الارتقاء إلى سدّة الرئاسة في لبنان ومغادرتها، له منذ نصف قرن ونيّف، طقوس شكسبيرية كتبها التاريخ بحروفه التي لا يغيب عنها لون الأسرار والمأساة والدم. كلّ من إرتفع دخل إلى حلقات كواليس ماكبث والملك لير وقصص الساحرات واللّعنات والألغاز.
في جمهورية أمين الجميّل أضيفت عناصر المأساة وارتسمت التحوّلات وشماً دائماً على جسد التاريخ. وكما البطل في تراجيديا يونانية، توحّد في القدر الصعب لبنان الذبيح وأمين الجميّل الرئيس، ابن العائلة التي ارّخت لحياتها بدماء خمسة من أبنائها، طليعهم رئيس شقيق الرئيس، وخاتمهم بيار الشهيد نجل الرئيس. أمّا هو، فاختبر الحياة والموت في وقت واحد، وإندمج زمنان في واحد، زمن للأمل وآخر لخيبة الأمل.
عهد الأحلام والأوهام
كان أمين الجميّل، أوّل رئيسٍ لبناني يخلف رئيسَين في ايّامٍ قليلة: الياس سركيس الذي أنهى ستَّ سنوات من البطولة الصامتة، وبشير الجمّيل، طيفُ البطولة الهادرة الذي رسم في إثنين وعشرين يوماً عهداً كاملاً من الأحلام، وربّما من الأوهام.
كانت القوات المتعدّدة الجنسيّات في بيروت، وكان اللبنانيون في جمهورية متعدّدة الجنسيّات والهويّات. كان الإسرائيليون في بيروت وبعبدا والجبل والجنوب وبعضِ البقاع، وكان السوريون والفلسطينيون والحرس الثوري الإيراني الوافد حديثاً، في الباقي من الخريطة التي مزَّقتها حروبٌ متعاقبة: مسيحية – فلسطينية وسورية – لبنانية ومسيحية – إسلامية ثمّ مسيحية – سورية، مروراً بسورية – فلسطينية وسورية – لبنانية ومسيحية – مسيحية، بالإضافة إلى حربٍ فلسطينية – إسرائيلية وسورية – إسرائيلية. كلّ ذلك، تحت سقف الحرب الأميركية – السّوفياتية الباردة، فكان على الرئيس الشاب ترميمُ دولة وبناؤها أقوى من الاحتلالات والدويلات، بركام دولةٍ أضحت مساحتها في حدود مكتب الرئيس في القصر المهدّم والمحاصر بحواجز ارييل شارون.
المتهم في بيئته
غريباً بدا أمين الجميّل في القصر الفارغ والحزين. فقد وصل إليه بربطة عنق سوداء، على متن مشروعٍ إقليمي فُصِّل على قياس شقيقه الشهيد، ولَم تكن له علاقةٌ بمعادلاته الداخلية والخارجية، بل على العكس من ذلك، فقد كان النائب أمين الجميّل متّهماً في بيئته الحزبية، بعدم قطع الخطوط أبداً مع المسلمين والسوريين والفلسطينيين، إذ عبر إلى بيروت الغربية المحاصرة خلال الإجتياح الإسرائيلي مرّتٓين، والتقى ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية، ونقل بطلبٍ من أبو عمَّار أرملة أبو حسن سلامه السيدة جورجينا رزق وطفلها من جحيم القصف إلى ما كان يُعرف بالمنطقة الشرقية، ليواجه أسئلة بشير وغضب جهازِ أمن القوات اللبنانية. كما انّه لم يلتقِ القادة الإسرائيليين سوى على هامش مراسم تعازي شقيقه بشير. واحتفظ الرئيس الجميّل برسالةٍ معبّرة من أبو أياد نشرها في المذكّرات دوّن فيها القيادي الفلسطيني: “أكرّر شكري لك، وقد أخبرتُ أولادي الليلة بأنّ هناك رجلاً كان خصماً ومقاتلاً شريفاً، حاول ان يبادر بحلولٍ تحفظ من هذه المذابح، لكنّه لم يتمكّن. إذا عشنا والتقينا سنتذكّر هذا الحديث، واإاّ اترك هذه الرسالة عندك للتاريخ والمستقبل”.
قوّة الموقف وضعف الموقع
في المقابل، وبرغم عدم الإعتراض السوري على الإنتخاب الذي نقله ضابط المخابرات مُحَمَّد غانم في لقاء السيّارة عند تقاطع الدوّار – ضهور الشوير، فإنّ دمشق التي ربحت نقطةً في المواجهة بشطب بشير، كانت تترقّب التطوّرات استعداداً للانقضاض واستعادة المبادرة بدعمٍ من موسكو، في التصدّي لقوات الحلف الأطلسي المنتشرة على شواطىء بيروت. كذلك كان الرئيس الجديد يعرف أنّ التوافق المصطنع على انتخابه عابرٌ وهشّ، وأنّ اسرائيل تُمسك بصاعق التفجير في الجبل بين الدروز والقوات اللبنانية التي كان من المفترض ان تكون داعمة للرئيس الكتائبي، فإذا برجالها يعاملونه كأنّه حاملُ المشروع النّقيض لقائدهم الشهيد، والرّجل الذي حرمهم مكاسب اعتبروها حقّاً لهم.
برغم كلّ ذلك، حاول تحقيق معجزة الفصل بين قوّة الموقف وضعف الموقع. لم يُرِد للبنان الاستمرارَ في دور هاملت المتردّد الذي يقول نكون أو لا نكون. ولم يكن الخيار أمامه إلاّ ان يقرّر أن يكون، أطلق ما سمّاها “مغامرة الإنقاذ” معتمداً على الأميركيين.
نقل أوركهارت إلى الجميّل اقتراحاً من إسحق شامير يقضي بانتشار “اليونيفيل” في البقاع الغربي للفصل بين القوات الإسرائيلية والسورية وإقامة منطقة عازلة على غرار الشوف. وتكرّر العرض في مفاوضات الناقورة سنة ١٩٨٥، مضافاً إليه إقتراح أميركي – دولي بنشر “اليونيفيل” حول المخيّمات الفلسطينية
كانت المهمّة الأصعب هي السعي لإخراج اسرائيل من لبنان عبر اتّفاقٍ فرضه وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز من دون ان يحميه، وربطته اسرائيل بشرطٍ تعجيزي هو الانسحاب السوري المتزامن، وسمَّاه الرئيس حافظ الأسد اتفاق إذعان يجعل من لبنان محميّةً إسرائيلية وعدوّاً لسوريا. وذكّر الأسد الوزير ايلي سالم في تهديدٍ مبطّن للجميّل، بإغتيال أنور السادات على يد شعبه لأنّه خان قضيّة مصر.
رئيس الدولة / الحاجز
هكذا وُلِد الاتفاق المسموم ميتاً. اسرائيل أراحت سوريا بإعطاء الأسد حقّ النقض. والرئيس الجميّل ردّ برسالةٍ جانبية مماثلة تؤكّد أنّ لبنان في حلٍّ من الاتفاق، مدعوماً برسالةٍ من الرئيس الأميركي رونالد ريغان أعطته الحقّ في تعليق التزاماته في حال عدم انسحاب القوات الإسرائيلية.
على مدى ثلاثٍ وثلاثين جولة مفاوضات أنتجت ما عُرف باتفاق السابع عشر من أيار، تأكّد أمين الجميّل بالوقائع والمناقشات مع الأميركيين والسوريين والأوروبيين والعرب، أنّ محطّة التورّط الأميركي في لبنان سنة ١٩٨٢، كانت لحظةً عابرة فرضها الثلاثي الاسرائيلي بيغن – شارون – ايتان، وأنّ الولايات المتحّدة حاولت استثمار العملية العسكرية الإسرائيلية لدفع مشروع الرئيس ريغان للسلام العربي – الاسرائيلي، وأنّ أميركا تريد الحلّ في لبنان لتصل إلى التسوية في الشرق الأوسط. وعندما فشلت واشنطن واضطرّت إلى الإنسحاب مع قوات الأطلسي بعد تفجير المارينز والدراكار الفرنسيين ونسف السفارة الأميركية في بيروت وإقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، عاد السوريون والإسرائيليون إلى استراتيجية الخطوط الحمر التي نسّقتها الديبلوماسية الأميركية سنة ١٩٧٦ لترتيب حدود التدخّل العسكري السوري وجعلت لبنان كوندومينيوم سوري – إسرائيلي، غايته إحتواء منظمة التحرير الفلسطينية وابعاد خطّ الاحتكاك العسكري المباشر عن أرضهما إلى دولة حاجز مفكّكة هي لبنان.
“كورنة” لبنان
اعادة تعويم الخطوط الحمر جاءت فاقعة في الاقتراحات والعروض الدولية والاميركية والاسرائيلية وبالوقائع الميدانية. تشويش الزوارق الإسرائيلية على اتصالات الجيش اللبناني خلال حرب الجبل ثبّت التواطؤ السوري – الاسرائيلي. وقبيل الانسحاب المفخّخ، طرح الاسرائيليون ما سمّاه الرئيس الجميّل “كورنة” (نسبة إلى كوريا) الوضع من خلال إقامة خطّ تماس عسكري عند نهر الأوّلي يقسّم البلد إلى منطقَتَين: واحدة تحت سيطرة السوريين واُخرى تحت سيطرة اسرائيل بقيادة سعد حدّاد، ويكون الشوف منطقة عازلة. وفِي أيار/مايو ١٩٨٤، نقل مساعد الأمين العام للأمم المتحدة برايان أوركهارت إلى الرئيس الجميّل اقتراحاً من اسحق شامير يقضي بانتشار وحدات “اليونيفيل” في البقاع الغربي للفصل بين القوات الإسرائيلية والسورية وإقامة منطقة عازلة على غرار الشوف. وتكرّر العرض في مفاوضات الناقورة سنة ١٩٨٥، مضافاً اليه اقتراح أميركي – دولي بنشر “اليونيفيل” المعزّزة حول المخيّمات الفلسطينية في الجنوب.
تقاسُم لبنان وتقسيمه، تطوّر في ظلّ الخطوط الحمر إلى ورقة مكتوبة لديفيد كيمحي (مدير عام الخارجية الإسرائيلية) عرض فيها إنسحاباً مشروطاً بترتيبات أمنية في الجنوب مع ضمان إنسحاب سوري باستثناء المنطقة الممتدّة من أنفه شمالاً إلى دير الأحمر شرقاً حتى الحدود السورية. وتوسّع كيمحي شارحاً، أنّه بهدف الحفاظ على الهيمنة المسيحية، سوف تتّخذ إجراءاتٌ قانونية لتحويل لبنان إلى نظام كانتونات مكوّن من واحد مركزي ذي أكثرية مسيحية يضمّ العاصمة ومقر الحكومة، وكانتوناتٍ أخرى تبعاً لتركيبة السكّان بالإضافة إلى كانتون تحت السيطرة الإسرائيلية بإدارة سعد حدّاد.
الوهم الأميركي كان الاختبار المرّ الذي عانى منه الرئيس الجميّل لدرجة أنّه قال للموفد ريتشارد مورفي: “هل الولايات المتحدة معتادة معاقبة أصدقائها”؟
فييتنام جديدة
تدرّجت حماسة الرئيس ريغان من الدعم شبه المطلق في القمّة الأولى مع الجميّل في خريف ١٩٨٢ إلى تراجع مفاجىء في القمّة الثانية في تمّوز/يوليو ١٩٨٣. فوجىء الرئيس اللبناني بالرئيس الأميركي يستقبله بإعطائه نسخة عن رسالة إلى حافظ الأسد وشقيقه رفعت لشكرهما على المساعدة في تحرير رئيس الجامعة الأميركية في بيروت دايفيد دودج الذي كان خطف في تمّوز/يوليو ١٩٨٢. أمّا الباقي من المباحثات، فدعا فيه اللبنانيين إلى إعتبار إتفاق ١٧ أيار ورقة مهمّة لكن تصرّفوا على أساس أنّها شيك غير موجود. وبلغ التخلّي الأميركي حدّاً وصل إلى أن ينقل الديبلوماسي ريتشارد فيربانكس إلى الرئيس الجميّل رسالة إسرائيلية تطالب بمنح الدروز في الشوف وضعاً خاصاً. وفي حال الموافقة، ففي وسع إسرائيل إستخدام نفوذها لدى الطائفة الدرزية لوقف المعارك في الجبل.
هكذا أحدث قصف المدمّرة “نيوجرسي” غباراً لا أضراراً، فيما كان السفير الأميركي يهرول إلى ملجأ قصر بعبدا للاحتماء فيه.
وفِي وصف درامي للسلوك الأميركي، كتب وزير الدفاع الأميركي كاسبار واينبرغر في مذكراته عن الوضع عشية الانسحاب: كأنّنا نشهد جلاء الجيش الأميركي من فييتنام، ويعود إليّ أن أسلّم إلى الرئيس الجميّل الرسالة المحزنة. تلك كانت المهمّة الأكثر إيلاماً التي أدّيتها في حياتي، لكن لم أكن أعلم أنّ التحرّر من الالتزام الأميركي كان نهائياً.
هكذا وجد الجميّل نفسه وحيداً في مواجهة اسرائيل وسوريا المدعومة من موسكو التي أبلغ سفيرها ألكسندر سولداتوف الرئيس اللبناني بأنّ الأميركيين سيدفعون غالياً جدّاً ثمن عدم التعاون معنا.
التوازن الإستراتيجي
لقد كان هدف الولايات المتحدة تحقيق الحوار الإستراتيجي الأميركي – السوري من خلال لبنان وعلى حسابه. وكان حافظ الأسد يتمسّك بإستراتيجيته نفسها منذ مطلع الحرب اللبنانية، وهي السيطرة على الورقتين اللبنانية والفلسطينية للتفاوض بإسمهما في أي محادثات سلام مع الأميركيين.
كشف فاروق الشرع لنظيره اللبناني ايلي سالم، مطامع سوريا بشكل فجّ سنة ١٩٨٧قائلاً: “السيادة ماذا تعني؟على لبنان ان يعهد فيها إلى سوريا. نريد ان نعقد تحالفاً استراتيجياً طويل الامد. نريد ان تكون لنا كلمة في اختيار السياسيين الذين يحكمون لبنان”
في ذروة حرب إتفاق ١٧ أيار، قال الأسد للوسيط الملكي السعودي الأمير بندر بن سلطان: “الأميركيون أغبياء لأنّهم ربطوا الاتفاق بالانسحاب السوري وبذلك حلّوا مشكلة سوريا”. وهذا ما أعاد البحث إلى المربّع الأوّل الذي تحدّث عنه الأسد إلى الرئيس الجميّل في اللقاء الأوّل بينهما في نيودلهي سنة١٩٨٣ إذ قال إنّ وجود جيشه في لبنان “نوع من التوازن الاستراتيجي بين سوريا وإسرائيل”. وتحت ستار هذا التوازن، سعى إلى تحقيق المشاريع السورية التاريخية في لبنان عبر اللعب على التناقضات الطائفية وإستخدام الحلفاء اللبنانيين والإقليميين.
كانت العلاقات المميّزة هي الثمن السوري لإنهاء الحرب في لبنان، وكانت الإصلاحات او المطالب الاسلامية بإعادة توزيع السلطة بين الطوائف هي الذريعة والوسيلة. وقد تجسّد ذلك في الاتفاق الثلاثي الذي خاطر الرئيس الجميّل برفضه وساهم بإسقاطه برغم الحياد الأميركي السلبي حياله، إذ اعتبر السفير بارثولوميو أنّ الاتفاق يجلب للبنان هدوءاً نسبياً لكنّه مضرٌ بمستقبله.
بعدها عادت سوريا إلى بيروت، وإقتلعت حلفاء عرفات ونفوذه في المخيّمات وأمسكت بالحلفاء والاعداء. وكشف وزير خارجية سوريا فاروق الشرع لنظيره اللبناني ايلي سالم، مطامع سوريا بشكل فجّ سنة ١٩٨٧قائلاً: “السيادة ماذا تعني؟على لبنان أن يعهد فيها إلى سوريا. نريد أن نعقد تحالفاً استراتيجياً طويل الأمد. نريد أن تكون لنا كلمة في إختيار السياسيين الذين يحكمون لبنان. امّا الجيش السوري، فعليكم أن تفهموا أنّ وجوده هو بصفة دائمة وعلى لبنان أن يتنازل عن جزء من سيادته. تعلمون أنّ الوطن اللبناني لم يكن له يوماً وجود فعلي، بل هو من مخلَّفات الاستعمار التي حان الوقت لإستئصالها”.
خيانات وخيبات وإنقلابات
كان أمين الجميّل الذي وصفه جان لارتيغي في “باري ماتش” بأنّه “الرجل الأخطر في العالم”، يواجه وحيداً الخيانات والخيبات والإنقلابات والإنتفاضات. كان عليه أن يدير ما هو غير قابل للإدارة، وأن يفاوض على ما هو غير قابل للتفاوض، وان يجسّد وحدة اللبنانيين غير الموحـّدين. كان عليه أيضاً أن يناور مع الأسد الذي جعله بلطفه الزائد ودماثته، على عكس ممثّله الفظّ والمتعالي عبد الحليم خدّام، يتسلّق الجلجلة على درب مفروشة بالورود. وكان يعرف أنّ الخوف من ثمن التسوية مع سوريا لا يقلّ عن الخوف من ثمن الحرب.
تلطّى كثيرون وراء رفضه وصلابته. المفتي الراحل حسن خالد وكذلك القيادات السُنّية. وليد جنبلاط إعتمد على وطنية أمين الجميّل لإسقاط الإتفاق الثلاثي. وفي لقاء مع إيلي سالم في آب/أغسطس ١٩٨٥ في المختارة، قال جنبلاط: أؤيّد الشيخ أمين في موقفه، فهو حتى الآن لم يطلب الدخول السوري. أهدافي تختلف عن أهداف حلفائي، فالشيعة يريدون نظاماً جديداً برئاستهم وهذا أمر خطير جدّاً. الطموحات الدينية للشيعة قد تجعل لبنان إيران أخرى. أملي أن يحافظ الشيخ أمين على أعصابه ولا يعطي السوريين أكثر ممّا يريدون”.
كان جورج أورويل يقول “إنّ القدّيسين مذنبون حتى يثبتوا براءتهم”.
لم يدّع أمين الجميّل القداسة وإن كان أخصامه ألبسوه رداء الشيطنة طويلاً. هو اليوم قدّم مرافعته للتاريخ بالوثائق والمحاضر. قد يواصل الناس ترداد ما حفظوه غيباً وفق الوشايات والشائعات والتخيٌلات، لكنّ لا الذين قالوا إنّ عهده كان عنوان الفرص الضائعة، حاولوا قراءة الظروف الداخلية والخارجية وموازين القوى المتبدّلة، ولا هو إستطاع إقناع أحد أنّه غامر باللعب فوق الخطوط الحمر معتمداً على الأميركيين والغرب وبعض العرب. وعندما أخفق وأسقط إتفاق ١٧ أيار بعدم إبرامه، إنتقل من مغامرة إنقاذ لبنان إلى دور الحفاظ على لبنان كما عرفه.
حاصرته إستحالة عودة لبنان الموحّد، ورفض حالة لبنان المقسّم، فأرغم على القبول بلبنان الممكن القائم على توازن الدويلات والإحتلالات مع حقّ النقض والرفض الذي تمسّك به الرئيس بإسم الشرعية والمؤسسات.
السلطة والقضية
لم يستطع أمين الجميّل كسر الخطوط الحمر الإقليمية والدولية، لكنّه أبقى خطوطه مفتوحة مع الجميع، كما لم يقبل تجاوز خطوطٍ حمرٍ داخلية والتورّط بلعبة دم أهلية.
بعد غياب الشيخ بيار الجميّل الذي وازن بين الوقوف إلى جانب نجله الأكبر رئيس الجمهورية، وحماية إرث نجله الأصغر، القوات اللبنانية، تجنّب الشيخ أمين الإصطدام بجموح الطموحات القاتلة للقيادات المسيحية المتنافسة.
أخبره السفير الأميركي جون كيلي أنّ العماد ميشال عون يحضّر انقلاباً عشية الاستحقاق الرئاسي سنة ١٩٨٨، فلم يهتزّ. وأرسل إليه الرئيس سليم الحص ووزير الدفاع عادل عسيران مرسوم إقالة العماد عون من قيادة الجيش، فلم يوقّع.
بعد إنتفاضة القوات اللبنانية سنة ١٩٨٥، عرض عليه الرئيس حافظ الأسد إرسال وحدات القوات الخاصة السورية لقمع التمرٌد لمصلحة الشرعية في عملية تنظيف محدّدة، فرفض.
رفض أيضاً المقايضة بين السلطة والقضية. لم يضعف أمام إغراء ما نقله الوسيط مهدي التاجر في أيلول/سبتمبر ١٩٨٦ عن حافظ الأسد الذي قال: “يا مهدي، أنا اكنّ مَودّة خاصة للشيخ أمين. إذا توصَّلْنا إلى اتفاق معه، فسآتي بالعجائب، ويمكن أن يبقى زمناً طويلاً رئيساً للبنان ويدخل التاريخ من الباب الواسع”.
الخطوط الحمر
كانت ولاية أمين الجميّل آخر محاولة لإحياء الجمهورية الاولى بتوازناتها وثنائيتها الطائفية. وكانت أيضاً ميداناً للتصفيات الأخيرة في حروب الدروز والموارنة المستمرّة منذ القرن التاسع عشر. لكنّها أسّست لكلّ التحوّلات اللاحقة، بدءاً بالصعود الشيعي والتغلغل الإيراني وتشتّت السلطة وتوزيعها على أمراء الحرب في مجلس الوزراء على غرار حكومة ١٩٨٤ التي كانت أشبه بمجلس رؤساء لا مجلس وزراء. أمّا ستاتيكو الخطوط الحمر، فلم ينكسر بالكامل إلاّ بالانسحاب السوري سنة ٢٠٠٥ بفعل القرار الدولي ١٥٥٩ لتحلّ محلّه معادلة إقليمية أخرى هندسها حزب الله.
لقد طغت على الأدبيات السورية في السنوات الأخيرة عبارة: “الرجل الذي لم يوقّع”، تعريفاً بالرئيس حافظ الأسد الذي لم يتنازل لإسرائيل. على أنّ الملكية الفكرية والسياسية يجب أن تبقى محفوظة مع مفعول رجعي للرئيس أمين الجميّل.
حذّره شارون من انّه لن يدعه يحكم أبعد من قصر بعبدا، ولَم يوقّع.
قصف السوريون وحلفاؤهم قصر الرئاسة ما دفع الفرنسيين والأميركيين لوضع خطّة عسكرية لإجلائه، ولَم يوقّع.
حاولوا إغتيالَه في صيدا سنة ١٩٨٥ وبتفخيخ الطائرة الرئاسية سنة ١٩٨٨، وإغتالوا مستشاره مُحَمَّدٍ شقير، ولَم يوقّع.
قُدّم له العسل السوري ممزوجاً بالسمّ ولَم يوقّع.
طُعِن من أهل البيت وأحسّ سكّيناً يتنزّه في الجرح، ولَم يوقّع.
نقل إليه جورج شولتز في حزيران/يونيو تهديد الأسد بأنّ المسيحيين سيكونون في حال صعب جدّاً وأنّ مرفأ جونيه سيقصف إذا لم يقبلوا بالتسوية السورية، ولَم يوقّع.
رفض شولتز إعطاءه ضمانات في إجتماع لارنكا في نيسان/أبريل ١٩٨٨، ولَم يوقّع.
التراجيديا.. والبطل
نصحه القائم بالأعمال الأميركي ماكنمارا بالإختيار بين النظام السوري وفوضى حزب الله، فلم يرضخ، برغم أنّ الديبلوماسي الأميركي أبلغه أنّ واشنطن تريد أن تسوّي القوات السورية وضعها القانوني في لبنان وأنّ اسرائيل تريد من سوريا أن تضبط حزب الله.
قال سكوت فيتزجيرالد: “أعطوني بطلاً وسأكتب لكم تراجيديا”.
أمين الجميّل ولد وعاش وحكم وشاخ في قلب تراجيديا عامة وخاصة، من دون أن يغريه دور البطل. إرتدى دور المقاوم: أنا أقاوم إذاً أنا موجود. لكنّه تعثّر بين القدر والقدرة. القدر الظالم والقدرة المكبّلة.
تصنع الأقدار معظم الرجال، ويصنع بعض الرجال أقدارهم. امين الجميّل عجنه قدر الوطن والحزب والعائلة، فلاَعَبَ الأقدار الثلاثة محتفظاً بصورته عن نفسه:
مقاوم ومحاور، عنيد ومرن، ثابت في الجوهر ومتساهل في الهامش ودائماً في خدمة لبنان.
(*) نص ألقي في ندوة “بيت المستقبل” في بكفيا، لمناسبة صدور كتاب “الرئاسة المقاومة” للرئيس أمين الجميل.
(**) في الحلقة التالية: أول رئيس لبناني في البيت الأبيض