ثلاثة وعشرون شهيداً لم يحاربوا العدو ببندقية أو مدفع. بقاؤهم في أرضهم. دعاؤهم. أحاديثهم. براءة أطفالهم. خبز صاجهم وسنابل قمحهم. كانوا السلاح، الذي انغرس عميقاً، في القلوب الميتة، والعقول المظلمة. أخافوا العدو بمدارسهم التي أهدت العالم الأبجدية، ودور عبادتهم المفتوحة على السماء. أخافوه بزيتونهم الشامخ، وغرسة تبغهم. أخافوه بإرثهم. بحضارتهم وقيمهم التي تضرب عميقاً في التاريخ. وانتصروا بشهادتهم المقدسة، على آلة حقده وقوته المزيفة.
“زهراء” الشهيدة، أرّخت بحبرٍ، هو دمها، ما جرى في تلك الغرفة الواسعة، الواقعة في وسط بلدتها، عيناثا الجنوبية، في مثل هذا اليوم من تموز/يوليو 2006.
***
جلست “زهراء” في زاوية بعيدة من تلك الغرفة الواسعة، المكتظة بمن فيها. والدها. والدتها. زوجة أخيها وابنه. أقارب. اصحاب. مجموعة ممن بقي في القرية، قصدوا هذا المكان طلباً للأمان، من حقد عدو غاشم، مجرم لا يرحم. ضوء شحيح ينبعث خجولاً من الشمعة اليتيمة، يساعد “زهراء” على قراءة الدعاء للمجموعة المتحلقة من حولها. وجه ملائكي، وصوت هادئ، هما وجهها وصوتها. يشعان بالاطمئنان والسلام، ويبعثان الراحة في النفوس المضطربة.
أما في الخارج، فعالم آخر. إنه الجنون بعينه. مدفعية العدو تدك المنازل الآمنة، بقذائف الحقد الأعمى، وطائراته ترسل الموت والدمار حيثما حلقت. أما جنوده فيحاصرون القرية من كل مداخلها. القرية القديمة ببيوتها الحجرية، وأزقتها الضيقة، بدور العبادة. بآبارها وعيون المياه فيها، باتت أثراً بعد عين، لا شيء يرتفع فوق الأرض سوى الدمار والركام. واذا ابتعدنا قليلاً باتجاه الأطراف، نرى أن مدافن القرية لم تسلم هي أيضاً. غضب العدو ينصب على الأموات كما الأحياء، وخوفه لا يفرق بين مقاوم أو من هم تحت التراب.
***
يومٌ. يومان. ثلاثة. جنون الخارج ما زال على حاله. بل ربما أصبح أشد عنفاً. أما في الداخل، فما زالت “زهراء” على سكينتها، تكتب يومياتها، علها تكون شاهداً يشهد على وحشية العدو وهمجيته، وسجلاً يحكي بعضاً من قصص “تموز”. بين صفحة وصفحة، كانت ترفع يديها إلى السماء، مبتهلة، تدعو العلي القدير، أن يحمي المقاومين، وأن يعيد إليها أخويها مكللين بغار النصر، أو معطرين بدم الشهادة.
سألتها والدتها:
– “زهراء”، لِمَا يا ابنتي رفضت مغادرة القرية مع من غادرها؟
– وأترككم! لست أفضل منكم.
– لو ذهبتِ يا ابنتي لأرحت قلبي. أما أنا فمضطرة للبقاء، من سيطعم الشباب؟
– قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
شاركتهما الحديث جارة مسنة، أتت إلى هذا المكان بعد إلحاح من الجميع، لاعتقادهم بأن المكان آمن، نوعاً ما.
– “زهراء” يا ابنتي، لقد أرسل لي أولادي سيارة لتخرجني من القرية، لكنني رفضت المغادرة، وفضلت البقاء في الضيعةّ، هذه الارض التي ارتوت بدماء زوجي قبل عقود، لن أبخل عليها بدمي. لم يعد في العمر بقية، وأشعر أننا وصلنا للنهاية. لن يكون هناك لقاء بيني وبين أولادي بعد اليوم. يا ابنتي، ليتك تقرئين لنا سورة ياسين، إنها تريح القلب، وتطمئن الروح.
ذلك الطفل ابن الأعوام الستة، تسلل من حضن أمه بهدوء، حتى لا يوقظها من غفوتها الخاطفة. اقترب من “زهراء”، وبصوت خفيض اختزل براءة الدنيا، ونظرات حائرة متسائلة. قال: “زهراء”. عمتي. متى سنعود لمنزلنا؟ اشتقت لوالدي. اشتقت لسريري وألعابي
امرأة أخرى. جلست ملتفة بعباءتها، التي لم تتخلَ عنها يوماً:
– لقد أردت البقاء في بيتي، وفكرت بأن أرفع راية بيضاء فوقه، ولكن لا. لا. لم أفعل، لن أعطِ أعداء الإنسانية تلك اللذة. بيتي في أطراف الضيعة. وأنا امرأة وحيدة – كما تعلمون – زوجي توفي، وابنتي الوحيدة مسافرة، شعرت بالرهبة والخوف، بعد أن غادر كل جيراني، فقصدت هذا المكان. ليحدث ما يحدث. يقولون يا ابنتي أن الموت بين الأهل والأصحاب كالنوم. أليس كذلك؟ لتكن مشيئة الله، فهو الحامي.
والدها. ذلك الرجل الستيني يتململ في جلسته، يقوم ثم يجلس. غيّر مكانه أكثر من مرة. يتمتم بكلمات غير مفهومة، وفجأة:
– أوووف. ما هذه الحالة.
– والدي! توكل على الله. هذه الحالة لن تدوم.
– أشعر بالضيق الشديد. الشباب يقاتلون، وأنا أجلس بين النساء.
– إن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
– سوف أخرج. لن أبقى هنا.
– إلى أين، والحالة كما ترى؟.
لم يستمع إلى “زهراء”، وغادر المنزل. المشهد في الخارج مرعب، ولكن الجلوس والانتظار لمن كان مثله مميت. هو والأرض صنوان لا يفترقان. جميع من في القرية لا يعرفه إلا زارعاً حاصداً.
ذلك الطفل ابن الأعوام الستة، تسلل من حضن أمه بهدوء، حتى لا يوقظها من غفوتها الخاطفة. اقترب من “زهراء”، وبصوت خفيض اختزل براءة الدنيا، ونظرات حائرة متسائلة. قال:
– “زهراء”. عمتي. متى سنعود لمنزلنا؟ اشتقت لوالدي. اشتقت لسريري وألعابي.
– حبيبي، كلنا سنعود. إنشاء الله سنعود لمنازلنا، وملاعب طفولتنا. سنهزم العدو ببراءتنا وقوتنا وشجاعتنا.
– أنا أعرف أن والدي يدافع عن الضيعة مع الشباب. والدي بطل، وأنا عندما أكبر سأكون مثله.
ضمّته إلى صدرها. قبلت رأسه بحنان.
– إنشاء الله. إنشاء الله.
استفاقت الأم من غفوتها:
– سألك عن والده. منذ بدء الحرب، وهو لا ينفك يسأل عنه. “زهراء”؟ هل ستكتب لنا الحياة، ونعود لنجتمع من جديد؟ ثم تلمست بطنها، وبابتسامة مرة، استشعرت تلك الحياة الجديدة التي بدأت تنبض داخلها.
– الله أعلم. وهو خير الحافظين.
نهضت “أم كريم” من مكانها لتتفقد ما بقي من طحين:
– لم يتبق لدينا الكثير، سأخبز الآن. ربما مرّ بنا أحد الشباب.
– سأساعدك. أتمنى لو يمر أخي.
وبهمتها العالية، واندفاعها الذي لا مثيل له، بدأت “أم كريم” بتحضير العجين. الموقد. الصاج، ولكن كان هناك من هو أسرع منها. بدأ قصف الطيران. وسرعان ما انهمرت القذائف الحارقة على البيت، فأصابت تلك الغرفة الواسعة، “المكتظة بمن فيها”، إصابات مباشرة. ومع انقشاع الدخان. لم يبق في تلك الغرفة من يخبّر. وحده دفتر الذكريات المشظى. حكى لنا بعضاً مما حدث. “زهراء”، زهرة الحقل المتفتحة للحياة. الشاخصة باتجاه النور، تحتضن مصحفها الصغير، يفوح منها عطر الجراح. “أم كريم”، أو “أم الأبطال”، لم يشفع لها قلبها الكبير، فخالط دمها الخبز والعجين. الصغير ما زال يتوسد ذراع أمه، يحلمان معاً بدفء البيت. بمساكب الزنبق، وبعودة الأب “الشهيد”. وتلك المرأة التي لم تفارقها عباءتها، ما زالت على جلستها، تسند الحائط برأسها المهشم. ربما تنتظر ابنة غائبة، علها تأتي لتلملم ما تبقى. أما من رفضت أن تغادر قريتها، فلقد صدق حدسها. سال دمها الطاهر فوق ترابٍ أحبّته حتى الشهادة. وها هو عكازها الممدد إلى جانبها وكيس أدويتها يدلان عليها. “أم هاشم”. سيشتاق الأحفاد لأقراص الكبة. “ترويقة” الصباح ستفتقد أقراص “الزلابية”، المعجونة بوصفتك الخاصة. الأبناء حُرموا مونة الشتاء والصيف. وربيع الضيعة سيفتقد جنى يديك.
***
أشلاء وجثث متفحمة، حوتها تلك الغرفة الواسعة، وراء كل منها حكاية لم تنتهِ. أحاديث انقطعت. قصص لم تكتمل. عجين لم يختمر. خبز لم يصل للشباب. عادوا جميعاً إلى ملاعب الطفولة والصبا. أرواحاً طاهرة بيضاء. هنيئاً لهم الشهادة. طوبى لمن كان موته.. حياة للآخرين.