سواء أكان ما يحدث في لبنان ذات طبيعة داخلية بحتة تستغله الولايات المتحدة لأهدافها الإستراتيجية، أو مخطط له مسبقاً، فإن المشهد يفضي إلى نتيجة واحدة، وهي خنق لبنان بكل الوسائل الممكنة، وخلق أكبر حجم ممكن من التأزيم على كل المستويات، المالية والإقتصادية والأمنية والسياسية، بالتوازي مع تنفيذ حملة دعائية إعلامية نفسية واسعة النطاق على وسائل التواصل الإجتماعي لضرب نفسية المجتمع وإضعافها لكي يصبح اللبنانيون متعطشين إلى أي خشبة خلاص، حتى لو أتت من عدو خارجي.
وليس أسهل في هذا الجو من “التفسخ النفسي” والبلبلة والضياع على مستوى الأفراد والجماعات، من الإمعان في دق مسمار “التطبيع” مع “إسرائيل” في أذهان شرائح واسعة من اللبنانيين، من دون الحاجة إلى الكثير من الطَرقْ!
في الأساس، هناك العديد من العوامل المساعدة: الإنقسام حول الهوية، تعدد الثقافات، اضمحلال تأثير الفكر والعقائد الوطنية اللاصقة لفسيفساء المجتمع اللبناني المتناثرة.. أضف إليها، راهناً، إرتفاع منسوب الفردية النفعية وغياب الحساسية إزاء قضايا جامعة ووطنية، ولعل مَثَل الفتاة التي صرخت على “الرينغ” في إحدى التظاهرات “أريد السلام مع إسرائيل” هو نموذج واضح لثقافة وسط لبناني ما تتبدل أولوياته. هذا مسار يدعمه تمدد “المجتمع المدني” – وهو مصطلح ومفهوم مستهلك في الإنقسام اللبناني على كل المفاهيم والمصطلحات – ومنظماته المتناسلة كالفطر والتي تخترع لها عناوين ومطالب شتى للحصول على الدعم المالي من المانحين الخارجيين، وكله في سياق ضرب مفهوم الدولة الوطنية وجعل المنظمات المرتبطة بالخارج، ثقافة وفكراً ومصلحة مادية وآليات عملية، هي البديل لتنفيذ “أجندات” الخارج وليس الأهداف الوطنية. وبالتالي، وفي ظل اختراق إسرائيلي كبير للوعي العربي بالتشجيع على “التطبيع”، ليس من المفاجئ أن نرى بعد فترة تصاعد أصوات في لبنان تدعو إلى السلام مع “إسرائيل” وتطبيع العلاقات معها، وليس خافياً أن هذه الأصوات أصلاً موجودة في بيئات طائفية وسياسية متعددة.
الذرائع كثيرة وبعضها قد يبدو مقنعاً في الشكل، كعدم استمرار لبنان في دفع فواتير غيره في الصراعات الإقليمية، ووقف استخدامه “ساحة لتمرير الرسائل”، والإلتحاق بركب الدول “التي صالَحتْ” وانتظار “غودو” الإزدهار الإقتصادي للسلام الموعود، فضلاً عن تراث الدعاية القومجية للأنظمة السلطوية في العالم العربي، التي حولت بطريقة تقديم دعايتها السياسية ضد “إسرائيل”، المواجهة معها شعاراً فولكلورياً في أحيان كثيرة وانقلبت إلى مرادف للعجز والإخفاق.
إذا كان مطلوباً من لبنان أن يخضع لمطلب “السلام”، ينبغي تدمير دوره الوظيفي الإقتصادي التاريخي الذي نظَّرت له نخبته المؤسسة اقتصادياً وسياسياً وفكرياً. على لبنان أن يهرول لطلب السلام من عدوه من دون رداء يستر عورات ضعفه البنيوي وتحالفه مع الفساد السياسي
وإذا كان مطلوباً من لبنان أن يخضع لمطلب “السلام”، ينبغي تدمير دوره الوظيفي الإقتصادي التاريخي الذي نظَّرت له نخبته المؤسسة اقتصادياً وسياسياً وفكرياً. على لبنان أن يهرول لطلب السلام من عدوه من دون رداء يستر عورات ضعفه البنيوي وتحالفه مع الفساد السياسي: مرفأ عاصمة لبنان مدمر؛ وضع اقتصادي وإجتماعي كارثي؛ مصارف مُفلِسة بسبب جشع أصحابها؛ انقسامات سياسية حادة؛ كسر ما كان يُصنف في خانة “التابوهات” (شيطنة رموز سياسية ودينية وتعليق صورها على المشانق غداة إنفجار مرفأ بيروت)؛ محاصرة حلفاء حزب الله وتحديداً التيار الوطني الحر بالترهيب الإعلامي والمادي (من ضمنها العقوبات).
يكفي أن يراقب اللبناني تلك المسارَعة لتعزيز التعاون بين شركة “موانئ دبي العالمية” الذراع الإقتصادية والتقنية الطويلة للنفوذ الإماراتي – والتي يسجل لها نشاط واسع في دول القرن الإفريقي في مواجهة التوسع التركي الأخواني القطري – وبين السلطات الإسرائيلية المعنية وسعي الشركة لتطوير مرفأ حيفا، وإنشاء خدمة الشحن المباشر من ميناء جبل علي في دبي إلى ميناء إيلات في “إسرائيل”، حتى تزداد الهواجس اللبنانية المقلقة. الحلم الإسرائيلي أن يتم العمل على شق شبكة مواصلات للقطار تمتد من الخليج العربي إلى شواطئ المتوسط، تربط بين دول محور “السلام” وتغير في المشهد الجيواستراتيجي في الإقليم، كما حلم شيمون بيريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”.
وفي شرق المتوسط، تحولت “إسرائيل” إلى ركيزة محورية في أهم وأكبر تحول على صعيد الطاقة في شرق المتوسط، من خلال مشروع مد أنبوب الغاز إلى أوروبا، على قاعدة الشراكة مع قبرص واليونان ومصر (منتدى الغاز).
إزاء هذا التدمير المُمنهج للوظيفة التاريخية للكيان اللبناني، عدا كونه مساحة لتجمع أقليات دينية وجدت فيه مساحة للتنوع والحرية واحترام الآخر، في أن يشكل جسراً للترانزيت والتجارة والتواصل والتبادل بين الغرب والمنطقة العربية، ماذا يبقى من فائدة لخيار التطبيع اللبناني مع “إسرائيل”؟
يُطرح السؤال ليس من زاوية عقائدية أو إنسانية في مواجهة عدوان “إسرائيل” وتوسعها، بل من باب المصلحة البحتة والعقلانية، أولاً.
كان قيام دولة “إسرائيل” والتحول عن التعامل العربي مع ميناء حيفا عاملاً أساسياً من عوامل تعزيز دور مرفأ بيروت عربياً وإزدهار وظيفة لبنان التي نظَّر لها “الآباء المؤسسون”، وبالتالي فإن هذا التحول الخليجي الذي نشهده اليوم سوف يمعن في تهميش دور لبنان الإقتصادي التقليدي.
وتزداد حدة السؤال الإشكالي وأكرر “المصلحي” حول السلام مع “إسرائيل”، مع مراقبة مدى استفادة دول مشابهة لحال لبنان كالأردن من هذا السلام على الصعيد الإقتصادي، إذ لم يمنحه الصلح لا المساعدات ولا المن والسلوى المشتهيين.
مفكرو المسيحيين كميشال شيحا وقياداتهم الدينية كالأب بولس عبود كانوا رياديين في التحذير من مخاطر الفكرة الصهيونية ليس على فكرة لبنان المتنوع بل أيضاً على دوره الإقتصادي، وها هي تنبؤاتهم تصبح حقيقة ساطعة
إن انهيار النموذج اللبناني، المالي والإقتصادي، معطوفاً ومترابطاً مع إعادة صياغة الواقع الإقليمي على ركيزة محورية “إسرائيل” وترسيخ اختراقها، هذه المرة في الوعي كما في الإقتصاد، من المفترض أن يكون دافعاً لنقاش كياني ومصيري حول خيارات لبنان وتوجهاته. سؤال المصلحة مع “إسرائيل” يقود إلى جواب الاستسلام وتدمير أكبر لأي إمكانية مفترضة لدور اقتصادي مستقبلي. تسبقنا “إسرائيل” وتنافسنا في الكثير من المجالات التي يتغنى بها لبنان ويفكر بالإرتكاز عليها لتنويع خياراته الإقتصادية، في التكنولوجيا والزراعة والبحث العلمي والسياحة، وبالتالي لبنان في خيار “السلام” معها سيأتي عارياً مُجرداً من أي نقاط قوة.
أحد أهم جوانب هذا النقاش الإشكالي، هو التساؤل عن دور المسيحيين اللبنانيين الذين كانوا قاطرة تأسيس هذا الكيان، وصناعة أساطيره المؤسسة بما فيها المالية والإقتصادية انطلاقاً من نهضة جبل لبنان الإقتصادية والتعويل على دور مرفأ بيروت، درة شرق المتوسط، خاصة في تعزيز ركائز الدعم الإقتصادية للكيان الوليد. مفكرو المسيحيين كميشال شيحا وقياداتهم الدينية كالأب بولس عبود كانوا رياديين في التحذير من مخاطر الفكرة الصهيونية ليس على فكرة لبنان المتنوع بل أيضاً على دوره الإقتصادي، وها هي تنبؤاتهم تصبح حقيقة ساطعة! هذا المكون الذي لا يمكن أن يشكل قيمة مضافة في هذا الشرق إلا بمدى تقديمه فائدة للنخب الحاكمة، هو اليوم مدعو إلى قيادة مشروع استراتيجي وحضاري للبنان الغد، وإبعاده عن مشاريع “التطبيع” و”السلام” والتفتيش عن خيارات في جانب جغرافي آخر، لا انطلاقاً من أية أبعاد عقائدية أو “مسايرة” للبعض، بل من زاوية المصلحة النفعية بأقصى درجاتها البراغماتية، وحفاظاً على ما تبقى من دور اقتصادي للبنان.. وطبعاً لمناسبة ذكرى مئويته الأولى. وللنقاش تتمة..