك ان الاتفاق “غير مقبول شكلاً ومضموناً، لا يمكن تحمّله ولا تحمّل نتائجه”.
بعدما أشاد بي بقوله “أنا أعرف فخامة الرئيس وأقدّره”، قاد خدّام الحوار إلى مكان آخر لم يكن ذلك الاجتماع ساحته، بقوله: “المطلوب إصلاح النظام والمؤسسات”.
طلب رفع الاجتماع ساعة ريثما يتمعّن أكثر في قراءة الاتفاق. سرعان ما أُخطِر سالم والقعقور بأن الجلسة التالية في الغداة 13 أيار/مايو، صباحاً. للفور، قال خدّام إن قيادته اجتمعت في الليلة السابقة، وإطلعت على مشروع الاتفاق واتخذت قراراً برفضه استناداً إلى ما وصفه بـ”اعتبارات لبنانية وعربية وسورية”.
قال سالم: “لا يمكن سوريا أن تلوم لبنان إذا تمكّن من إخراج 50 ألف جندي إسرائيلي من أرضه. الفرصة تاريخية، وأمن سوريا سيكون أقوى بكثير بعد خروج القوات الإسرائيلية من لبنان ممّا هو عليه الآن في ظلّ الإحتلال. لم نعقد معاهدة سلام، ولا سفارة لإسرائيل في لبنان. لن نفتح حدودنا مع دولة واحدة، ونقفلها مع 22 دولة. في لبنان إجماع على الاتفاق، ونريد أقوى العلاقات معكم. يهمنا أن لا تظهر سوريا كأنها تريد بقاء إسرائيل في لبنان”.
عندئذ سأل خدّام: “هل أن لبنان جاهز لعقد اتفاق أمني مع سوريا؟”.
ردّ سالم: “نبحث في ذلك. ثمّة أشياء يمكننا أن نفعلها. مجالات التنسيق بين لبنان وسوريا واسعة. الاتفاق هو إلى حدّ كبير أمني. ليس معاهدة سلام. نحن وإياكم يمكننا العمل على اتفاقات أمنية وسياسية واقتصادية”.
توقّف الاجتماع الثاني عند هذا الحدّ، وتوجّهوا إلى مقابلة الرئيس الأسد ظهراً قرابة ساعة ونصف ساعة. سلّم إليه سالم رسالة مني، وشرح باستفاضة الاتفاق. في مداخلة طويلة أمام موفدي، إستعاد الأسد الماضي والتاريخ على طريقته المعتادة التي لا يملّها مع كل ضيف يستقبله، ولا تنتهي إلى قعر. ذكّر بأن بلاده “تنازلت عن الأقضية الأربعة إلى لبنان عام 1920″، وروى قصة “الصلات الوثيقة بين الشعبين اللبناني والسوري منذ القدم، وكيف أن اللبناني عندما يسافر إلى أميركا كانوا يقولون إنه سوري”. تحدّث عن زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس، وبعض ما دار بينهما في شأنها طوال سبع ساعات ورفضه لها، إلى أن كشف عن أول تهديد مضمر. كان سيحارب مصر “لو أن لها حدوداً متاخمة مع سوريا”.
ثم أضاف: “قال لنا الأميركيون أن ثمّة مسائل سرّية سوى الاتفاق، وأنا أميل إلى تصديقهم. أرى هذا الاتفاق ينسف كل معاني استقلال دولة لبنان، ويجعل منه محمية إسرائيلية، ويؤدي إلى انعكاسات على أمن سوريا. اللبنانيون سيرفضون الاتفاق، وسوريا ستكون معهم من دون تردّد. (فادي) أفرام، (إيلي) حبيقة، زاهي البستاني، هل هؤلاء هم شعب لبنان؟ إنه عمل تخريبي على الأمّة العربية وتراثها. هتلر لم يوقّع إستسلاماً كهذا. الاتفاق يجعل من لبنان عدوّاً لسوريا. لا يمكنكم إعطاء سوريا أي شيء من الناحية الأمنية. في المناطق التي احتلوها، مقبول أن تناقشوهم. لكن كيف أعطيتموهم خارج ذلك؟ هذا أيضاً اعتداء علينا. بموجب الاتفاق يجب أن تحاربونا غداً. أعطيتم إسرائيل إمتيازات في المناطق التي ننتشر نحن فيها”.
من ثم إنتقل إلى تهديد ثان مضمر: “الاتفاق يعني إنهاء لبنان. نحن حريصون على وحدة لبنان السيّد العربي الحرّ واستقلاله. من هذا المنطلق لا نستطيع تأييده. أنتم الله يوفقكم. هذه ليست دعوة من القلب. الاتفاق يلزمكم انتم والإسرائيليين فقط. نحن نلتزم الحقوق التاريخية والمواثيق العربية. نهتم بأمننا. يُخطىء في لبنان مَن يعتقد أن سوريا ستُسحق. المشاكل في لبنان لم تكن مع القوات السورية. كلما زاد تدخّلهم، زاد موقفنا تصلّباً. وضعنا بخير. الشعب يريد الحرب ضدّ إسرائيل ولا يهتم بشيء سوى ذلك. لهذه الأسباب نحن ضدّ هذا الاتفاق كمحصلة. موقفنا هو الآتي: لتخرج إسرائيل من دون قيد أو شرط. يمكن القبول ببعض الترتيبات الأمنية في الجنوب. إذا صمد لبنان تخرج إسرائيل من دون مقابل. كان في إمكاننا إرجاع الجولان لو أعطيناهم 1% من الشروط التي قبلتم بها. سنقوم بكل ما من شأنه مكافحة هذا الاتفاق. أنا أقدّر الأخ الشيخ أمين الجميّل، وأراؤه السابقة لا تتوافق مع هذا الاتفاق”.
عندما قال له سالم إن المفاوض اللبناني إستثمر كل المواقف السورية، ردّ الأسد: “أنا أنصح بأن لا يُوقّع هذا الاتفاق”.
إنتهى الاجتماع عند هذا الحدّ. أعقبته خلوة جمعت الأسد بسالم طوال 20 دقيقة.
رفض الرئيس السوري الاتفاق من دون مناقشة بنوده. تكلّم عن مواقف عمومية، معرّجاً على شعارات طنّانة عن حقوق الشعوب والتراث وأواصر العلاقات، ومفاهيم السيادة والاستقلال والقومية والعروبة والمواثيق العربية، متكلّماً بالنيابة عن اللبنانيين جازماً سلفاً برفضهم جميعاً الاتفاق، مستعيداً محطات التاريخ معظمها من حقبة الإنتداب الفرنسي في سوريا ومقاومته. سطر بعد آخر ممّا راح يقوله، فيه تهديد مبطّن يشي بعزمه على الذهاب إلى أكثر من رفض الاتفاق.
للمفارقة، فإن الصحف السورية، في محاولة للتحريض عليه، نشرت نصّ الاتفاق، فسارعت على الأثر الصحف اللبنانية إلى نشره أيضاً
موافقة الحكومة والبرلمان
في 14 أيار/مايو 1983، إلتأم مجلس الوزراء، ووافق على النصّ النهائي للاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي مع ملاحقه والمحاضر التفسيرية، وفوّض إلى السفير أنطوان فتّال توقيعه “في الوقت المناسب”. وهو صِيغ في أربع لغات: الإنكليزية والفرنسية والعربية والعبرية. أبلغتُ إلى المجلس أن الرفض السوري “منتظر كونه منبثقاً من موقف أيديولوجي حيال إسرائيل. لن توافق سوريا على اي اتفاق معها. إلا أن موقف الرفض هذا ينطوي على دعوة مبطّنة إلى التفاوض معها، ولها مطالب. لا مانع لديها من إخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان. لكن الأسلوب المتّبع لا يؤمن في نظرها الصالح القومي. ثمّة الكثير من التجنّي على الاتفاق، وبعض التفسيرات مغرض. ليس فيه ما يمنع سوريا من إستيراد معدّات عسكرية عبر مرفأ بيروت، أو يعرّض أمنها للخطر. عملنا لا غبار عليه، وغايتنا التخلّص من الإحتلال الإسرائيلي المباشر بلا مسّ مصلحة أحد. يجب أن لا ننسى أن سوريا طرف في النزاع، ولها مصلحة على الأرض. من الطبيعي أن تعترض على اتفاق ليست طرفاً أساسياً فيه. موقفها طبيعي ومنطقي جداً. في النهاية سنجلس معها إلى طاولة المفاوضات لمعالجة علاقتنا الثنائية”.
بانقضاء يومين، 16 أيار/مايو، إلتأم مجلس النواب في جلسة تحوّلت إلى سرّية في حضور 80 نائباً، إطلعوا من وزير الخارجية على النصّ الرسمي النهائي للاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي. خلصوا بالإجماع إلى الموافقة عليه، والأخذ بتوصية إقترحها الرئيس صائب سلام تقضي بتأكيد إجماع البرلمان و”التعبير عن صمود الوحدة الوطنية ودعم الحكم في تحقيق السيادة الكاملة للبنان”. في الغداة وقّعه رئيس الوفد اللبناني إلى المفاوضات السفير أنطوان فتّال مع الطرفين الأميركي والإسرائيلي، في ناتانيا وخلدة على التوالي، وصار إلى تبادل الوثائق. مذذاك حمل الاتفاق إسم تاريخ توقيعه في 17 أيار/مايو 1983، وهو في الواقع يحمل إسماً قانونياً رسمياً: “اتفاق جلاء القوات الإسرائيلية”. في اليوم التالي، اجتمع مجلس الوزراء مجدّداً، وإتخذ بناء على إقتراح الرئيس الوزّان قراراً قضى بـ”أخذ العلم بالتوقيع والموافقة على إتمام كل الإجراءات الدستورية والقانونية التي تؤدي إلى إبرام الاتفاق من المراجع المختصة”.
للمفارقة، فإن الصحف السورية، في محاولة للتحريض عليه، نشرت نصّ الاتفاق، فسارعت على الأثر الصحف اللبنانية إلى نشره أيضاً.
لثلاثة أيام خلت، 15 أيار/مايو، في اليوم التالي لمصادقة مجلس الوزراء، أوفدتُ الوزيرين بهاء الدين البساط وإبراهيم حلاوي، كموفدين شخصيين لي، إلى ملوك دول المغرب والخليج العربي وأمرائها ورؤسائها لشرح الاتفاق لهم، وإطلاعهم على مضمونه والمكاسب التي يجنيها لبنان منه لتحرير أرضه، وطلب دعمهم. ذهب الأول إلى الجزائر والمغرب وتونس والتقى الأمين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي وممثل منظمة التحرير الفلسطينية محمود عبّاس (أبومازن). أما الثاني فقصد الكويت وأبوظبي وقطر والبحرين وعُمان. أكد قادة هذه الدول لموفديَّ دعم الاتفاق وتأييد لبنان في ما يقرّره لنفسه، مع الأخذ في الإعتبار الإحراج الذي تسبّب فيه لسوريا، وضرورة تليين موقفها وإبقاء خطوط التواصل معها، مع إبداء الإستعداد للتوسّط لديها. القاسم المشترك في ما عبّروا عنه، أن اللبنانيين أدرى بأنفسهم وبما ينبغي أن يفعلوا. لا أحد يحلّ محلهم، داعين إيّانا إلى المحافظة على علاقاتنا العربية، مؤيّدين انسحاب كل الجيوش الأجنبية من بلادنا.
(*) الحلقة الأولى، “أمين الجميل رئاسة فوق الخطوط الحمر”:
https://180post.com/archives/11524
(*) الحلقة الثانية، أمين الجميل أول رئيس لبناني في البيت الأبيض:
https://180post.com/archives/11651